المبرمج وصاحب الذرة 4

جعفر حمزة*

التجارية ٢٠ أغسطس ٢٠٠٨م

كنتُ أفكر في طريقة أسهل لوصف عنوان منزلي للمطعم الذي طلبت منه العشاء في تلك الليلة، ولم يكن بالأمر العسير على المطعم। سألني المطعم “نريد رقم المنزل والطريق فقط لا غير”، فذكرت له العنوان، وتوقعت أن تصل الطلبية بعد وقت طويل، إلا أن المفاجئة هي أن الطلبية أتت في دقائق معدودات عند باب البيت। ودفعني فضولي لسؤال موصل الطلبية عن كيفية معرفته لعنوان المنزل بهذه السرعة دون وصف تفصيلي، والذي أقدمه كالعادة. فقال “سيارة الطلبية مركب فيها نظام الجي بي إس”.

ويمثل ذلك دلالة على تحرك سريع وملحوظ في العديد من الأعمال التي تنطوي تحت مسمى “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” “إس إم إي”، والتي تحاول أن تكون في موقع متقدم للزبائن، نتيجة اشتداد المنافسة وتوسع الأعمال وتداخل الفئات المستهدفة من المنتج أو الخدمة، وبالتالي لا يكون الحديث حول إمكانية فتح مشروع ما بقدر استمراره وتوسعه. وما ذكري لهذه الملاحظة إلا تلميح إلى تلك المشاريع الصغيرة والمتوسطة في مجتمعنا والتي “تنبت” من قلب المجتمع -حيث طلبت العشاء من مطعم محلي-। والذي يُعتبر وجودها أمراً ضرورياً، بل لا بد منه في خضم التوسع الاقتصادي والمنافسة في السوق، ونرى أهمية متصاعدة للتطرق إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودورها في رفد الاقتصاد الوطني بطاقة متجددة। وعند الخوض في هذا الموضوع لا بد من طرح الحقائق والتحديات، وخصوصاً في اقتصاد “فتي” يمتلك الكثير من المؤهلات للنهوض بنموذج متميز إن تعدّى الأمر سن القوانين إلى تنفيذها والانتقال من دائرة “التصريح” إلى دائرة “التفعيل”، والتي نعتقد أنه بالإمكان فعل ذلك بوجود إرادة سياسية وخطة اقتصادية وعمل جماعي.

فما هي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟ تعتبر المؤسسة صغيرة إذا كان عدد العاملين فيها يتراوح بين 5-19 موظفاً، وتعتبر متوسطة إذا كان عدد العاملين فيها يتراوح بين 20-99 موظفاً[١]।
ويُعد العامل الرئيسي في تصنيف المؤسسات في حجمها هي أدوات كمية كعدد العاملين، وأصول المؤسسة وحجم المبيعات ، وذلك أمر واقعي نوعاً ما، بالرغم من تجاهل الأصول الكيفية المتمثلة في الملكية الفكرية (براءات الاختراع، التصميم الصناعي، الأسرار التجارية).

ما الذي يجنيه المجتمع من وجود تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟
تواجد ذلك التنوع من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في أي مجتمع، يمثل “رئة صحية” للواقع الاقتصادي، فهي بمثابة الأشجار التي تنظف الجو وتمده بالأكسجين اللازم من أجل بيئة صحية معافاة।
فما الذي تقدمه تلك “الرئة” للواقع الاقتصادي للمجتمعات؟

أولاً: مع تعدد تلكا لمؤسسات في شتى المجالات، تكبر مساحة الخيارات لدى المستهلك في الإنتقاء والاختيار من بينها، وتنجح المشاريع التي تفهم ما يريده المستهلك وتمازجه مع هامش الربح التي تنشده

ثانياً: تمثل تلك المؤسسات مرفداً عملياً و”ورشة عمل” لفئتين، هما أصحاب المؤهلات وغيرهم। وذلك عبر تطوير مهاراتهم واكتساب الخبرات، ومن ثم الانتقال إلى المستوى الاحترافي الأكبر في المؤسسات الكبيرة। أو البقاء في تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والنمو فيها والتوسع مستقبلاً।

ثالثاً: كلما زادت عدد تلك المشاريع والمؤسسات زادت مساحة المنافسة، وبالتالي يتم الرهان على الإبداع والابتكار في المشاريع لضمان التفوق في المنافسة، وهو ما يندرج تحت “الملكية الفكرية”، والتي تتضمن “براءات الاختراع، العلامات التجارية، التصميم الصناعي، حقوق المؤلف، الأسرار التجارية”

هل هناك ميزات معينة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البحرين؟ عند الحديث عن تلك الموسسات، يجب الأخذ بعين الاعتبار “خصوصية” كل مجتمع “حاضن” لتلك المؤسسات، فما الميزات التي تتمتع بها تلك المؤسسات في المجتمع البحريني؟

أولاً: نتيجة لصغر المساحة الجغرافية للبحرين، فهي تعتبر ميزة لخلق “شبكة اجتماعية” تمثل قاعدة معلومات للزبائن، وذلك عبر الأقارب والأصحاب والجيران والمعارف، واللذين بدورهم ينقلون “تجربتهم الخاصة” لتلك المؤسسات إلى الآخرين، وهكذا تتشعب العلاقات وتكبر نتيجة التجارب الشخصية المعتمدة على الشبكات الاجتماعية।
ثانياً: ميزة جغرافية أخرى تتمثل في إمكانية توسيع وتلبية الطلبات وتغطيتها।
ثالثاً: توافر التقنية يمثل ميزة إن تم استخدامها بالطريقة الصحيحة، فهي موجودة، لكن يبقى السؤال في استخدامها في تطوير العمل وتوسعته وبقاءه بقوة (كحال صاحب المطعم مع “جي بي إس”)।
رابعاً: ما يزيد من عدد المؤسسات هو تنامي الحركة الاقتصادية في البلد، ومن ضمنها العقارات والتي شكلت نوعاً من “الهَوَس” المبالغ فيه في هذه الجزيرة الصغيرة، وبالرغم من التحفظات الكثيرة على ذلك النوع من الحركة العمرانية ، إلا أنها شكلت مصدراً غنياً لتنامي عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المجالات ذات العلاقة. فضلاً عن تزايد عدد السكان وزيادة حركة السياح. بالإضافة إلى تغير السلوكيات الشرائية للناس، حيث تشكل “حافزاً” للبدء بمشاريع صغيرة ومتوسطة تلبي وتُشبع رغبة تلك السلوكيات.
ومع وجود تلك الميزات، إلا أن التحديات ما زالت ماثلة أمام من “ينوي” أو “يعمل” أو “يطور” مشروعه। وما تلك التحديات بجديده في أي مجتمع في دولة نامية، ومع ذلك تمثل بعضها “خصوصية” للبحرين دون غيرها، فما هي التحديات التي “تقلّم” أجنحة تلك المؤسسات وتمنعها عن الطيران؟

أولاً: قابلت الكثير من الأخوة والأخوات ممن لديهم الفكرة “الجهنمية” كما يقولون، للدلالة على الفكرة الناجحة والمميزة، حتى أن بعضهم قد درس السوق المنافسة وتعب على المشروع من ناحة نظرية على الورق، إلا أن العامل المادي “الميزانية” تقف ك”فزّاعة” تطرد كل طيور الأمل لدى صاحب الفكرة. ومن هنا ينبغي الوصول إلى حل عملي لهذه المشكلة، وذلك من خلال الاستفادة من المتوفر من خيارات والخروج بأقل الخسائر الممكنة. ويمثل بنك البحرين للتنمية وصندوق العمل خيارين جيدين، إلا أنهما وحيدين في الساحة، حيث يلزم توافر خيارات تمويلية أخرى من البنوك ليكون “مشروعاً وطنياً” يرفد أصحاب المشاريع بقروض تنافسية جيدة وواقعية. وستكون النتيجة النهائية لصالح الجميع دون استثناء من ضمنهم البنك الممول، حيث سيحصل بالإضافة إلى رأس المال المدفوع على هيئة قرض ميسر على زبائن جدد “الموظفين في المؤسسة التي تم تمويلها وتقديم القرض لها”.

ثانياً: قد يُسعف البعض بوجود رأس مال “محترم” ونية للبدء بمشروع صغير أو متوسط، إلا أن ما ينقصه ضمن مثلث المشروع (المال، الخطة، التطوير)، هو غياب الضلعين الآخرين (الخطة والتطوير)، وبالتالي ضياع الضلع الأول أيضاً (رأس المال)। وذلك الضعف في الاستراتيجية التسويقية والإدارية يجعل الكثير من المشاريع تأفل بسرعة.
ولعلاج هذا التحدي يلزم الاستفادة من الخبرات المحلية المتوفرة، فضلاً عن الخدمات التي يمكن أن تقدمها بعض الجهات (غرفة تجارة وصناعة البحرين، وزارة الصناعة والتجارة، بنك البحرين للتنمية، صندوق العمل)।

ثالثاً: بما أن هناك العديد من المشاريع تنطلق من دائرة المجتمع الصغير “العائلة أو القرية” ، فإنها ترتبط بصورة كبيرة بالتشجيع أو التحبيط من تلك الدائرة। ويتم الحديث هنا عن العقل الجمعي للمحيط، ولا يمكن طرح حلول لها هنا، فهي نتاج تراكمات وتربية وعقلية يمارسها المجتمع ويتخذها سلوكاً له،، وتتحكم فيها الكثير من العوامل، وعلى الأقل يمكن التطرق إلى فهم المحيط ومتطلباته وتحويل التحبيط إلى عامل حفاز لنجاح المشروع

رابعاً: عدم الأخذ بالأدوات الجديدة في التسويق، فضلاً عن إغفال الجانب التقني في تسيير الأعمال مع وجود منافسة لن تبقي للمتخلف عن الركب الظفر بنسبة واحد في المئة من الربح في السوق.

خامساً: غياب ثقافة الملكية الفكرية، والتي تحفظ مرتبة كل مشروع وتجعله متميزاً عن غيره، سواء من قبيل ابتكار أدوات جديدة في الخدمة أو ما يدخل ضمن حقوق الاختراع أو العلامات التجارية والابتكار। وضرورة معرفة جوانب الملكية الفكرية تطبيقاً واستفادة، وخصوصاً مع تزايد المنافسة، ودخول الشركات الأجنبية وخصوصاً الأمريكية على خط المنافسة، بعد اتفاقية التجارة الحرة “إف تي أيه”।
ويمكن توجيه السؤال هنا إلى وزارة الصناعة والتجارة والدور الذي تقوم بعه في توعية وإشراك أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لإدراك أهمية الملكية الفكرية في تطوير وحفظ مشروعاتهم، خصوصاً مع وجود هذه الثقافة أو الأداة في يد كبريات الشركات المحلية، وتواجدها منذ البداية في استراتيجية الشركات الأجنبية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة على حد سواء।
فهل هناك وعي عملي ملموس بمثل هذه الحقوق والآليات لدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومن هو داخل في هذه المهمة؟
ومع كل الذي قلناه من مزايا وتحديات تبقى البيئة الاقتصادية البحرينية المحلية مهيأة لظهور مشاريع ناجحة، مع وجود حركة استثمارية عامة نشطة في البلاد، وتوسع في خدمات شبكات الإنترنت، والتي ستكوت رافداً مهماً وعصباً رئيسياً للكثير من تلك المؤسسات في المستقبل القريب جداً، فضلاً عن توافر التقنيات الحديثة في متناول اليد، والتي تجعلها “بذرة” جيدة للزراعة في سوق مكتظة، يمكن لبائع “الذرة” أن يجد له مكاناً يبيع فيه، كما يمكن لبائع البرمجيات أن يجد له زبائن أيضاً.

(١)
Information International 2001

*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

4 thoughts on “المبرمج وصاحب الذرة

  1. أكبر Aug 22,2008 9:31 am

    مقال يضع نقطة تأمل على الوضع الاقتصادي المحلي

  2. أكبر Aug 22,2008 11:50 am

    مقال فيه نقطة تأمل حول المسألة الاقتصادية المحلية والخارجية ولتوسيع نقطة التأمل في المسالة سوف احاول أن اضع بعض النقاط التي قد تكون منطلق للكثير من المواضيع المحلية ، هناك فكرة كانت تراوني وهي مسألة الاقتصاد المحلي أو ما يسمى ب ” اقتصاد القرية ” وهي مهمة المجتمع المدني مقابل ما تقوم به الدولة من عملية التنمية المستدامة ، ويتأكد دور المجتمع المدني عند تغاضي أو تجاهل وحتى تعمد الدولة في الالتفات الى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ، بأمكان مؤسسات القرية أو المجتمع المحلي من توجيه كل الامكانيات والطاقات المحلية الى عملية انتاجية محلية ، حتى الآن في مستوى القرية ومع تعدد المؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة لم نسمع عن جمعية تضم رؤساء هذه المؤسسات أو حتى اجتماع بسيط يتم فيه تناقش افكار تطورية تفيد المجتمع المحلي من الناحية الاقتصادية وهي مهمة ليست بصعبة مع وجود المؤهلات والخبرات الكبيرة ، ثم لم نسمع عن تبني مؤسسة من مؤسسات المجتمع المحلي في تبني فكرة دعم المؤسسات الصغيرة أو حتى وضع خبراتها في خدمة المجتمع لمن يريد البدء في استثمار محلي أو خارجي مع ان هناك من المؤسسات من تمتلك الخبرات والموارد المالية الكبيرة التي تستطيع من خلالها ان تتبنى هذه الخطة ، كما لم نسمع في قرية صغيرة من يضع دراسة شاملة للاقتصاد المحلي وكيفية تطويره وتنمية ، دراسة تضع خطط عريضة وتفصيلية عملية تطويرية لاقتصاد قرية ، لا يمكن ان ان هناك تجارب سابقة لم تنجح على مستوى الحاجات والضغوطات الاقتصادية الكبيرة التي تواجة الواقع بأكملة ، ماذاينقصنا حتى نفكر في استراتيجية لاقتصاد القرية فالامكانيات المالية متوفرة والموارد البشرية والخبرات العملية متوفرة ؟؟؟ ماذا ينقصنا حتى نفكر بوعي في اقتصاد قرية تعداد سكانها ما يقارب 9000 أو اكثر ؟؟؟ هل ما نقصنا هي الارادة الصادقة والنية الحقيقية في رفع مستوى الاقتصادي على مستوى القرية ؟؟ أم مانيقصنا من الناحية الاجتماعية التكافل والتعاون والتكاتف في تنمية اقتصادياتنا المحلية …هي مجموعة من التساؤلات التي لا تريد اجابة بقدر أنها تريد دراسة مستوفية للواقع الاقتصادي المحلي وكيفية تطويرة وبالشكلة الذي يثبت في مواجهة التحديات الاقتصادية الحديثة …..

  3. AKBAR ASHOOR Aug 22,2008 11:56 am

    مقال فيه نقطة تأمل حول المسألة الاقتصادية المحلية والخارجية ولتوسيع نقطة التأمل في المسالة سوف احاول أن اضع بعض النقاط التي قد تكون منطلق للكثير من المواضيع المحلية ، هناك فكرة كانت تراوني وهي مسألة الاقتصاد المحلي أو ما يسمى ب ” اقتصاد القرية ” وهي مهمة المجتمع المدني مقابل ما تقوم به الدولة من عملية التنمية المستدامة ، ويتأكد دور المجتمع المدني عند تغاضي أو تجاهل وحتى تعمد الدولة في الالتفات الى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ، بأمكان مؤسسات القرية أو المجتمع المحلي من توجيه كل الامكانيات والطاقات المحلية الى عملية انتاجية محلية ، حتى الآن في مستوى القرية ومع تعدد المؤسسات التجارية الصغيرة والمتوسطة وحتى الكبيرة لم نسمع عن جمعية تضم رؤساء هذه المؤسسات أو حتى اجتماع بسيط يتم فيه تناقش افكار تطورية تفيد المجتمع المحلي من الناحية الاقتصادية وهي مهمة ليست بصعبة مع وجود المؤهلات والخبرات الكبيرة ، ثم لم نسمع عن تبني مؤسسة من مؤسسات المجتمع المحلي في تبني فكرة دعم المؤسسات الصغيرة أو حتى وضع خبراتها في خدمة المجتمع لمن يريد البدء في استثمار محلي أو خارجي مع ان هناك من المؤسسات من تمتلك الخبرات والموارد المالية الكبيرة التي تستطيع من خلالها ان تتبنى هذه الخطة ، كما لم نسمع في قرية صغيرة من يضع دراسة شاملة للاقتصاد المحلي وكيفية تطويره وتنمية ، دراسة تضع خطط عريضة وتفصيلية لعملية تطويرية لاقتصاد قرية ، كان هناك تجارب سابقة لم تنجح على مستوى الحاجات والضغوطات الاقتصادية الكبيرة التي تواجة الواقع بأكملة ، ماذاينقصنا حتى نفكر في استراتيجية لاقتصاد القرية فالامكانيات المالية متوفرة والموارد البشرية والخبرات العملية متوفرة ؟؟؟ ماذا ينقصنا حتى نفكر بوعي في اقتصاد قرية تعداد سكانها ما يقارب 9000 أو اكثر ؟؟؟ هل ما ينقصنا هي الارادة الصادقة والنية الحقيقية في رفع مستوى الاقتصادي على مستوى القرية ؟؟ أم مانيقصنا من الناحية الاجتماعية التكافل والتعاون والتكاتف في تنمية اقتصادياتنا المحلية …هي مجموعة من التساؤلات التي لا تريد اجابة بقدر أنها تريد دراسة مستوفية للواقع الاقتصادي المحلي وكيفية تطويرة وبالشكل الذي يثبت في مواجهة التحديات الاقتصادية الحديثة …..

Leave a Reply