سمنة بصرية

سمنة بصرية

جعفر حمزة*

التجارية ٢ أبريل ٢٠٠٨

كانت تراودني عن نفسها كل مرة أخرج بالسيارة سواءً للعمل أو لقضاء أمر آخر، كان لديها إصرار غريب على “اقتحام” مجالي البصري دون سابق إنذار، كانت ببساطة تريد أن تكون شغلي الشاغل، أو على الأقل أن احتفظ بصورتها في ذهني لتترسب بعد فترة لتصل إلى قلبي من فرط ظهورها العلني في كل زاوية وفي كل طريق.
ولم تتعب من الظهور الدائم، فهي تستمتع بذلك وتريد الاستمرار فيه، كانت “إعلانات الطرقات” أو ما يسمونها في لغة مجال الإعلان “OHH-Out Of Home” هي صاحبة الظل الثقيل التي اقتحمت وبصورة مغالية المساحة البصرية لكل فرد، حتى أصبحت مثل الفطر الذي لا يتوقف عن الانتشار.

وللزيارة أصول، إلا أن صاحبتنا “الإعلانات الخارجية” لا تفقه في مجال الإعلان والتأثير البصري إلا القليل، ويمكننا أن نقدم عذراً شبه مقبول لذلك يتمثل في أن السوق البحرينية ما زالت “عذراء -Virgin” في التجربة الإعلانية الحديثة، إذ أصبح الأمر بمثابة ركوب الموجة بصورة مبالغ فيها لدرجة الضجر، فحين ظهرت الإعلانات الخارجية لم يكتف المعلنون باستخدام المساحات المخصصة من قبيل أعمدة الإنارة والمساحات التي تم وضعها بصورة ثابتة في الشارع، حتى بدأت حملة اقتحام المساحات الموجودة في كل شبر وظهرت المساحات الإعلانية ذات القواعد الإسمنتية، بل وتعدّى الأمر إلى استغلال البيوت والمحلات المطلة على الشارع العام لوضع الإعلانات، وهنا لا بد من توضيح ثلاثة أمور، هي:
أولاً: ما نورده هنا هو في مجال النقد والتقييم لموضوع نطلق عليه “التُخمة البصرية” والمبالغ فيها في وضع الإعلانات الخارجية لدرجة لا بد من الوقوف والتأمل في هذه الظاهرة.
ثانياً: الخطاب موجه لأصحاب الشركات ووكالات الإعلان و نورد لهم هذا المثال.
لقد دفعت شركة “Coca Cola” ٣٣ مليون دولاراً للحصول على حقوق رعاية الألعاب الأولمبية عام ١٩٩٢م، لكن رغم الحملة الإعلانية الكبيرة، أدرك ١٢ ٪ فقط من مشاهدي التلفزيون أن الكوكا كولا كانت الراعي الرسمي للألعاب الأولمبية، فيما ظنّ ٥٪ من الأشخاص أن شركة “Pepsi” هي الراعي الحقيقي .
وهذا ما يُطلق على التخم من المعلومات اسم مشكلة “التراكم”، وهو ما يزيد من صعوبة “التصاق” أية رسالة في الذهن.(١)
وفي هذا تنبيه إلى المعادلة التي لا تنجح على الدوام، وهو أنّ التكرار يثبت الأفكار، فهناك عوامل يجب إدخالها في المعادلة لنجاح الرسالة الإعلانية الموجهة، بدلاً من الاعتماد على “الظهور المكرر والكثيف”.

ثالثاً: أهمية تقنين حجز المساحات للإعلان، والاستخدام الأمثل والآمن لها، بحيث لا تصل إلى مرحلة “التلوث البصري Visual pollution” والذي يؤدي إلى التأثير في السياقة الآمنة، حيث تُوضع بعض الإعلانات ذات القواعد الإسمنتية في مناطق تحجب جزءً من الرؤية الضرورية لسياقة آمنة.
ومن الجيد ذكر تجربة الصين في هذا المجال، حيث أنّ هناك مدة زمنية محددة لبقاء الإعلان في الشارع، وليس الحديث هنا بين الشركة المُعلنة وصاحبة المساحة الإعلانية، بل مدار الحديث بين الأخيرة والجهة المسؤولة في البلد، أي وزارة البلديات في هذه الحالة.
تذكر المادة ٣٢ المتعلقة بتنظيم الإعلانات الخارجية في جمهورية الصين الشعبية البند التالي بخصوص منع الإعلان الذي يتحقق فيه هذا الشرط، وهو “كل إعلان يسبب تشتتاً ويؤثر في حركة سير المرور”، بالإضافة إلى وجود بند تحت هذه المادة تتناول منع الإعلان الخارجي الذي يشوّه المنظر العام للمدن. (٢) والجهة المسؤولة عن تنظيم ومتابعة وأخذ الإجراءات المتعلق بهذا الموضوع في الصين وزارة التجارة.

ولئن كان مجمل الحديث يتناول أهمية التقنين في مجال الإعلانات الخارجية بما تمثله من “تُخمة بصرية” فهناك أنواع من “السمنة المزعجة” والتي نعايشها بصورة يومية تقريباً، منها على سبيل المثال لا الحصر الرسائل الإلكترونية التي “تقتحم” وقتك واهتمامك دون سابق إنذار، وبدون اتفاق مُسبق مع مزود خدمة الهاتف النقال لاستقبال تلك الرسائل، حيث أصبح “التراكم” لدى المُعلنين أهم من “الالتصاق” الذي هم بحاجة إليه، فضلاً عن سماح مزود خدمة الهاتف النقال بتقديم أرقام الهواتف النقالة إلى الشركات المُعلنة، وفي هذا تعدٍ على الخصوصية للفرد المشترك، والذي لا يرغب في استقبال مثل هذه الرسائل، فهل يمكن لشركة الاتصال وقف تلك الرسائل التي لا يريدها المشترك؟إن كانت الإجابة بنعم، فليقوموا بها، وإلا فإنّ هناك “تسريباً” لأرقام المشتركين لشركات خارجية لتقديم هذه الخدمة للمُعلنين.

من السهل أن تكون ضيفاً ثقيل الظل، والصعب أن “تبقى” صورتك باقية في ذهن من زرته، لذا تتبع الشركات الكبرى وسائل متعددة بعد الدراسة لمعرفة الوسيلة الأنجح في تقديم منتجاتها وخدماتها بطريقة إبداعية تجعل من الفرد يفكر فيها، بشرائها واستخدامها حتى التعلّق بها، بالرغم من صعوبة الوصول إلى مرحلة “الالتصاق” في ظل “زحمة” من الصور والرسائل المختلفة في وسائل الإعلام المتنوعة.
ومن الأمثلة التي تستخدمها تلك الشركات “تطعيم” الأفلام السينمائية باسمها، ودخولها بطريقة ذكية في ألعاب الكمبيوتر وألعاب PlayStation فضلاً عن بعض البرامج الجماهيرية مثل “Oprah”، بالإضافة إلى الحملات الإعلانية التفاعلية والتي تُضيف بُعداً تشعر بها الفئة المستهدفة من الحملة الإعلانية.
ومن ذلك تأتي أهمية وجود عامل الالتصاق في الإعلان محتوىً ورسالةً ومكاناً ووقتاً، وأمر “التخمة البصرية” التي ذكرناها مقدمة للتفكير في التنظيم البصري بدلاً من ضوضائها، وبما يتناسب مع حجم ونوع التغيرات الاقتصادية في البلاد، قبل أن نصل إلى مرحلة “الإعلانات المبعثرة” على الواجهة الأمامية للمحلات الصغيرة.


The Tipping Point, Malcolm Gladwell
http://tradeinservices.mofcom.gov.cn/

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

Leave a Reply