الجني والمغارة

الجني والمغارة

جعفر حمزة*

التجارية ٢١ مايو ٢٠٠٨

لم يكن مختلفاً عن غيره، فهم من نفس “العائلة”، والشكل والاسم واحد و”معدنهم” واحد، ومع ذلك فقد تميز عن غيره حتى أصبح “أسطورة” تناقلتها الحكايا وصاغتها القصص لينتقل عبر الزمن منذ آلاف السنين ليومنا هذا. فما الذي كان يميزه عن غيره؟
الجني الذي بداخله، وليس هو في حد ذاته، فقد كان المصباح السحري مطلوباً ومنشوداً من قبل الجميع في زمن علاء الدين، ولو عرفنا بوجوده الآن، لن يختلف الوضع، إذ سيكون الصراع من أجل الظفر به حاضراً، حاله كحال مغارة الأربعين حرامي، فما الذي يميز المغارة هو الذي يميز المصباح؟ “القيمة الموجودة بداخلهما”، فهناك جني يلبي الأمنيات، وهنا كنز تنوء به الجمال حملاً. لئن اختلفنا على حقيقة الأول “المصباح” ولا نستبعد وجود الثاني “المغارة” إلا أننا نتفق على أنّ المعرفة هي التي تعطي القيمة المميزة للشيء “العادي”، فما الذي يحول قطعة من القماش وبعض الألوان لا يتجاوز قيمتها بضعة دنانير إلى “لوحة” فنية لا تقل عن مئات أو آلالف الدنانير؟ والجواب هو المعرفة. إنّ الطاقة الإبداعية موجودة في طول البحرين وعرضها كآبار النفط المخبأة، والتي تحتاج إلى اكتشاف ليتم استثمارها بعدئذ. والناظر للصراع المعرفي اليوم يتبيّن له أهمية التوظيف الجيد للموارد البشرية في رفع رصيد المجتمع المعرفي، لما له من نتائج مادية ومعرفية، وتنسحب نتائجها في العديد من المجالات الحياتية دون استثناء. وكل دولة تبحث عن “مصباحها السحري” ضمن آلاف المصابيح، ويستلزم ذلك منها “مسح” المصباح الصحيح للوصول إليه، وهي تبحث عن “مغارة علي بابا” ضمن آلاف المغارات، وهي تحتاج إلى “البحث” عن مكان المغارة المنشودة وكلمة السر لتظفر بالكنوز التي تحضتنها المغارة. ويحتاج “المسح” و”البحث” إلى ميزانية وتخطيط، وستكون النتيجة أضعاف تلك الميزانية المرصودة. حالها محال التنقيب عن النفط. وللوصول إلى تلك النتيجة على الدول التي تريد اللحاق بحافلة التنمية والتطور في العالم أن تعمل كالشركات، فالشركات التي تريد أن تتميز في المنافسة تقدم تسهيلات لموظفيها، لكي يشعروا ويعيشوا الإنتماء “الصلب” للشركة، فالشركات الكبرى على سبيل المثال تقدم تسهيلات سكنية وصحية وتعليمية، فضلاً عن تقديم خدمات لعوائل الموظفين، بل إنّ بعض الشركات المميزة والضخمة تقوم بمنح أو بيع بعض أسهمها للموظفين لتكون هي جزءً من استثمارهم في الحياة وليست مجرد وظيفة فقط، وبكلمة أخرى تقوم الشركات بتقديم “المسح” و”البحث”، فيقوم الموظفون والعاملون بتقديم “جني المصباح” و”كنوز المغارة”. وكما تقوم الشركات بالتركيز في مجال بحوث معينة من أجل تطوير مخرجاتها ورفع نسبة انتاجيتها، والتي تكون نتيجته زيادة أرباحها وسمعتها في السوق. فالأمر سيان على مستوى الحكومات والدول، فشعبها هم الموظفون وهي بحاجة إلى تميزهم وإبداعاتهم، لكي ينعكس ذلك عليها في النهاية. وتعمل الشركات على تركيز جهودها في مجال البحث والتطوير اللذين يمدانها بالقوة والاستمرار في السوق بل والتميز، لذا فإنّ “الدول في حاجة لأن تزيد من التحكم في تيارات المعرفة لكي تعظم ثرواتها تماماً مثلما تسعى الشركات إلى التحكم في تيارات المعرفة لكي تكون شركات رابحة، “ففي أي مجال يجب على الدولة أن تستثمر أموالها المخصصة للبحث والتطوير؟ فلا تستطيع أن تستثمر في كل شئ حتى دولة في حجم الولايات المتحدة، لها ميزانية إجمالية خاصة وعامة للبحث والتطوير تزيد على ٣٠٠ بليون دولار وهي ميزانية أكبر من إجمالي الناتج المحلي لمعظم الدول”. (١) ومن التجارب المميزة للبحث عن “الجني” و”المغارة” هي كوريا الجنوبية، فقد أنفقت الكثير على البحث قدر ما تنفقه الولايات المتحدة تقريباً من حيث النسبة المئوية. ولم تدانيها أي دولة نامية أخرى. وهي أيضاً الدولة النامية الوحيدة من بين الدول النامية التي أنشأت أسماءً تجارية عالمية. ولقد استطاعت شركة “Samsung” باسم تجاري عالمي أن تجعل من نفسها كبرى شركات العالم في الإلكترونيات الاستهلاكية. (٢) ومن تجارب الدول النامية الأخرى التي عرفت كيف “تمسح” المصباح السحري، لتكون في كل بيت في العالم عبر منتجاتها المتنوعة، هي تايوان، حيث ساعدت الحكومة الصناعة الوطنية والاستفادة من الخبرات الأجنبية لتعتمد على نفسها بعدئذ، ولتحول هذه الدولة النامية إلى أكثر الدول رواجاً لاسمها في الكثير من الصناعات، من أشباه الموصلات “Semi Conductor” إلى المساحات الضوئية “Scanners” ومعظم أجهزة الكمبيوتر المحمولة “laptop”. وعند النظر إلى بعض التجارب المحلية التي تصب في مجرى تطوير البحث والإبداع، فسنرى بعض النماذج المتفرقة وكأنها جزر متناثرة في البحر، وهي بحاجة إلى توحيدها تحت مظلة استراتيجية وطنية. ومن تلك التجارب، تجربة شركة بابكو ضمن مباردة “فكرة جيدة”، حيث أكدت شركة نفط البحرين ”بابكو” أنها نجحت في تحقيق رقم قياسي جديد في إطار برنامج ”فكرة جيدة”، حيث استطاع موظفو الشركة طرح 854 فكرة جيدة خلال العام الماضي، بزيادة مقدارها 23.5% مقارنة بالعام السابق. ولقد بلغ الوفر المحقق من الأفكار الجيدة التي طرحها الموظفون خلال 2007 نحو 719.4 ألف دينار، بينما بلغ إجمالي الوفر المحقق من البرنامج منذ تدشينه العام 1996 نحو3.8 مليون دينار.” (٣) وهناك مراكز لتطوير المهارات المتنوعة في بعض الشركات، والتي تميزت بها شركة ألبا عبر “Smart Center” على سبيل المثال، وهو الوحيد الموجود في البحرين. فضلاً عن الكثير من المشاريع المميزة والاختراعات من معهد البحرين للتدريب وجامعة البحرين. بالإضافة إلى مراكز ومعاهد متنوعة تسعى لتقديم خدماتها من أجل التطوير والإبداع في العمل، إلا أنها تبقى متناثرة تحتاج إلى إطار يجمعها، لتتحول إلى خطة وطنية وهاجس ينسحب على القطاعين العام والخاص، ولا يتم ذلك إلا من خلال التالي: – التركيز ضمن خطة وطنية على نوع الاستثمار المعرفي المطلوب. – تحويل التنمية إلى هاجس وطني، بدلاً من موضات الترف الفكري المتنوع المطروح التي لا تغني ولا تسمن من جوع. ويمكن الاطلاع على التجربة القطرية ضمن برنامج “نجوم العلوم” لتشجيع الاختراعات والابتكار.(٤) – دعم المشاريع التي تزخر بها الجامعات والمعاهد، وخصوصاً معهد البحرين للتدريب وجامعة البحرين. – الاستفادة من الطفرة النفطية “ارتفاع أسعاره” لضخ ميزانية “محترمة” من أجل التطوير والبحث والدعم العلمي. – فرض ضرائب على المشاريع المقامة في البلاد، من أجل البحث البيئي والعلمي، بدلاً من أن تكون “سبيلاً” للصور الهوليوودية في المعيشة على هذه الأرض. – دعم المشاريع والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة “SME”، والتي تشترك فيها الكثير من الجهات، من ضمنها صندوق العمل، وبنك البحرين للتنمية وغرفة صناعة وتجارة البحرين، فضلاً عن العقل المدبر للتنمية مجلس التنمية الاقتصادية. ونتيجة ذلك، سيكون الوصول إلى “جني المصباح” ودخول “مغارة علي بابا” عبر: – دعم كبير لجسم الحكومة الاقتصادي والمعرفي وانعكاس ذلك على المستوى المعيشي للمواطن والمستثمر على حد سواء. – ترويج تصدير البحرين بدلاً من ترويج استيرادها، حيث تمثل تجربة “نيوزلندا” مثالاً مميزاً قامت على تشجيع البحث والتطوير لتكون في مصاف أقوى الاقتصاديات العالمية. – توسعة قاعدة الإنتاج الذاتي في البلاد. وبلحاظ التحديات المتوالية على الساحة الاقتصادية والعالمية، فإنّ خيارات الاستثمار في المعرفة لم يعد خياراً بل ضرورياً، ولا يتم ذلك إلا من خلال وجود خطة محكمة تستبعد مكونات الفساد وتجهد للوصول إلى “مسح” المصباح ليظهر الجني وتقول كلمة السر لتفتح “مغارة علي بابا”.

* باحث في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
(١-٢) النظام الاقتصادي العالمي الجديد، ليستر ثورو.
(٣) الوقت ١٦ مايو ٢٠٠٨.
(٤)
http://starsofscience.com/

Leave a Reply