عرفني ففكر وسبقني فابتكر

جعفر حمزة*

كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.

إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.

تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)

ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.

ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)

ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.

ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
“مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)

ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.

(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman

Leave a Reply