Power Off


Power Off

جعفر حمزة*

التجارية ١١ يونيو ٢٠٠٨
جلس متكئاً على كنبته التي طبع عليها الزمن تجاعيده، وأخذ يرشف من كأس شاي مُر تعوّد عليه منذ صغره، كان يحب الشاي مراً لا حلاوة فيه، وبدت أنامله تنسحب إلى “الريموت كنترول” لترى عيناه -المُتعبتين اللتين تُغالبان النعاس بعد عناء يوم من العمل الشاق- مادة إعلانية ترويجية عن البحرين في إحدى القنوات الأجنبية. وما إن رأت عيناه اسم البحرين في آخر الدعاية حتى سارعت ابتسامته للظهور وكأنّه قد حقق انتصاراً أو ظفر بجائزة عظيمة، كانت الدعاية تروّج للاستثمار في مملكة البحرين مع وجود كل تلك التسهيلات لجذب ما يُسمّى ب”الاستثمار الأجنبي المباشر- FDI”، وما إن إنتهت الدعاية حتى حوّل القناة إلى قناة العائلة العربية وقد كان وقت الأخبار التي كان من ضمن عناوينها الرئيسية وضع خطة وطنية للحد من انقطاعات الكهرباء المتكررة، والتي تعود كل سنة وكأنها إحدى فصول السنة في هذه الجزيرة الصغيرة. وقامت المذيعة بسرد الخطة الوطنية بتفاصيلها التي تُبشّر بخير على المواطنين والمستثمرين على حد سواء، وتمثلّت تلك الخطة في استبدال طارىء ومنظم لمحطات الكهرباء و”الكيبل” التي أكل عليها الدهر وشرب، فضلاً عن تعويض للمواطنين الذين تضرروا من جراء الانقطاعات المتكررة والتي استمر بعضها لساعات وأيام. كان خبراً ساراً وقع على صاحبنا كالماء البارد في عز صيف البحرين، والتي تتكرر فيه دعاية “جونسون آند جونسون” كل عام “لا انقطاع بعد اليوم” أقصد “لا دموع بعد اليوم”. وكانت تلك العبارة تصريحاً أو تلميحاً ديدن كل وزير أو مسئول يتولّى وزارة خدمية التي تشكل “ماء الحياة” لأي مجتمع حضري نامٍ بل ونفطي بل ويسعى للتنمية المستدامة بل ويسعى إلى وضع قدم مؤثرة على خارطة الاقتصاد في المنطقة. سارع صاحبنا في اليوم التالي لتصفّح الجريدة والتي غطت أخبار الخطة الوطنية “المانشيت الرئيسي” والتي كان من ضمنها التالي: “زيادة ميزانية هيئة الكهرباء والماء لوقف مسلسل الانقطاعات” “تدشين محطات توليد كهرباء جديدة في أكثر من موقع بالمملكة” “فرحة شعبية بعد وقف مسلسل الانقطاعات المتكرر للكهرباء” ويبدو أن البعض قد أراد توديع الانقطاعات بأسلوبه الخاص حيث ما إن تناهى الخبر للبعض حتى وضع “ستيكر” على سيارته “الانقطاع المتكرر، الحلقة ١١٢٣٣ والأخيرة” وذلك على نمط المسلسلات المكسيكية. وأراد صاحبنا معرفة المزيد والتأكد من “مصداقية” و”جدية” هذا الخبر، فتأكد من التاريخ فوجده بعيداً عن الأول من أبريل، فتنفّس الصعداء، وواصل تفاصيل الخبر، حيث تناولت الصحف الخطة الموضوع لمواجهة الانقطاعات المتكررة، والتي كان من ضمنها أسباب تشارك فيها المواطن مع الهيئة، حيث أنّه من ضمن الأسباب: – زيادة في عدد السكان غير المحسوبة -زيادة في عدد المشاريع وزيادة الأحمال على الطاقة المتوفرة – مشاكل في مولدات الطاقة وانتهاء العمر الافتراضي لها – ثغرات أساسية في توفير الخدمات للمواطنين فساد في بعض الصفقات ذات العلاقة بتوفير الطاقة الكهربائية والمتمثلة في مولدات الطاقة وبعض المفاتيح المنتهية الصلاحية. – غياب وعي للمواطنين بضرورة استعمال الأجهزة ذات الحمل المناسب للمنزل. ولم يكتفِ صاحبنا بما نقلته الصفحة الأولى حتى ذهب عميقاً للداخل وقرأ التفاصيل ليجد أن حل هذه المشكلة أخذ أبعاداً تضافرت فيه الجهود الرسمية والشعبية على حد سواء، فقد تم تخصيص ميزانية للأبحاث والتطوير في مجال الطاقة الكهربائية في الجامعات الوطنية والخاصة في المملكة، فضلاً عن دخول الجمعيات الأهلية والصناديق الخيرية والمآتم والمساجد في خط نشر التوعية ليتحول المشهد إلى مسؤلية وطنية لكل فرد، خصوصاً بعد وضوع الرؤية والعزم من قبل الجهات الرسمية ذات العلاقة بطرد “شبح الانقطاعات” وعدم العودة للمربع الأول من جديد، ويتم الحديث عن ذلك في وقت تتنامى فيه الصورة الإيجابية للمملكة في مجال جذب الاستثمارات وتنامي المشاريع، فضلاً عن النية الواقعية في التسريع من عجلة التنمية البشرية والمدنية والاقتصادية في خط متوازن، ولا يتم ذلك إلا من خلال تأمين البنية التحتية والرئيسية لذلك، ومن ضمنها “الكهرباء والماء”. ولم ينهِ صاحبنا الصحيفة حتى سمع جرس المنزل يدق بصورة متتابعة، وما إن فتحه حتى رأى جاره مستبشراً فرحاً، وكان في يده مجموعة من الحلويات المغلفة يوزعها على “أهل الحي” فرحاً بهذا الخبر، وينصح الآخرين بالاقتصاد في استهلاك الكهرباء، وينشر خبر ابنه الذي يسعى للدخول في مسابقة وطنية كبيرة لمن يقوم بتقديم مشروع يخدم مجال الطاقة والترشيد على حد سواء في المملكة. لقد تحوّل اهتمام الجميع إلى التفكير بجدية في الترشيد والابتكار بوسائل جديدة وإبداعية في هذا المجال، وكأنهم ينتظرون “الفرج” بخطوة رسمية من الدولة ليكون تفاعلهم في قمة الإيجابية والسعادة. ودار في خُلد صاحبنا كل تلك الصور “بلا كهرباء” في أيام امتحانات أبنائه الذين يقرأون على ضوء الشموع والمصابيح اليدوية، فضلاً عن بكاء ابنه الصغير الذي كواه الحر وأغرقه العرق في ثيابه، ولم ينسَ زوجته التي ذاقت نارين نار الحر ونار الطبخ، ليخرج من بينهما طعام يتم تناوله في نار ثالثة في قيظ الصيف. تتابعت تلك الصور وغيرها الكثير وتذكر في نفس الوقت حجم الاستثمارات “الديناصورية” التي تُقام على أرض هذه الجزيرة، ليبقى سؤاله الذي لم يحصل الإجابة عليه هو “مع ارتفاع أسعار النفط، وتنامي حجم الاستثمارات الأجنبية، و”هَوَس” العقارات التي تظهر كالفطر، فضلاً عن زيادة “غير محسوبة” مُسبقاً في عدد السكان، تطايرت كل تلك الصور أمام ناظريه ليعرف كيف السبيل لحل تلك الأزمة التي أصبحت “موسمية” ولا يتم الحديث عنها أو النقاش حول أسبابها والسبيل لحلها إلا حينما تحل علينا. تناسى كل ذلك ليقول لنفسه “المهم الآن، وليس ما حصل”، ولم يكمل عبارته حتى سكب أحدهم عليه الماء، وسمع صوتاً لطفلة تقول “أبي أبي، إنهض”، ففتح عينيه وهو على الأريكة سابحاً في عرقه والتلفاز مطفأ، وأدرك أنّ الكهرباء قد انقطعت عن كل الحي الذي هو فيه، وكان ذلك الصوت ابنته التي استنجدت به لتقول له “أبي كيف أراجع، وغداً عندي امتحان؟” وأدرك صاحبنا أنّ ما جرى كانت في “غفوة”. وأما سؤال ابنته فهو لا يتسطيع الإجابة عليه، وتمنّى أن لو كان الحلم حقيقة.

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

Leave a Reply