الدوا قبل الفلعة

جعفر حمزة*

التجارية ٩ يوليو ٢٠٠٨

أطلقها “مزحة” ما زالت ترنّ في أذن كل باحث وقارىء لواقع التغيرات في هذا العالم العربي، تلك المزحة التي صاغها مسلسل “درب الزلق” على لسان “حسينوه” عندما قال مشيراً إلى ضرورة الابتكار والاختراع بما يتناسب البيئة التي نعيشها، حيث قال “ليش ما نخترع راديو يشتغل على غبار؟”

قد تكون تلك اللفتة “مزحة” أو “إشارة” سمّها ما شئت، إلا أنها تعكس تطلعاً لواقع عربي ما زال متأخراً في إكمال أحجية التطور والتقدم والأخذ بزمام التقدم، بالرغم من توفر ألف باء ذلك التطور، سواء من ناحية الموارد الطبيعية أو الموارد البشرية التي تحتاج لصقل ووضعها في المكان الصحيح.
ونعتقد بأن الخروج من على كرسي “المشاهد” إلى دور “اللاعب” بات أمراً حتمياً للدول العربية، وبالخصوص تلك التي تملك الموارد الطبيعية والبشرية المؤهلة، ومنها دول الخليج العربية। ويكفي أن نقرأ تجارب من دول مختلفة، والتي يُطلق عليها بالدول النامية، والتي تحولّت من “مستهلك” إلى “مصدّر” للكثير من المنتجات، بل وباتت صاحبة علامات تجارية عالمية مشهورة، ومن تلكم الدول تايوان وكوريا الجنوبية.

ولا يكفي أن تقوم الدول بما يسمى ب”تحرير الأسواق” فحسب. لأن الأسواق الحرة بذاتها لا تؤدي تلقائياً إلى النمو الاقتصادي. وعلى المجتمعات في الاقتصاد القائم على المعرفة أن تخلق ميزتها النسبية. فلا تمنحها إياها أمنّا الطبيعة كمناجم للذهب أو آبار للبترول أو ظروف زراعية مواتية. إنّ كل منطقة في العالم عليها أن تطور مصادرها من المزايا النسبية التي من صنع الإنسان. (١)

وقبل أن نفكّر في راديو “الغبار” علينا أن نعرف راديو الطاقة الشمسية أو أقلها راديو البطارية، وبعبارة أخرى علينا التفكير في ثلاث دوائر رئيسية تمثل الخطوط العامة للانتقال من الاقتصاد المعتمد على الموارد الطبيعية إلى الاقتصاد المعرفي، والذي يحول النحاس ذهباً، وعلينا ألا نبالغ كثيراً عند الحديث عن الاقتصاد المعرفي، إلا أن معطياته موجودة في مجتمعاتنا الخليجية، ومنها مملكة البحرين، حيث تتميز بنسبة تعليم عالية، وبيئة استثمارية -قد لا تكون بالصورة المرجوة- إلا أن لها القابلية لتتحول إلى “سنغافورة” الخليج أو على الأقل بمثل مرتبة “تايوان” والتي تُعد من نماذج الدول النامية التي انتقلت إلى مرحلة “التصنيع” و”التصدير” لتلعب دوراً على خارطة الاقتصاد العالمي। ويمكننا إلى جانب “ترويج” المساحات الغمورة في البحر كمشاريع عقارية، تخصيص أرض لمشروعات البحث والتطوير والبحث!

وعوداً إلى الدوائر الثلاث، والمتمثلة في التالي:

الدائرة الأولى: سد النقص الحاصل في ألف باء الاستثمار، وعدم “وضع البيض في سلة واحدة” كما يُقال، وما ذكره وزير الصناعة والتجارة من “فتح الباب على مصراعيه” لصناعة الإسمنت، هي خطوة متأخرة، وكأن “البيض” كان محصوراً في سلة واحدة وواحدة فقط، وما أشار إليه ولي العهد من ضرورة فتح المجال للبدء بصناعات محلية والاعتماد على الذات، هو البداية الحقيقية للاستثمار الحقيقي. وعلينا في ظل الاستفادة من تجربة “أزمة الإسمنت” الأخيرة تجهيز “الدوا قبل الفلعة” كما يقال في المثل المحلي، والذي يدل على ضرورة الاستعداد للأمر قبل وقوعه. فهل ننتظر أزمة أخرى لفتح “الباب على مصراعيه” من جديد؟ ذلك هو الدرس الأول، والذي على الحكومة الاستفادة منه ووضع خطة للاعتماد على الذات بلحاظ تسارع وتيرة الاستثمار في البحرين।إذ لا يكفي دعوة الآخرين لتناول الطعام في مطعم “فاخر” وينقصه “الماء” أو”الكهرباء”। ولا يكفي “البقاء حياً” إن أردت التفوق في عالمك، عليك أن تتبع نهج “البقاء قوياً”

الدائرة الثانية: تشجيع التطوير والبحث Development and Research، وذلك من خلال وضع خطة وطنية تتجاوز التقارير السنوية والتي تقوم بها هذه الجهة أو تلك، لتصل إلى مرحلة “خارطة الطريق” الخاصة بالتطوير والبحث على أكثر من صعيد، وتتحول إلى نمط سلوكي وتفكير منظم تُصبح وتُمسي عليه الأجسام الثلاثة التالية، والتي تمثل مصدر الهواء لتنفس أي حكومة هواءً نقياً والذي يمدها بالنشاط والتقدم في سباق المعرفة، وتلك الأجسام هي:

أولاً: الدوائر الحكومية، والتي تحتاج إلى تغيير في سلوك العمل والتي باتت تمتلك تلك الصورة النمطية السلبية عن العمل في تلك الدوائر। ويمكن “حقن” هذا الجسم بدوائر “المعرفة”، والتي تتمثل في تشجيع التطوير والبحث عن طريق إنشاء دائرة قائمة بذاتها تتمتع بالاستقلالية عن كل قسم، وتكون تحت الوزير مباشرة، وتتمتع بصلاحيات التغيير والاستشارة في سن القوانين ومشاركتها مع الوزير مباشرة.

ثانياً: القطاع الخاص، وهو متقدم نسبياً وفي بعضه بأشواط عن الدوائر الحكومية، وذلك في ظل منافسة محمومة -نوعاً ما- فضلاً عن افتتاح “لا خيار غيره” للتطور والتقدم في ظل “سباق” لا ينتظر أحداً. ومن الضروري “حقن” هذا الجسم بالبحث والتطوير وخصوصاً تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة SME، والتي تمثل “الملكية الفكرية” IP لها “الورقة الرابحة” للبقاء بتميّز في وضع متقدم في ذلك السباق.

ثالثاً: الجامعات والمعاهد والمدارس، وهي تمثل “الخلايا الأولى” لصنع “المعرفة” وتصديرها للجسمين الأولين (القطاعين العام والخاص)। وبالرغم من وجود الكوادر “المميزة” إلا أن “عسلها” يتم سكبه بعد أن يتم تصنيعه على عتبات “التحجيم” و”الاستغلال” و”التهميش”. ونعتقد بأن من يملك تلك الإرادة في “الاحتفاظ” بالعسل والاستفادة منه، بدلاً من سكبه هو ولي العهد، حيث يلزمنا مبادرة مشجعة لتطوير الأبحاث والاستفادة منها، بدلاً من أن تتحول إلى “الأرشفة” التي إن تم الاستفادة منها بالطريقة الصحيحة، لرأينا “بحرين غير”.

ونؤمن بأن تلك الأجسام الثلاثة إن تم حقنها بالتطوير والبحث، ستستاهم في تغيير عقلية المجتمع وتجعله يفكر بصورة عملية بالدعم والتطوير للمجتمع، وستكون تلك العقلية كفيلة بضمان وضع المملكة بعيداً-بصورة ملحوظة- عن محيط الأزمات الاقتصادية-، وأزمة الإسمنت كانت في مرحلة “سلم”، وما الذي سيحصل إن كان الوضع غير ذلك؟ وبتلك العقلية ستتحول المملكة إلى دائرة الإنتاج، فقطار المعرفة لا ينتظر أحداً، والاعتماد على الموارد الطبيعية أو نهج السوق المفتوحة لا يكفي، بل تعتبر مخاطرة ستستهلك الموارد الطبيعية وتُذهب بنهج السوق المفتوحة. حينها لا يمكن التفكير براديو يعمل على “غبار” ولا طاقة شمسية ولا حتى بطارية، وذلك إن لم نفكر بتجهيز “الدوا قبل الفلعة”.

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

(١) النظام الاقتصادي العالمي الجديد. ليستر ثور

Leave a Reply