قبل صياح الديك

جعفر حمزة

التجارية ٣٠ يناير ٢٠٠٨
كان مقدراً لها أن تلقى حتفها على يد ملك بلادها، إلا أن ذكائها وحنكتها وحسن تقديرها للأمور، بالإضافة إلى خيالها الواسع جعلت مسألة قتلها بعيد المنال، فقد كانت تسرد القصص التي لا تنتهي، وتتوقف عند كل مكان حرج في القصة لتُكملها في اليوم التالي، وبهذا حافظت على نفسها من عادة الملك في قتل من لا يحبها ولا يرتضيها زوجة له. كانت تلك الأميرة “شهرزاد” التي لم تتوقف طوال “ألف ليلة وليلة” من سرد القصص على مسامع الملك “شهريار”، وكان الفاصل الإعلاني بين قصة وأخرى هو صياح الديك عند الصباح. خطرت في بالي هذه القصة وأنا أقرأ الواقع المحلي الاقتصادي والمعيشي، الذي تجاوزت قصصه آلاف الليالي لا للتسلية بل للإلهاء أو لنقل بذل الجهود في أمور نحن في غنى عنها. ولئن تشابهت الوسيلة مع ما اتخذته “شهرزاد” إلا أن الهدف مختلف تماماً، فهي سعت إلى إنقاذ بنات مملكتها من حكم الملك الجائر وإيقاف القتل المتواصل للنساء، في حين يسعى البعض على هذه الجزيرة لإلهاء الناس عن الملفات الأساسية والمحورية، ويبدو أن هذه الثقافة العربية المتأصلة في الزمن والتراث والحضارة العربية ما زالت باقية ووصفة “شهرزاد” سارية المفعول لحد الآن. فقصص “شهرزاد” أصبحت على لسان الكثير من ماسكي الملفات المعيشية في الساحة المحلية، أكان من يمسك تلك الملفات وزارة أو هيئة أو مسؤول أو نائب … وتستمر الحكاية. لقد أصبحت القضايا الأساسية والتي من المفترض أن تكون ضمن سير عملية الإصلاح الواقعية أمراً يستحق لـ”شهرزاد” أن تُطيل سردها وبطرق متنوعة وإبداعية ليتم طرحها على الجمهور الذي سينشغل بالحبكة القصصية وأحداثها بدلا من التركيز على القضايا الأساسية للوطن، كما انشغل “شهريار” عن مصير “شهرزاد”. فالعديد من الملفات المعيشية الأساسية من قبيل مصير إيرادات أسعار الزيادة في النفط وسبل تصريفها، والقوانين التي جعلت الأراضي مشاعا للجميع، بل أصبح الحصول على أرض أو بيت من الأماني صعبة التحقق في بلد نفطي، بالإضافة إلى ترهل البنية التحتية وسبل تطويرها وإعادة النبض الواقعي الحضاري لها، فضلاً عن انتشار التمييز الوظيفي وانعكاساته على التطور المهني وإثراء الاقتصاد الوطني، وملفات البيئة المنكوبة والسواحل المصادرة والفساد الإداري والمالي في بعض الجهات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية وملفات الحريات المدنية والبطالة المقنعة وغياب استراتيجية وطنية شفافة إزاء ذلك الملف، فضلاً عن ضيق الحرية الإعلامية في إنشاء القنوات والإذاعات الخاصة، وتضارب الرؤى الاقتصادية للوطن بين من يخلص في تسريع عجلة التنمية وبين من يضع العصا في العجلة. وكل تلك الملفات الساخنة والأساسية أصبح الحديث عنها في فضاء هوامشها لا في أصلها، فقد بات الحديث عن البناء العمودي بدلاً من “أرض لكل مواطن”، وأصبح الحديث عن زيادة ٧٠ أو ٥٠ ديناراً لكل أسرة بدلاً من وضع خطة واضحة للاستفادة الحقيقة من زيادة إيرادات النفط، وأصبح الحديث عن تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر “FDI” بدلاً من تشجيع الاستثمار في العقول المحلية، وبات الحديث عن اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة الأمريكية والتغنّي بها بدل التفكير في إنشاء مناطق صناعية مؤهلة”Qualified Industrial Zones”والتي تسهم عند إزدياد عددها في توفير السلع ذات كلفة دنيا ونوعية أعلى للمستهلكين المحليين، فضلاً عن تصديرها للدول الجارة وصاحبة الاتفاقيات الثنائية. وهكذا تستمر “شهرزاد” في سرد قصصها المشوقة والي لا تنتهي، لينشغل “شهريار” بها طوال الليل، ولينتظر تكملة الحكاية في الليلة التالية. ولا تقتصر “شهرزاد” على الجانب الحكومي، وإن كان لها نصيب الأسد في سرد الحكايا “الأسطورية”، إلا أن مؤسسات المجتمع المدني والكتل النيابية والتجار والمثقفين في البلاد لهم نصيب من تلك الحكايا، ألم نقل أن “شهرزاد” متأصلة في الثقافة العربية، فبدلاً من الإنشغال في هوامش وآثار حكايا “شهرزاد” الحكومية كان لا بد بالإضافة إلى ذلك السعي تأسيس وعي معيشي يمكن معه مجاراة التغيرات المحلية والإقليمية والعالمية، فتجديد الخطاب الشعبي وحث الناس على تبنّي عقلية النمو والتطوير والبحث عن السبل الكفيلة بتنوع الدخل للفرد والرقي بوعيه المعرفي والاقتصادي، فضلاً عن مبادرات لمؤسسات وتجار ووجهاء في إنشاء مشاريع وحاضنات فكرية وإبداعية تنتج أكثر مما “تجتر” في المفردات والخطابات بين “نافث” للفتنة و”محترق” بها و”إطفائي” ينتظر رؤية الدخان ليبدأ عمله. فبدلاً من كل ذلك “الإنشغال” المهووس بالسياسة لحد النخاع و”الإنغماس” في تشدد الخطاب الديني لبعض رافعي “صكوك الغفران” إلى القاع، لا بد من فتح أبواب أخرى للإشتغال والإنشغال الإيجابي للمواطن البحريني عبر ملفات اقتصادية وفكرية ينتج معها أكثر مما يتلقى ويتفاعل، ولتكون الأجندة القادمة هي أجندة مواجهة التحديات والتغيرات على المستويين المحلي والعالمي عبر نافذة اقتصادية ومعيشية. فهي البوابة الواقعية للتطوير والاستقرار، وفي الحديث “لولا الخبز لما عُبد الله” يقول علي بن أبي طالب (ع):’ما دخل الفقر قرية إلا وقال للكفر خذني معك’. ففي كل منا “شهرزاد” قد تتمثل في الخطاب الحكومي، وتتمثل في خطاب مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات والكتل، ويبقى السؤال عن إنتهاء سرد القصص في الهامش والابتعاد عن الهدف الرئيس ، فهل نستمر في سماع “شهرزاد” ونتخذها أسلوباً في السياسة والدين والثقافة أم أن الوقت حان للتوقف عن استماعها ليس عند صياح الديك في الصباح، بل قبل ذلك؟

Leave a Reply