صلاة “غوتشي” 1

جعفر حمزة*

التجارية ١٣ أغسطس ٢٠٠٨م

شدتنّي بالرسم الموضوع عليها، فكانت بيضاء وما زاد بياضها وشمٌ أسود، فلا عتب على الناظر إن تأمل فيها ونظر، وكانت من بين أخريات “عاديات”، فهي “المُلفتة” -على الأقل بالنسبة لي-، فاقتربت بُغية “التعرّف” عليها، فصافحتها بيدي، فكانت رقيقة وخفيفة، فطمعت أكثر، فنظرت إلى ذلك الرسم، وتعجبت، أنّى لها بذلك الرسم لماركة معروفة، وتضعه عليها وتُعلنه؟

قلبتُ تلك “الشيلات” الموجودة على الرف في سوق “شعبية” بالسالمية في الكويت، تراءى لي العديد من تلك “الموديلات”، بين “شيلات” و”حجاب” و”ثياب نسوية محتشمة”

، فما الرسالة من وراء ذلك؟ وهل “تلتفت” تلك الماركات العالمية إلى السوق المحلية، سواء المسلمة أو غيرها لتقدم “المنتج الثقافي المحلي” بعلامة جودة ماركة عالمية؟ وهل يمثل “التقرب” الذي تقوم به تلك الماركات خطوة سُتضيف لها الكثير في ميزانيتها التي تُعد بالملايين بل أكثر؟

غني عن القول أن الماركات العالمية لا تصل إلى صورتها الحالية، إلا بعد تثبيت مكانتها في العقول عبر تثبيتها البصري، والذي يصل في الأخير إلى مرحلة السلوك المندفع للشراء، والحصول على “الصورة المرتبطة بالماركة”، وما يتم دفعه للماركة هما عنصرين أساسين، قيمة المنتج وصورته المقدمة।

وعوداً إلى مكانة الماركات العالمية في المجتمعات المحلية ومكوناتها الثقافية المختلفة، فإن العنصر الثاني هو الذي يتحرك ليقدّم صورة “مقربّة” من المجتمع فيما يؤمن وفيما “يسلك”، وبالتالي يكون دخول الماركات العالمية بنكهات محلية شيء طبيعي، بل ومطلوب في كثير من الأحيان، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بمجتمع له تمثيلات ثقافية متعددة. كالإلتزام بالحجاب -بصورة عامة، لا بالمعنى المحافظ- والبحث عن الطعام “الحلال”، وتلك السلوكيات في المجتمعات العربية والمسلمة يسري أمر الأخذ بها بطريقة مختلفة في مجتمعات مختلفة، فالمجتمع الذي لا يأكل اللحوم-على سبيل المثال- تكون ماركات الطعام النباتي خياره الأول، وبالتالي تكون فرص بقاء تلك الماركات وتميزها وحساب الأرباح أوفر حظاً من مثيلاتها من اللحوم أو المأكولات البحرية.

وبعبارة أخرى، فإن الماركات العالمية تبحث عن “حضور” في كل مجتمع يمكن لها أن تتحدث بلغته، لتكون قريبة منه، وبالتالي تتحول إلى جزء من حياتهم اليومية، والوصول إلى تلك المرحلة هو نجاح مستمر، ما دامت الناس تؤمن وتسلك ما تعتبره هوية كامنة فيه، ولا تنفك عنه।
والسؤال الأهم، هل هناك ماركات تبحث عن هوية المجتمعات و”تراعي” لها؟ ربما نعم، وربما لا، فهناك ماركات تبحث في أسواق المجتمعات ذات الطبيعة الثقافية المعينة، والتي -بشرط- تشكل سلوكياتهم الشرائية، فتدخل تلك الماركات لتحجز “مساحتها” عبر يافطات متعددة، منها:

أولاً: المعروض مباشرة والذي لا “تلاعب فيه”، كأن يكون الطعام المقدم مذبوحاً وفق الشريعة الإسلامية، أي أن يكون “حلالاً”، وتنظر الكثير من سلاسل مطاعم الوجبات السريعة “فاست فود”إلى هذا الأمر بجدية وبخطة متكاملة في مراحل متقدمة، ليس في البلدان المسلمة فقط، بل في المجتمعات المسلمة في الغرب أيضاً. فهم قوة شرائية قبل كل شيء.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، قدّمت “ماكدونالد”الكثير من الأطعمة مع وجود كلمة الجذب “حلال” على منتجاتها والعديد من أطباقها في الدول العربية।
ثانياً: تتسع دائرة المظلة الثقافية، لتصل إلى “المذاق المحلي” عبر تقديم منتجات وأطعمة بنكهة عربية، كالذي فعلته “ماكدونالد” وبعض سلسلة المطاعم السريعة العالمية، بتقديم بعض منتجاتها بالخبز العربي مثلاً.

ثالثاً: هي خطوة متقدمة عندما تقدم الماركة “نمطاً” ثقافياً جديداً يتواءم مع الشخصية المحلية للمجتمع। من خلال صياغة “كلام محكي” تستأثره لنفسها، أو من خلال صورة ثقافية محلية يتم تقديمها مع الصورة الأم للماركة. ولم نرَ ذلك الثقل لأي ماركة عالمية وصلت لهذا الحد إلى الآن في الوطن العربي.
وما ذكرناه آنفاً، يسري على تلك الماركات العالمية التي تريد حضوراً يومياً وتسعى إليه. وليست كل تلك الماركات تقدم “تمثيلاتها الثقافية المحلية” وهي تقصد ذلك، فهناك ماركات تظهر على الصور الثقافية المحلية دون أن تدري هي أصلاً، حيث يقوم طرف ثالث بـ”استغلال” قوة الماركة ويتم طرح بضائع باسمها في الأسواق، وما على البائع إلا انتظار “الانجذاب” الطبيعي لتلك الماركة متمثلة في “حجاب، شيلة، حقيبة، إلخ”.

لقد رأيت الكثير من “الشيلات” التي تحتضن ماركات مشهورة في الحقائب “غوتشي”، بل ووصل الأمر إلى أن تتحول ماركة “كاديلاك” للسيارة الأمريكية إلى “موضة” في الكويت للفتيات، حيث بات موضوعاً على ثياب نسائية مختلفة، و”شيلات “وحقائب يدوية وغيرها، ليصل سعر إحدى قطع الثياب إلى ٤٥ ديناراً كويتياً فقط! وعند سؤالي للبائعة عن السبب في هذا “الاندفاع” إلى ماركة سيارات موجودة على مستلزمات نسائية، قالت وبثقة، لأن ” كاديلاك” معروفة بفخامتها واسمها، وتحب النساء أن يلبسن شيئاً يرمز إلى ذلك، فهو يعكس “مقامهم” وقبل كل شىء، فهي “موضة”، ولا يحتاج الأمر إلى سؤال أو تحليل.

ونرى أن هناك حركتين تُشكل حضور الماركات العالمية في الكثير من المجتمعات ذات الطابع الثقافي السلوكي عندها، كالمجتعمات العربية والمسلمة، وكل تلك المجتمعات ذات السلوك الثقافي المميز لها يومياً في هويتها من أقاصي شرق الصين مروراً بالهند وأفريقا وأوروبا وانتهاءً إلى مدن أمريكا اللاتينية. وتلكم الحركتين هما:

الأولى: من المجتمع إلى الماركة: متمثلاً في قوة الشراء الحاضرة في ذهن المستهلك، والنتيجة تقديم الماركة لنماذج تتناسب مع “مجموعات شرائية” لم يشملها الخطاب العام، لذا تقدم “دعوة خاصة” لتلك المجموعات عبر التحدث بلغتها، لتشملهم دائرة الاستهلاك، وتلك هي الطريقة الرأسية، فهي من الماركة إلى المجتمع مباشرة।

الثانية: من الماركة إلى المجتمع: حيث يبدأ “خطاب الود” بين الطرفين من الماركة عبر تقديمها لنماذج متعددة ومتنوعة ليقترب منها المجتمع، ومن بعدها تتوسع “اجتماعياً” أي بالطريقة الأفقية. وفي كلتا الحركتين، يكون مقياس النجاح ليس في انتهاء البضاعة من على الرفوف أو الصحون، إذ يكون الربح “مؤقتاً”، بل النجاح يكمن في بقاء صورة الماركة في ذهن المستهلك لينجذب إليها الآن وغداً وما بعد غد.
وذلك الأسلوب في الخطاب أي التحدث بلغة المخاطب ثقافة وصورة، هو مكمن سر العلامات التجارية المعولمة-كما يسميها “جوزيف س। ناي”وهو رئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع في إدارة “كلينتون”، حيث يذكر في كتابه “القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، بأن تغيرات السوق (ومن بينها ما ذكرناه بالأنماط الثقافية في المجتمعات) قد أنتجت تجزئة متزايدة للعلامات التجارة المعولمة للشركات الأمريكية. فقبل عقد من الزمن ومع سقوط الحواجز المعيقة للتجارة فإن العلامات التجارية ذاتالنطاق العالمي سوف تطرد العلامات المحلية. والواقع أنه عندما تقاطعت حالات القلق على الاستقلال الذاتي المحلي مع التقنيات التي تتيح تحقيق اقتصاديات ذات منتجات كبيرة وواسعة النطاق في تميزها وتخصصها، راح توحيد مقاييس العلامات التجارية يتعرّض للتحدي. فلشركة الكوكا كولا أكثر من ٢٠٠ علامة تجارية (كثيراً ما تكون غير مرتبطة مع الشركة الأم بشكل مكشوف)، بينما تغير “ماكدونالد” قوائم أطعمتها بحسب المناطق.واستجابات شبكة “إم تي في” ببرامج مختلفة للبلدان المختلفة.
وإن بدا من الأمر الحضور الفاعل والقوي للثقافة المحلية، إلا أن التعويل عليها لن تكون نتيجة ما نود قوله، فهي “عامل حفّاز” وفي بعض الأحيان هي “المادة الخام” وفي أحيان أخرى هي “كماليات”، لذا تقوم الماركات العالمية بضبط استراتيجيتها واستخدام كل الصور المتاحة بما يتناسب مع رفع علاقة الجذب بين الماركة والفرد. ونعتقد أن من الأمثلة الحية في استخدام الأنساق الثقافية المحلية وتوظيفها عبر تقديمها بمستويات احترافية هو الدمية “فلة”. وستستمر عملية الخطاب والتقديم للمجتمعات المختلفة ذات الهوية الثقافية السلوكية ما دام ذلك يشكل “تقرباً” من الفرد المستهلك ويحعله يمد يده لجيبه ويدفع ما يراه “مناسباً و”ملائماً” مع ثقافته في أكل وشرب وملبس، في الوقت ذاته الذي يكون جزءً من العالم في صوررته المعولمة. وهذا ما يبحث عنه الكثيرون، مسك العصا من النصف، الاحتفاظ بالهوية والظهور بالعالمية. فهل نرى الفورمولا ون على حجاب المرأة، أو “غوتشي” لغطاء الصلاة؟ ربما॥



*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

One comment on “صلاة “غوتشي”

  1. Anonymous Aug 13,2008 12:57 pm

    في رئي يوجد بعض الماركات التي تحاول تقديم منتجاتها بما يناسب المجتمع مثل : مكدونالدز كما ذكرت .. الا ان هناك العديد من الماركات العالميه التي تتواجد لدينا بشكلها الاساسي الا انني لا اعتقد انها بدون ان تعي تقدم موديلات تتناسب بمجتمعاتنا انما المجتمع نفسه يقوم بتحوير تلك المودلات لتتناسب معها .. مثل الشيلات التي طبعت عليها لوجوهات الماركات العالميه فهي اساسا تستخدم لغرض اخر كربطات للشنط او اكسسوار للبدل الرسميه الا و لاننا مجتمع اسلامي اغلب نساءه محجبون استخدمها كغطاء للراس و هكذا .. في النهايه جميل ان نحور الموضات لتتناسب مع عاداتنا و مجتمعاتنا و ديننا بدل من ان نقوم نحن بالتبدل للتناسب مع هذه الماركات و موضاتها .

Leave a Reply