“ما رأيتُ إلا جميلاً”

قالتها سيدة جليلة اُثكلت بمقتل أخيها وابنائها وجمع من أصحاب أخيها في معركة انتهت بمجزرة
لم ينسها التاريخ إلى يومنا هذا. قالتها وهي أسيرة مُثخنة بالجراح وفي جو من التعتيم الإعلامي للسلطة، وفي حضور الحاكم آنذاك.

قالتها تلك السيدة وهي تُجيب على موقف الحاكم الأموي للكوفة “ابن زياد”، عندما تم إدخالها مع النساء والأطفال مع زين العابدين ابن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) إلى مجلس “ابن زياد”، وذلك بعد مجزرة الطف الخالدة التي سقط فيها ابن بنت رسول الله (ص) بطريقة وحشية دموية مع ثُلة من أهل بيته وأصحابه.
قالتها السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب وقد أُحضرت بمن معها بمسمّى “سبايا حرب” في تضليل آخر لتبرير السلطة على أخذهم بهذه الطريقة التي تريد من خلالها إذلالاً لأهل بيت النبوة. وقد أُذّن في الناس ليأتوا قصر الكوفة، وتم ادخال رأس الإمام الحسين (ع) سبط الرسول إلى “ابن زياد”.

“ما رأيت إلا جميلاً” قالتها السيدة زينب رداً على سؤال “ابن زياد” لها عندما سألها من موقع “القوة” -التي يظن أنه يمتلكها حينئذ-، “كيف رأيت صُنع الله بأخيك وأهل بيتك؟”، وهو منتفخ الأوداج ظاناً بأن قتل الحسين حقق له انتصاراً وأخمد ثورة العدل والإصلاح التي رفعها ابن بنت الرسول، ولم يُدرك أن القتل يرفع الصرخة ويوسّع الهزّة للإلتفات إلى موقف المقتول.

وقبل التمعّن في الرد لا بد من التعمق في السؤال، حيث يربط “ابن زياد” بسؤاله بأن ما وقع من مجزرة في الطف هو “أمرُ الله”، وما قام به الجيش الأموي ما هو إلا تنفيذاً لأمر الله، مما يُعطي لتلك الوحشية وذلك القتل مبرراً وغطاء دينياً، فنسب في سؤاله ما تم أنه من الله، لذا قال “ كيف رأيت صُنع الله..”، والصنع له أدوات وآلات لتتم، وما هم أي الجيش إلا تلك الأدوات وما يزيد إلا الآلة لفعل ذلك الأمر، فهو ظل الله على الأرض في نهاية المطاف!

ذلك التلفيق والتزوير الإعلامي لتبرير القتل وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث والتجويع ومنع الماء والسبي، كان له غطاءه الديني الجاهز لتقديمه للعوام من الناس، كما كان مبرر القتال في حد ذاته جاهزاً من فرن “وعاظ السلاطين” الذين خبزوا “فتواهم” على قياس الحاكم الأموي بالقول “أن الحسين خرج عن حده فقُتل بسيف جده”!

إذ أن التلاعب والتبرير بالقرارات التي يتم اتخاذها وفيها الجور والتسلّط لم تكن تمر إلا بغطاء تبريري ديني ولو كان واهياً، فهو جواز سفره بين المخدوعين من عوام الناس في مجتمع لم يهضم الدين بمعناه الحقيقي بالرغم من مرور خمسين عاماً تقريباً من رحيل نبي الإسلام (ص).

وللرد على هذا التمثيلية الأموية، كان جواب السيدة زينب الأول يختصر أساساً ومنهاجاً كونياً عاماً، مدعوماً برباطة جأشها وشجاعتها وحزمها، ونحن نتحدث ها هنا عن امرأة في حضور جمع غفير من الرجال من حرس وجُند ووجهاء قبائل في قصر الحاكم، وما زالت فاجعة المذبحة على أهلها حاضرة في الذهن والجسد.

ردت السيدة زينب (ع) على ادعاء “ابن زياد” بالقول : “ ما رأيت إلا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم، فانظر لمن الفَلَج (١)، يومئد، ثكلتك أمك يا بن مرجانة”.

جمع جوابها المُفحم هذا عدة أُسس عقائدية وسياسية بنسج لغوي بليغ، تتمثل في التسليم لأمر الله في أعلى مستوى التوكل وأجمله، وفي شرعية خروج الإمام الحسين وأصحابه، وفي أحقية ذلك الخروج بتقديم المخاصمة في الآخرة للفريقين، وتأكيد على هذا الموقف بختام حديثها” فانظر لمن الفلج؟”.

ما نود تسليط الضوء عليه هي بداية رد السيدة زينب الذي لم يكن وليد اللحظة، بل كان ممارسة عملية ولم يكن القول الأول في تبيان تسليمها لما يقع عليها من أمور وأحداث، فقولها “ما رأيت إلا جميلاً” ينمّ عن روحانية عالية وقلب كبير وإيمان عميق يتحرّك من واقع عملي، ومن بين دم وألم، ومن بين جثث وعطش، يتحرّك إيمان هذه السيدة العظيمة قبل وأثناء وبعد كل ما شاهدته من مآسٍ داميات، رأت أخوها مقطّع الأوصال وأهل بيتها يتم تجزيرهم وترفع رؤوسهم على القنا، وحرق للخيم، وغيرها من صور الوحشية والبربرية الأموية التي أنزلوها في واقعة الطف.

كان الرد بعبارتها “ما رأيتُ إلا جميلاً” هو عنوان المراتب العُليا الحقيقية للإنسان المؤمن الذي يرى أن كل ما يقع عليه هو من الله، فيرى فيه الصنع الجميل، لأنّه لا يصدر من الجميل إلا الجميل، حتى لو رآه الإنسان غير ذلك من بلاء وشدة وألم، وذلك هو المعنى الحقيقي لمزاوجة التوكّل بالتقبّل مع الرضا بالإقدام بروح مطمئنة عليها.

وبرغم المصائب والشدائد التي مرّت عليها السيدة زينب وفي قبال تقريع جاف صلف من ابن زياد، يكون ردها على ذلك الإستفزاز بهذا القول الذي لا يترجم بحق صبر هذه السيدة العظيمة فقط، بل يقدّم نظرتها لكل مصاب وجلل على أنه من الله، وكل ما يأتي من الله -دون استثناء- فهو جميل حتى لو كانت صورته الظاهرة فيها القتل وسفك الدماء وكل الصور السلبية.

وتتجاوز هذه السيدة العظيمة خط الصبر لحد تقديم الأكثر من بعد ذلك الخط، فهي تقترب من جثمان أخيها محزوز الرأس، وهو ابن ينت رسول الله (ص)، وتضع يديها تحت ظهره وتحاول رفعه وتقول “اللهم تقبّل منّا هذا القربان”.

فهي لم تصبر على القضاء الذي حل بأهلها وبها فقط، بل كانت روحها أكبر، لتحوّل كل موقف ظاهره الضعف والهزيمة إلى موقف فيه القوّة والحق وصوت العدالة.

وهو الموقف الذي يرى المؤمنُ اللهَ في كل شيء ومعه وقبله وبعده، فيكون البلاء للمؤمن هو الطَرق لمعدنه وهي النار لذَهَبِه

فعندما تتحوّل كل مأساة في نظر المؤمن إلى نار لصقل جوهره ليقترب أكثر من بارئه، لا بمعنى جلد الذات وهو الذاهب للبلاء، بل عندما يتحرك البلاء إليه، فيستقبله بصدر مطمئن ويُوكل أمره إلى الله وحده، ناظراً إلى كل ما يحلُّ به بأنه “الجميل” من ربه، عندها تهونُ كل البلايا مها عظمت، ومن هنا يأتي قول الإمام الحسين (ع) في معركة الطف وهو ينزف دماً “هوّن ما نزل بي، أنّه بعين الله”.

هو قول وفعل كل روح مؤمنة بحق، تلك التي ترى أن كل ما يقع عليها لله فيه حكمة وجمال، وهي الثقة التامة بالله، لأنه لا يصدر من الجميل إلا الجميل حتى لو كان فيها الألم في ظاهره، كما في الزهر الشوك.

هذا المبدأ الجمالي العملي الناظر للأمور التي تقع حتى لو كانت مأساوية أو سوداوية على أنها أمر جميل من الله، ينزع فتيل الخوف من قلب المؤمن، ويحوّل كل أمر يقع عليه على أنه أمر يتقبله بصدر رحب وبطمأنينة لأنه من الله، وبهذه النفسية العظيمة للمؤمن يكون المعنى الحقيقي للإيمان لذي تخشاه أي قوة سياسية أو اجتماعية أو حتى دينية مزوّرة.

لأن تلك القوى لا تعرف معنى الجمال في وقوع الحدث، فتجزع وتخاف وهو ما يجرها إلى ارتكاب الأخطاء مرات ومرات حتى تسقط في وحل لا يمكنه الخروج منه، وهو وحل عدم معرفة الله. في حين يكون “الجمال” فيما يقع للمؤمن، مدعاة للتغيير للأفضل لوجه الله عبر التقبّل وامتصاص كل صدمة مهما عظمت.

“ما رأيت إلا جميلاً” هي وصفة القوة في كل موقف وقضية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، لتتحول نظرة الجمال تلك وقوداً للنصر في كل مسيرة وموقف .

(١) الفلج: الظفر والنصر.

Leave a Reply