البنغالي والاسترالي

البنغالي والاسترالي

جعفر حمزة*

التجارية ٤ يونيو ٢٠٠٨

اللوحة الأولى:
دماء رسمت جريمة بشعة بلونها القاتم لتعلن عن مقتل مواطن بحريني على يد عامل بنغالي فوق أرض هذه الجزيرة الصغيرة على خلاف معاملة بينهما. والنتيجة مقتل مواطن برىء خلّف وراءه عائلة تكتوي حزناً وأسفاً عليه، ورحمة من رب العالمين له.

اللوحة الثانية:
فصل 44 بحرينياً من بتلكو ” بأمر من مدير الشركة الإسترالي، والذي جلب عمالة أجنبية من استراليا وجنوب إفريقيا والهند لإحلالها محل العمالة البحرينية، متحدياً كل سلطات البلد”(١). والنتيجة وضع 44 عائلة في دائرة الحاجة وعدم الاستقرار المعيشي لفترة قد تطول أو تقصر.

لوحتان قد تبدوان مختلفتان ولا شىء مشترك بينهما اللهم إلا كون بطلي اللوحة “أجنبيان” لا أكثر ولا أقل!

وذلك هو بيت القصيد..
لقد بدأت المجتمعات الخليجية بالاستعانة غير “المقننة” بالعمالة الأجنبية من الشرق والغرب من أجل تسيير عجلة البناء و”النهضة العمرانية” أو هكذا تخيلناها، ونتيجة للتضخم العمراني واتساع التجارة وانتفاخ الكثير من “البطون” التجارية، كان لا بد من “استيراد” العمالة بصنفيها الرخيص والثمين، فالصنف الأول ينظف الطاولة، حيث يقوم بالأعمال التي بتنا نترفع عنها -ليس الكل بالطبع-، وهي العمالة الآتية من الشرق وخصوصاً من شبه القارة الهندية، والصنف الثاني يجلس على الطاولة -وليس الكرسي حتى- حيث يقوم بالأعمال التي لم يولد أحد من البحرينيين لحد الآن ليكون قادراً على القيام بها، وهي العمالة الآتية من الغرب الأشقر. وبعبارة أخرى هناك عمالة تم جلبها ليكونوا عبيداً وأخرى تم تهيئة “الخيط والمخيط” لهم ليكونوا ملوكاً، وبين تلك الفئتين يتفتت السلم الأمني والوظيفي لمجتمع تمتع بميزات فريدة من التعايش السلمي وطرق أبواب التحديث في مجالات عديدة مبكراً، وقد باتت مهددة الآن.

ومن بين تلك اللوحتين واللتين تمثلان معرضاً تم تدشينه من الستينيات والسبعينيات، فقد زادت عدد اللوحات وتكاثرت لدرجة كان من الصعب وضع المزيد منها، بل أصبحت تزاحم الحضور في ذلك المعرض، مما اضطرهم للخروج، وترك تلك اللوحات “على راحتها” كما يقولون.
ويستعرض وزير العمل البحريني الوضع القائم عبر مداخلة له في المنتدى الخليجي حول العمالة التعاقدية والذي عُقد في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة بالقول “ أن مشكلة العمالة الأجنبية في الخليج قد تغيّر وجه المنطقة بكاملها خلال العقد
المقبل” واصفاً إياها بأنها أشد خطراً على الخليج من القنبلة النووية وإسرائيل معاً.
وأضاف بأن المنطقة مقبلة على كارثة “أخطر من القنبلة النووية بل ومن أي هجوم اسرائيلي. إننا أمام تغيير وجه المنطقة وتحويلها إلى منطقة آسيوية في الغالب”.
لا حاجة إلى استعراض الأرقام والحقائق التي يمكن معرفتها بضغطة زر في الإنترنت ليتضح لك حجم العمالة الموجودة في المنطقة الخليجية، والتي بدأت تظهر تبعاتها السلبية أمنياً واجتماعياً واقتصادياً، وما الإضرابات التي أخذت بالظهور في كل من دبي والبحرين للعمالة الأجنبية إلا جرس إنذار لا يبدو أن أصحاب المصالح التجارية من وراء تلك العمالة في هذه الدول مستعدون للتنازل عنها، حتى ينقلب السحر على الساحر كما يقولون.
ويواصل الوزير العلوي الضرب على الوتر الحساس في هذه “الكارثة” منتقداً رجال الأعمال في المنطقة، واتهمهم بالجشع وجذب العمال الأجانب بأعداد كبيرة إلى المنطقة.

ويبدو أنّ استرسالنا في الحديث عن العمالة الآسيوية قد أخذ معظم حديثنا، فالأعداد الهائلة ونوعية الحوادث التي تأتي من وراء تلك العمالة جعل تسليط الأضواء عليها كبيراً، في حين أنّ هناك عمالة أخرى يجب النظر لها بعين القانون والإهتمام بمصلحة الوطن، وتلك العمالة هي ما نسميها بالعمالة الشقراء، والتي باتت تتمتع بحصانة ودائرة حقوق أكثر من المواطن نفسه.
وما قام به المدير الإسترالي في طيران الخليج من فساد إداري في وضح النهار وبعدها انطلق “بالسلامة” إلى بلد آخر حتى دون سؤاله والتحقيق معه، ويكمل القصة مواطنه الآخر في بتلكو بفصله “مواطنين” من أجل “زرقة” عيون مواطنيه الذي سيجلبهم ومن أجل “سواد” عيون الهنود أيضاً، والذي سيشكلون قوته ”اللوبي” التي يتحرك بها في الشركة.
والطريف في الأمر أنّ الاتحاد العام لنقابات عمال البحرين “سيُطلع” وفد استراليا في اجتماعات منظمة العمل الدولية بجنيف ما يقوم به “مواطنهم” الاسترالي، وكأنّ البلاد خالية من القانون أو عاجزة عن تطبيقه لإيقاف التجاوزات، لدرجة أن يُوصف النائب البرلماني عبدالجليل خليل الوضع بقوله “يجب أن تكون هناك وقفة جدية من جميع الأطراف المهتمة بحماية العامل البحريني في قبال العمالة الأجنبة”!!

ولا نعتقد بأنّ الوضع سيستمر على ما هو عليه، إذا توافرت إرادة إصلاحية حقيقية تقف في وجه سير “الهوامير والحيتان والقروش والديناصورات”، وبدون تلك الإرادة سيتحوّل الخليج إلى امتداد لشبه القارة الهندية وتضيع هويته، ويرهن اقتصاده ويُعلّق أمنه نتيجة سياسة غير واقعية وغياب تفكير مستقبلي وتخطيط متخبط تظهر آثار تبعاته كل يوم.
ومع ذلك نرى أن وقف الزحف الآسيوي الذي تحوّل إلى تهديد للوضع الاقتصادي والاجتماعي، يجب أن لا يقل جدية عن وقف وتقنين حركة بعض البيض المتسلطين والذين يظنون أنفسهم فوق القانون بمجرد زرقة أعينهم وبياض بشرتهم ودعم كائناً من يكون ورائهم.
وبدون تلك الرؤية الجادة والحازمة فلا معنى لإصلاح سوق العمل إذا تُرك الحبل على الغارب لإرضاء هذا الحوت أو السكوت عن ذلك القرش، وما التقارير التي تذكرها المنظمات الدولية فضلاً عن المواقف الحازمة لوزراء بعض الدول الخليجية إلا الخطوة الأولى للتغيير.
وفي دائرة التغيير في فضاء المملكة، فإننا نرى أن بعض الجهات تعمل بجد في وضع النقاط على الحروف في مجال الإصلاح الاقتصادي، ومن ضمنها:
.هيئة تنظيم سوق العمل، والتي تحاول أن تنظم وضع العمال الأجنبية في البلاد. بالرغم من “ممانعة” أبدتها بعض الجهات ممن يقف ورائها الحيوانات الثديية “الحيتان والقروش”.
.صندوق العمل والذي يؤسس إلى بوادر تغييرية من خلال دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البلاد ليكون الاقتصاد الوطني معتمداً على ذاته.
. مجلس التنمية الاقتصادية، وهو العقل المفكر الذي يحاول أن يضع البحرين في فضاء الإصلاح والتغيير عبر معايير دولية والاستفادة من الخبرات المختلفة حول العالم.
.وزارة العمل، والتي تمثل بجرأة وزيرها “حداً” لتجاوزات باتت مُعلنة لدى البعض ممن يتبوأ المناصب الإدارية للشركات والمؤسسات باعتبارهم “يجلسون فوق الطاولة” ولا من معترض.

ومن جانب آخر هناك النقابات العمالية التي تحتفظ بكفة التوازن في دائرة العمل التي تشكل جزءً مهماً منها.

بعد كل ذلك، لا نعتقد بأنّه يجب “إسقاط” حادثة الآسيوي “البنغالي” على كل الجالية البنغالية، كما أنه لا يجب تعميم قضية المدير الأجنبي “الإسترالي” على كل الإستراليين، لتكون المهمة المقبلة هو تحقيق عناصر مهمة من بينها:
وضع التشريعات التي تقنن استحضار العمالة الأجنبية “من ينظف الطاولة ومن يجلس فوقها”
الاستفادة من الخبرات الأجنبية ونقلها إلى البحرينيين ضمن جدولة زمنية مرسومة سابقاً.
إحلال العمالة البحرينية المؤهلة في المواقع القيادية في القطاعات المختلفة.
الحزم في تطبيق القانون على الجميع الأسود منهم والأبيض.
ونعتقد بأن غياب تلك العناصر سيؤدي بنا إلى سماع العديد من تلك الحوادث، من البنغالي والاسترالي.

(١) صحيفة الوقت، الجمعة ٣٠ مايو ٢٠٠٨م.
* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

Leave a Reply