بين جبهتين

التجارية ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٨م

جعفر حمزة*

كانت تلبس الكوفية الفلسطينية، ولم تكن تضع مساحيق التجميل وكل ألوان الطيف، فكانت بسيطة المحيا، متواضعة الصورة
عفوية، مباشرة، فأخذتها بين يدي، لتكون لباساً لي. وكان المجمع التجاري هو موطن اللقاء، وذلك في إحدى المحلات، كانت “تي شيرت” بسيط التصميم، ويحمل فكرة واضحة من خلال طباعة صورة الكوفية الفلسطينية على جهة الصدر، وخياطة الجزء الباقي منها، وكأنها معلقة على لابس “التي شيرت”. شدني التصميم وأذهلني بلد التصنيع، فلم تكن دولة عربية ولا حتى إسلامية. بل كانت دولة أوروبية “البرتغال”.
وما هي إلا خطوات من المحل ، حتى التقيت بأخرى، وهذه المرة ليست “تي شيرت”، بل تصميم لتزيين المحل، حيث تم وضع شكل نجمة في المحل بواجهته وداخله، وكان باستخدام الخط العربي، وهذا اللقاء لم يكن يلفت نظري لولا الكلمات المكتوبة فيها. وهي آية قرآنية كريمة، وقد تم وضعها معلقة داخل المحل، وعلى واجهته وبالخلف “موديلات” لمجسمات نساء يلبسن القصير من الثياب. وبعبارة أخرى تم وضع الآية في مكان لا يناسبها أولاً، وتمثل نوعاً من الاستخفاف -ربما غير المقصود- بها ثانياً.

وبين صاحبة الكوفية، ونجمة الآية القرآنية، تتشكل جبهتان، ساحة حربهما العقول والجيوب، وخط المواجهة واجهات المحلات، وكل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة والمبتكرة مستقبلاً، والجنود في الصفوف الأمامية وكالات الإعلان، وفي الصفوف الخلفية أصحاب الماركات وموظفيها وصانعيها من جهة، والأعراف والتقاليد والسلوكيات المجتمعية وهوية المجتمعات والمقدسات والمحرمات من جهة أخرى.

وتلكم الجبهتان هما جبهة الماركات، والأخرى جبهة المجتمعات. وقد ظهر هذا النوع من الطرح عندما توسعت الماركات لتصبح جزء من حياة الفرد اليومية، وكنتيجة طبيعية للترويج وصناعة الهوية الخاصة بالماركات وتقديمها للمجتمع، لا بد في وقت ومكان وظرف معين أن تتعارض تلك الماركة في هويتها مع الجو العام والهوية للمجتمع المستقبل لها، إذ لا يمكن الاعتماد على شهرة الماركة أو هويتها “المعولمة” دون الإلتفات إلى الجمهور المخاطب، وخصوصاً ذلك المعتز بثقافته وهويته المحلية.
وبين شد وجذب بينهما “الماركات والمجتمعات” تبرز أهمية الحديث عن ملامح الجبهتين، مع التأكيد أن لا بوادر أكيدة لانتصار أحد الطرفين على الآخر، وما هو حاصل سوى انتصار في جولات فقط لا غير.

وقد وصلت القوة بالماركات إلى درجة تقديم نماذج لسلوك جديد ورؤية جديدة للفرد في العديد من المجتمعات، بل واستنساخها بنكهات مختلفة، لتكون النتيجة تأثر بهوية الماركات، واتباع الأفراد لها في المجتمعات، ولتتحول إثر ذلك إلى جزء مهم من جسم المجتمع، بل ويبات عرفاً يتعايشه الناس كل يوم.
فالعديد من موضات اللباس، الرجالي أو النسائي -على سبيل المثال- دخلت ضمن تركيبة السلوك اللباسي للرجل والمرأة، حتى أصبح غير ذلك النموذج “مهمشاً”، ولا قوة حضور له في المجتمع.

تعمل الكثير من الماركات على خلق أجواء وبيئات يعيشها الأفراد، ليتحولوا إلى وحدات استهلاكية في ما يعيشونه، وفيما يتلقونه من رسائل مكثفة ومتواصلة. بل يصل الأمر إلى تشجيع السلوكيات الشاذة في المجتمع، ما دامت تشكل مورداً كقوة استهلاكية جيدة لها، وعلى سبيل المثال، ذكرت أبحاث من شركة الكحول الأمريكية “كورس بريوينغ كومباني” بأن مستهلك الكحول الشاذ جنسياً يشرب ضعفي المستهلك العادي من الكحول، ومثل هذا الأمر معناه لزوم توسعة قاعدة الشواذ في المجتمع الأمريكي، لتزداد أرباح شركات الكحول من حال الاستهلاك المضاعف من قبل الشواذ للكحول، ويتم ذلك من خلال استصدار قوانين لهذه الفئة في المجتمع، فضلاً عن إفساح الإعلام لهم للتعبير عن أنفسهم. وبالتالي تتحول ظاهرة سلوك اجتماعي شاذ إلى واقع يجب التعايش معهم، وذلك عبر عمل كبرى الشركات لإظهارهم ومنح الحضور الملموس لهم، بغية جني الأرباح من وراء ذلك.



وعندما نتحدث عن وجود جبهتين هما الماركات، والمجتمعات، لابد من رسم مناطق الحركة بينهما. والتي يمكن تقسيمها على النحو التالي:
المنطقة الحمراء: وهي تلك القيم والرسائل من ماركات تمس قيم ومقدسات وثوابت المجتمعات، لتتحول هذه المنطقة إلى مواجهة حدية بين الطرفين “الماركة والمجتمع”. وسواء كانت تلك الماركات في أصلها تواجه المجتمع كالمشروبات الكحولية أو الترويج لبضاعة معينة عبر الاستهانة بقيم المجتمع، أو من خلال بلد منشأها الذي يتخذ مواقف سلبية تجاه مقدسات مجتمع معين كالدنمارك، مثلاً، فالكثير من منتجات الأغذية تمت مقاطعتها-ولو نسبياً- نتيجة قضية الرسوم المسيئة للنبي الأكرم (ص).
المنطقة الخضراء: وهي الماركات التي تقدم منتجاتها وخدماتها بما يتناسب مع المجتمع في مقدساته وثوابته وهويته، كالمنتجات الغذائية الإسلامية، والأجهزة الإلكترونية الخاصة بمجتمع معين. على سبيل المثال ساعات خاصة لتحديد اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.، فضلاً عن بقية المنتجات التي تتعلق باللباس للمرأة المسلمة، أو تلك التي تبيع ما يتوافق مع تراث وتقاليد المجتمع كالثوب العربي أو الساري الهندي.

المنطقة الرمادية: هي المنطقة التي تتقرب فيها الماركات نحو المجتمع، عبر تقديمها لمنتجاتها بنكهة محلية، لتعطي الطابع الخاص للمجتمع. مثل الكثير من منتجات الأغذية لماركات غربية تقدم منتجاتها على أنها “حلال”، بالإضافة إلى تقديم بعض من منتجاتها بصيغة محلية، كمنتج لماكدونالدز بالخبز العربي. وغيرها الكثير.

المنطقة الوردية:وهي التي تعلن فيها الماركات هويتها الحقيقة وبصورة مباشرة، عبر تقديم منتجاتها بالصور المبرمجة التي تود ترسيخها وإعلانها في المجتمع. وهو حال معظم الماركات الموجودة حالياً.

المنطقة المحايدة: وهي تلك التي تقدم منتجاتها وخدماتها بعيداً عن أي هوية قد تمس المجتمع، وهي تأتي ضمن سياق تطور عام في البشرية من خلال استخدامها للتقنية الحديثة. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الاتصال الحديثة، والسيارات وبرامج الكمبيوتر العامة.

ويمكن أن يكون جزء من المنطقة المحايدة ذو لون معين، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “إل جي” الكورية الجنوبية للإلكترونيات أنها طرحت تلفزيوناً جديداً في أسواق الشرق الأوسط مثبت عليه نصوص قرآنية رقمية.فهنا تحولت الماركة في جزء منها إلى المنطقة الخضراء.

وأكثر المناطق اتساعاً هي المنطقة الوردية، لتشكل قوالب بصرية جاهزة للطرح في المجتمعات لكسب سلوك شرائي متواصل لها.

وتمثل تلك القوالب بمثابة مغناطيس ضخم يجذب إليه كل من لديه معدن القابلية لاتخاذ نموذج له من الماركات (اللباس، الأكل، أسلوب المعيشة بصورة عامة).

ويمكن للمجتمعات أن تقوم بتوسعة دائرة المنطقتين الخضراء والرمادية، وتحجيم الحمراء والوردية، وذلك لكي يكون المجتمع بأساساته وقيمة وهويته هو من يرسم ويقنن ويجعل من الماركات تتحرك نحو المنطقة الخضراء قدر الإمكان.

وتسعى الكثير من الماركات لتوسعة المنطقة الوردية لكسب ولاء أكثر من الأفراد ، ليس لشراء منتجاتها فقط، بل والتفاعل معها والعيش معها بشخصيتها وهويتها، وما يتبع ذلك من ضخ للملايين إلى محفظة تلك الماركات.

ويبقى الصراع بين الجبهتين مستمراً، بين شد وجذب، بين توسعة لمنطقة وتحجيم لأخرى، وأما مقولة تحويل الأفراد في المجتمعات البشرية إلى عناصر مستهلكة مكررة تحت راية العولمة، فهي ليست دقيقة البتة، فهناك الكثير من المجتمعات التي تشكل الماركة في ترويجها وهويتها نوعاً ما بالطريقة التي تناسبه، ولا ننسى أن الأمر يتعلق في الأخير بتقديم المنتج أو الخدمة لقضاء حاجة عند الفرد، لتكسب الماركة “مستهلكاً” يدفع قيمتها.
وبين تلك الجبهتين، يمكن للعديد من الماركات المحلية الاستفادة من المنطقة الخضراء وتوسعتها، ويمكن للماركات العالمية الدخول في المنطقة الرمادية، وذلك للتقليل من حدة المواجهة بين المجتمعات والماركات.
وما زال الوقت كافياً للمضي في توسعة المنطقتين الخضراء والرمادية، عبر الرجوع إلى المواد الأولية من المنطقة المحايدة لا لتغليب جبهة على أخرى، بقدر ما نصل إلى توازن معقول بينهما.

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

Leave a Reply