“الكلب، الجرس، الطعام

الاستنساخ البصري ما زال مستمراً
ثلاثية “الكلب، الجرس، الطعام” وتحدي النمطية

جعفر حمزة

“النسخ المتعدد للتوجهات الموحدة للأفراد بات مُنتجاً يتم تغليفه وبيعه في نظام الإنسان فيه محلاً للاستهلاك أكثر من أن يستهلك”.
الرؤية العامة للنظام الاقتصادي المعاصر يتحرك نحو “نسخ السلوك الاستهلاكي” للأفراد ما يدفع الكثير من شركات التصنيع في مختلف المجالات إلى توظيف مفهوم “الاستنساخ الاستهلاكي” الذي يحوّل الأفراد إلى مستهلكين متماثلين في التوجه والذوق وهو ما يعود بالفائدة التجارية على كبرى الشركات.
وكمثال تقريبي لتقديم ما نريده هو وجود محل تجاري في منطقتك ويريد أن يشتري كل الناس ما يبيعه من منتجات مختلفة إلا أنها تخرج من مكان واحد هو “المحل” لا غيره، ويسعى إلى تحقيق ذلك من خلال ترويج قيم استهلاكية معينة وبمختلف الوسائل لزرع ارتباط شرطي بين المنتج والقيمة. ما نحاول الوصول إليه من خلال استعراض “صوري” للمنتج هو تسليط الضوء على الصيغة المتحركة في السوق العالمية من أجل استنساخ الأذواق بما يتناسب مع كمية الدخل لكبرى الشركات فيما يخص بالترويج والدعاية وبرمجة الصورة الشرطية عند المستهلك.

“إيفان بافلوف” والتركيبة السرية
“الكلب والجرس والطعام” كانت تلك التركيبة السرية التي أوصلت “بافلوف” إلى جائزة “نوبل” عام 1904م, والقصة معروفة، حيث أجرى “بافلوف” على نظرية الارتباط الشرطي التي طبقها على كلب يأتيه بطعام بعد أن يدق الجرس، ومع مرور الوقت أصبح لعاب الكلب يسيل بمجرد دق الجرس،إذ ارتبط سماع صوت الجرس بالطعام، بمعنى آخر لم يعد الطعام في حد ذاته مثيراً للكلب، بل أصبح الجرس مثيراً جديداً بمثابة المثير الأصلي وهو اللحم.
إن نظرية الارتباط الشرطي هي الأساس العلمي للترويج والتسويق العالمي المعاصر، فعن طريق ربط القيم الإيجابية من خلال الصور البصرية تتكون علاقة قوية تعتمد على أساسين مبنيين على تلك النظرية،هما:
أولاً: الاتساق.
ثانياً: التكرار.
وتعتمد منهجيا التسويق المعاصرة على ذينك الأساسين للترويج و”خلق” حالة مُعاشة وارتباط لا ينفك بين قيمة فكرية أو جمالية معينة وبين المنتج المادي (بضائع) أو المنتج المعاملة (الخدمات).
لقد قدم “بافلوف” نظريته تلك والتي كانت أساساً علمياً لما يسمّى باللغة الإنجليزية “براندينغ” الخاصة بعملية الترويج التجاري للبضائع والخدمات، ما نؤمن به هي الحقيقة الموضوعة بين يديك في الجرائد والمجلات وقبلها في الفضائيات والإعلانات في الشارع والمحلات والمجمعات، ومجموع كل الصور التي تمر على باصرتك يومياً بمعدل يزيد عن ثلاثين ألف صورة في اليوم بالمعدل الطبيعي، سواء كان إعلاناً أو جزءً منه، وتزداد كثافة الصورة المتكونة في الذهن في علاقة طردية مع المساحة التي يمكنك أن تتحرك فيها دون إعلانات أو صور، ويأخذ الأمر أهميته الخاصة في مملكة البحرين ذات المساحة الصغيرة والكثافة السكانية العالية، بالإضافة إلى المساحات العمرانية الممتدة، مما يجعل فرصة إراحة العين من النظر تبدو قليلة جداً، وهو ما يعزز من جانب ثانٍ الارتباط الشرطي بن الصورة والقيمة، فعن طريق الاتساق بين موضوع الطعام العصري و”ماكدونالد” على سبيل المثال، أو بين “كوكا كولا” والمشروب الغازي المفضل لمذاقه و”موضته” إن صح التعبير، وذلك من خلال استخدام صور ذات مدلول إيجابي وجذاب، تصل الرسالة بصورة واضحة للذهن بوجوب وجود ربط بين تلك القيمة الايجابية والصورة المقدمة “ماكدونالد” و “كوكا كولا” على سبيل المثال.
ولا يمكن الاعتماد على عملية الربط فقط لترويج الصورة إذ لا بد من التكرار لتكون عملية “الحفر الذهني” بين القيمة والصورة أعمق وعلاقتهما أوثق، وهو الأمر الذي تقوم عليه كبرى الشركات من خلال خلق حالة من “الولاء” للمنتج وهي السياسة العامة للسوق الدولية التي تجهد للوصول إلى تلك الحالة بشتى الوسائل.

نظام بصري لا خطي، كيف نتعامل معه؟
بصريات العولمة المعاصرة ترقى إلى الوصول إلى “نمذجة نمطية” للأفراد، بمعنى آخر تعمل العولمة المعاصرة إلى محو الفوارق الفكرية والذهنية بين الأفراد والشعوب لترسي قيمة واحدة وواحدة فقط عبر الاجتهاد البصري المدروس، هي قيمة “الاستهلاك” من خلال التوظيف الذكي للإعلام والإعلان في الترويج لتلك القيمة.
ولمعرفة “فلسفية” للعولمة التي تمثل لغة الحركة السوقية اليوم لا بد من الاستناد إلى خبراء في هذا الجانب لمقاربة بسيطة نوعاً ما لتلك “الأيقونة” ومن ثم الدخول الموضوعي للمسألة قيد البحث.
يقول “موري جيل مان” الحائز على جائزة نوبل، والأستاذ السابق في الفيزياء النظرية بجامعة “كالتيك”: ( لقد ظهرت هنا على كوكب الأرض، بمجرد تشكلها، نظم متزايدة التركيب والتعقيد نتيجة للتطور الفيزياء للكوكب، والتطور البيولوجي، والتطور الثقافي البشري. ولقد سارت العملية مشواراَ بعيداً إلى درجة أننا نحن البشر نواجه الآن مشكلات إيكولوجية وسياسية واقتصادية واجتماعية بالغة التعقيد. وعندما نحول التصدي لهذه المشكلات الصعبة، فإننا بطبيعة الحال نميل إلى تقسيمها إلى أجزاء أسهل في التعامل معها. وهذا أسلوب مفيد، ولكن له أوجه قصور خطيرة. فعندما يتعامل المرء مع أي نظام لا خطي، ولا سيما إن كان مركباً، فإنه لا يستطيع قصر فكيره على الأجزاء أو الجوانب أو مجرد جمع الأشياء معاً وأن يقول إن ذلك سلوك هذا أو سلوك ذاك، وعند جمعهما معاً، يُسفران عن الأمر برمته. لا بد للمرء، في وجود نظام لا خطي مركب، أن يقسمه إلى أجزاء، ثم يدرس كل جانب، وبعد ذلك يدرس التفاعل الشديد جداً بينها جميعاً. فبهذه الطريقة وحدها يستطيع وصف النظام بأكمله”.
إن الهدف من عرض تلك المقولة كاملة هو التعرف على النظام الذي نعيش فيه، ذلك النظام المعقد في تعريفه البسيط حين النظر إليه، إن أصل المسألة لا تنحصر في ارتباط شرطي محكوم الدراسة هنا، أو ترويج مدروس هناك لهذه العلامة التجارية أو لتلك البضاعة، إننا نعيش في عالم مركب ولا يمكن الاستمرار فيه من موقع “المؤثر” إن اقتصرت النظرة من موقع “المتأثر” والمستهلك فقط.
ما نعيشه في الواقع هو مجموعة عناصر مختلفة ومتنوعة تجتمع لتكوّن صورة تجهد حكومات وأسواق عالمية فضلاً عن توجه عام ترسمه السياسات الاقتصادية في أن تكون تلك الصورة هي “الإله الجديد” الذي ينبغي للجميع بلا استثناء السجود له والتودد إليه عبر “تقرّب بصري” من خلال “هضم” المنتج المأكول والمشروب والملبوس و..إلخ.
إن أساسا التعامل مع نظام العولمة المركب اللاخطي كما سماه “جيل مان” هو التفكيك البسيط، وذلك عبر تحليل الصورة البصرية للقيمة إلى وحدات بسيطة وتقديمها للمستهلك، ليعرف أن أصل اللعبة القائمة في الترويج هي سياسة “الكلب، الجرس،الطعام” من جهة، والصورة المركبة من جهة أخرى،ولا نعتقد أن الإدراك وحده يكفي للتخفيف من “هوس الاستهلاك النمطي” الذي يستعين بشركات ضخمة للترويج فضلاً عن شبكة متشعبة من الاستراتيجيات الفرعية في تعميم “مبدأ الشراء النمطي”، إذ لا بد من رؤية معاكسة بمعنى وجود استراتيجية لا نمطية في الاستهلاك، وبوادرها ذات ظهور متواضع إلا أنها موجودة متمثلة في جمعيات وتجمعات مناهضة للاحتكار البصري ضمن الشركات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية والتي ترسم منهج الفرد في التفكير والشراء بل وحتى في الأمور الخاصة جداً به.

كوكا كولا، كوكا كولا، كوكا كولا
تبقى السلعة الاستهلاكية هي “شيفرة” العولمة المعاصرة التي تزيل الفوارق لتنسخ المجتمعات دون فوارق وتتلاشى الخصائص والتمايزات، ويصبح السلوك الإنساني في كل العالم واحداً من الغرب إلى الشرق، من أمريكا إلى الصين، ومن آلاسكا إلى بلاد الأنكا، ذلك السلوك الإنساني الذي يستهلك نموذجاً نمطياً واحداً لا يتغير، فيستهلك السلعة نفسها ويطمح إلى اقتنائها.
وليكون الوجه الإنساني بعد ذلك نمطاً لا يعتريه التبدل إلا ما تلزمه الحملات الإعلانية الخاصة بالمنتج “الإله”، وقريباً يُصبح العالم يأكل “الماكدونالد” ويشرب “الكوكا كولا” ويلبس “الجينز” ويقتني “البلاي ستيشن وإكس بوكس”، ونصل إلى مرحلة “الفراغ في الهوية” إذ تكون هويتنا تنزل مع كل منتج جديد من الأسواق العالمية، وعلى رفوف محلات الموضة، وهكذا تتمثل الشخصية “الاشتراطية” التي تناولته نظرية “بافلوف”، فمع كل مثير بصري تتحرك منا ردة فعل جسدية وفكرية بل وحتى ثقافية عقائدية، وبعد التكرار والاتساق تذوب الهوية وتظهر القيمة السوقية في السلوك.
ونهتف عندئذ :(كوكا كولا، كوكا كولا) ليكون ذلك الهتاف هو النداء اليومي الذي نسمعه ونردده كرمزية لقيم ما زالت تتفنن في التقديم لتضمن استمرار الاستهلاك.
وتبقى المسألة في المعرفة الحقيقية المخططة في رد الاعتبار لقيمة الإنسان في استقلاله وفردانيته بعيداً عن الخطط الترويجية والاستخفاف المدروس بالعقول، فهل نصل إلى مرحلة الاستقلال والخيار الذاتي، أم أن عصر “الكوكلة” ما زال في بدايته؟

Leave a Reply