بين رقص ونظم

جعفر حمزة

اخترقَ سُكون َسَكنهم غريبٌ في الدار، فقام أحدهم بتوديع سريره ليرى من حلّ من غير ميعاد ولا طرق أبواب. فلمح لصاً يهمّ بالسرقة والهرب، فما كان منه إلا دفعٌ عن ماله وعرضه باشتباك مع “اللص” . وبعد انكشاف الغَبَرة تم الاتصال بالشرطة. ليأخذ “القانون” مجراه، إلا أن صاحب البيت “الهزبر” كان له نصيبٌ من “إنفاذ قانون” مشوّه -كما يبدو-، حيث اُجبر على دفع غرامة مالية بتهمة “الاعتداء على سلامة جسم الغير”!!!! (1)

ولو وَسَعني أن أضع كل علامات التعجب في العالم لوضعتها ها هنا

وحقيقٌ بالمرء أن يتعجب إن كان من “يدافع عن نفسه” يُساوَى بمن “ينتهك حرمة غيره”. ولئن لم نعرف التفاصيل، فلربما أعَمَلَ صاحب البيت كل “عضلاته” على “اللص الضعيف” فرسم خارطة طريق على جسده، وقد وقد… لا نعرف.

إلا أن خللاً بينّاً يكون بين يدي من يتابع الأخبار ويتلمّس إنفاذ “القانون” فيها، وما عليك إلا قراءة ما تمت كتابته كتعليق على هذا الخبر لتعرف ما أرمي إليه.
فبين ما مسطور من قانون وتجاوز بين سطوره وروحه، يجعل المرء يتساءل كطفل في عفويته، ما القانون؟ ولم القانون؟ وإلى من القانون؟ أسئلة تُعيده إلى عالم الأسئلة البديهية التي قد-وأقول قد- تُخرجه من حالة السُكر الجماعي للحظات، ويقرر بعدها إما المضي قُدماً في عفويته ويصطدم بالعقل الجمعي أو البقاء على ما هو عليه من سُكر وكفى.
فهل نأخذ الحبة الحمراء كما فعل”نيو” ليدخل عالم “ماتريكس” أم نكتفي ببلع كل الحبات الزُرق كل يوم لنبقى على ما نحن عليه؟

فما “القانون”؟

صنعوه ورعوه واختاروا له المواد التي تُضفي هيبةً عليه، ليظهر كما شاؤوا له، مُتقناً مع نقشةٍ بمراعاة التفاصيل وأدقها، ليكون كلوحة لا عيب فيها ولا نقص، فهو المُهاب والصراط المستقيم -على الأقل هذا ما ينشده صانعوه وواضعوه- الذي يضع النقاط على الحروف ويُبقي ضمير المجتمع بالخارج متحركاً فاعلاً نافذاً ومستيقظاً مع ضمير الداخل للفرد.
هو التميمة المقدسة التي تخضع لها الرقاب، بحجة حفظه للنسيج الاجتماعي من الترهل والفوضى، والمحافظ على نَسَق المعيشة ونظامها. والماسك بالأمور وواضعها في نصابها. والكابح لجماح النزوع نحو تحقيق الرغبات وما يشتيهه الإنسان الفرد لذاته فقط، دون مراعاة لشبكة العلاقات الاجتماعية التي قد تتضرر من جرّاء ذلك.
وما زال “القانون” مذ ولادته ما بين قرابته من عدل السماء مرتفعاً ونزوله متثاقلاً للأرض متحركاً في بعضه كحصان طروادة وفي البعض الآخر كمسمار جحا ليكون جسراً لمآرب أخرى تستبطنها قلوب المتنفذين والسلاطين، وهو الركن الوثيق للنماء عند المُنصفين والقائمين بعدل معه وفيه وله.

فالقانون في أصله نظمٌ وضبط ورأب صدع وحفظ لنسيج الحركة في المجتمع، والضابط لنزعات الإنسان الفردية في التسلط والتملك وإشباع الرغبات، ودون هذا القانون -الضمير الخارجي- لأصبحت المجتمعات خبط عشواء ولعلا بعضهم على بعض. لذا استحدث الإنسان -بفطرته- “القانون” لنظم سير المجتمع في علاقاته مع بعضه البعض كأفراد وفيما بينه وبين السلطة المدبرة لأموره الحياتية كمسوؤلة عنه ممثلة له، ليرد عليها بالمثل من احترام وانتاج ونماء.
وبذا يكون القانون “همزة وصل” مُتفق عليها بين الطرفين، لا أداة قمع يتم توظيف هيبة اسم القانون لتمرير مصالح ورغبات فوق مصلحة الناس والمجتمع.
وإلا كان القانون استعباداً وفساداً و”نادلاً” يقدم ما تريده السلطة على طبق من ذهب أو فضة باسم القانون.

كلٌ يدعّي الوصل بليلى، فالقانون لا يُنكره فرعون كما لا يُنكره قدّيس، فهو “ليلى” الجميع “اسماً وصورة” للكثير، دون جوهر حقيقي وروح مغيرة لهم، فقد اتخذوا منه قراطيس مقرطسة لمصالحهم، واتخذوه مركباً لهم ليصلوا إلى ما يشتهون، فكانت الإقطاعية في أوروبا بأبشع صورها تحت اسم “القانون”، وتم حرق العلماء في أوروبا المظلمة تحت اسم “القانون”، وتم الإيغال في التمييز ضد السود في أمريكا تحت اسم “القانون” وكانت دكتاتورية صدام حسين ضمن قانون” وكان القمع في إيران الشاه ضمن “قانون” ، وهكذا يُقدّم القانون ليكون “المقصلة الشريفة” لمن يعارض السلطة برأي أو قول.

لقد تحوّل القانون في كثير من بلدان العالم بغربه وشرقه من مادة صلبة واضحة الملامح إلى مادة هُلامية قابلة للتأويل والتفسير والتمغيط، لتكون الكلمة الهزل وليست بالفصل لمن في يده السلطة، بمنطق فرعوني أصيل “ما اُريكم إلا ما أرى”. كما تُمنع المحجبات والمنقبات من تحصيلهنّ العلمي بحجة القانون في فرنسا، يتم إعمال الشدّة والقسوة لمن لا تستر وجهها في افغانستان، وكذا يُمارس قمع وتهميش لفئات مجتمع مختلفة في العديد من الدول بسبب اختلاف في إثنيات أو مذهبيات بحجة القانون.
لقد تم “صلب” روح القانون واتخذوا من جسمه “خِواراً” للكثير من السلطات الحاكمة، بالرغم من إقرارها به، حتى تبدو وكأنها في تناقض بين ما هو مكتوب في القانون وبين ما تقوم به. وبذا يكون هذا الأخير “شمّاعة” للظهور العلني لا أكثر ولا أقل، في حين تغيب روحه وآلياته من وجود على الأرض.

إن تحوّل القانون من مادة صلبة يمكن تلمسها إلى مادة هُلامية لا يمكن إمساكها إلا لمن له القوة في السلطة أو النفوذ، ،يُشكل منفذاً للاستهتار به، فتذهب هيبته ولا يُراعى فيه إلاً ولا ذمة.
وبالتالي يكون محل “تنصّل” من الناس، والتحايل عليه في كثير من الأحيان ومواجهته في أحايين أخرى.
وعند سقوط هيبة القانون يسقط حجر الأساس في بناء المجتمعات وحفظ نظامها وقوامها.فتعم الفوضى وينتشر الفساد ولا ينتظم أمر أحد فيه إلا بلغة الغاب وكفى. وتُستنزف الأموال من أجل إصلاح أو ترميم لواقع سلبي اتخذه البعض بعيداً عن القانون وروحه.

تلك بديهيات يفهمها الطفل الصغير عند فرض قوانين بيتية عليه لحفظ العلاقات في المنزل وما في البيت، إلا أن الكيل بمكيالين لطفل دون آخر يجعل منه يشعر بهضيمة نتيجة إنفاذ القوانين عليه دون قرينه وليتحول إلى متنصل عن القانون الذي لا يؤمن بجدواه، بل وليكون القانون إليه أداة قمع لا غير، وهو أقصى مراتب الخطر، حيث يكون مرجع حفظ النظام مصدراً لعدم الثقة ومن ثم للإخلال به، كنظام حاسوبي يخرب ذاته بذاته نتيجة وجود فيروس بداخله.
وقد تضطر بعض الدول نتيجة العولمة وسياق التغيير المتسارع إلى تعديل قوانينها بما يتناسب مع قطار العولمة السريع، فتبدو وكأنها تسير في درب التغيير، وقد تُثبت ذلك حبراً في قوانينها ودساتيرها، رفعاً لتكليف دولي أو “موضة” معولمة، إلا أن العقلية السائدة في تلك المجتمعات تحول دون سير تلك القوانين من حبر إلى أرض. بالتالي تكون “حبراً على ورق”، فعندما تكون هناك سرقات في وضح النهار من ممتلكات الدولة والشعب يكون القانون “حبراً على ورق”، وعندما يتم الاستهتار بعرق الناس وأخذ ما تعبوا من أجله وادخروه دون ضمانات يكون القانون “حبراً على ورق” ، وعندما تُستنزف من خزينة الدولة الملايين لمشاريع لا يكون الناس فيها لا ناقة ولا جمل، يكون القانون “حبراً على ورق”وعندما تُقلّم أظافر التعبير عن الرأي بحجة القانون، يكون الأخير “حبراً على ورق”.
وليس للمجتمع عذر إن نَفَر من القانون واتخذ من الأساليب الملتوية باباً له للخروج من نظم القانون وسلوكه، والحبر موصول للأفراد في سلوكهم، فعندما يتجاوز المرء القانون لركونه إلى نسبه وأصله يكون الأخير “حبراً على ورق”، وعندما يبسط البعض “عضلاته” لإنزال “حق” يظنه له يكون القانون “حبراً على ورق”، وعندما يتجاهل الفرد حقوق الآخرين، من جار أو شارع أو مصلحة عامة يكون القانون “حبراً على ورق”.
بهذا يتم سكب “محبرة” القانون من متنفذ هنا ومن متهور هناك، ومن صاحب سلطة ومن صاحب دكان، وهكذا ينتشر “فيروس” تمييع القانون، وعندها يقوم الضعيف بالتنصّل منه، ويقوم القوي بمجاهرة الوقوف أمامه. وما بينهما تضيع هيبة القانون، وتحدث عملية “ترقيع” له، ليكون النتاج “قانوناً” مشوهاً غير سوي.، متذبذب تقرضه مصالح المتنفذين ذات اليمين ويدفعه تملّص المتجاهلين ذات الشمال.

وما يحوّل القانون إلى أداة “بغيضة” لا يود المرء النظر إليه حتى، عندما يساوي الضحية بالجلاد، أو عندما يقص أظافر من له الحق ويُطيل أظافر الآخر البعيد في حركته عن أمن المجتمع. عند ذلك لا يكون معنى للقانون، فحين يُعتدى عليك في بيتك من قبل لص يريد سرقتك وتقوم بالدفاع عن نفسك وأهلك ومالك، يكون نصيبك دفع “جزية” التعدي على السارق بتهمة التعدي على سلامة الغير!!؟!

إنّ مهابة القانون ومكانته تذوب عندما يتم إطلاق سراح من اعتدى جنسياً على أطفال في مرات عدة فلا يطول به المقام في السجن، كونه أحد أبناء قوم لا يليق بهم المكوث في مكان كذاك، وبذا لا مهابة للقانون حيث يعيث الوحش البشري جهاراً نهاراً وذوو الضحية يكتون بنار القانون!

وتتعدد صور “التلاعب بالقانون” أو “القفز عليه” أو “تأويله” أو “نسيانه” أو “تشويهه”، ليكون محلاً لعمليات “تجميل” أكثر مما تقوم به الكثير مما تُسمى بالنجمات.
وليتحوّل “القانون” إثر كل ذلك إلى “قانون” له أوتاره بدل مواده، وسيكون “القانون” حليف من يعرف الرقص على أوتاره، وحينها تسقط “هيبته”، فلا هيبة لمن يكون للرقص “باعثاًِ” و”مُشجعاً”.
قد تحول القانون إلى” قانون” له نغمه الموسيقي الخاص ، فما أن يُذكر حتى تخشع له قلوب الناس مخافة وهيبة، وترنّ الآذان منه احتراماً وإكباراً، وتسري العرشة في قلوب البعض وتنتعش في قلوب آخرين، ويرقص من له القوة على أنغامه لا اتباعاً لمواده.

وبذا يكون القانون “آلة قانون” يرقص على أنغامها البعض، قد أخرجها من بين يديه، لتكون له “مظلة” وزينة، مظلة لإعمال ما في القانون على ما دونه، وزينة يُظهرها للآخرين، وما بين مظلته وزينته تضيع هيبة القانون، إلا عندما تُرفع البنادق وتنتشر البيادق. فحينها تذهب روح القانون ويبقى جسداً كعجل السامري مركونٌ كشمّاعة أو مرفوعٌ كقميص عثمان.

إن إردنا “تعطيل” أوتار “القانون” الذي يعزف عليه “المقتدرون” وممن يُرفع عنه الحساب والكتاب، ومن أجل إيقاف “الراقصين” عليه، لا بد من جبهتين لا غنىً لأحدهما عن الآخر. هما جبهة من “يصدر” القانون و”ينفذه” وجبهة من “يلتزم به “ وينصاع إليه.

فإذا التزمت جبهة “التصدير” للقانون بما جاء فيه دون اسثناءات تُشوّه قوة القانون وهيبته، فقد نصل إلى تحقيق لعدالة القانون الضامنة للاستقرار والتنمية، فالاستناءات فراغات تحوّل القانون إلى منخل لا يمكن التعويل عليه.

وعندها يغيب “القانون” -للرقص- ليتحول إلى “قانون” -للنظم-. ولا يتأتّى ذلك إلا عبر شحذ همم من المجتمع لإعمال القانون عبر أكثر من طريقة تُفحم “المتجاوز” و”القافز” و”الراقص” على “القانون” و”المطبل” له لا العارف به.

فمن “واضعيه”، عليهم “ضمان” إنفاذه للجميع لكي لا يكون مصدر وهن ومحسوبية، وبالتالي يكون قانوناً منحازاً، ويسقط هدف ظهوره.
ومن “متلقيه”، عليهم العيش فيه وبه، والامتثال لأمره ما دام محافظاً على نَسَق الأمن وقبله كرامة الإنسان.
ومن بين هذا وذاك، نخرج من إشكالية البيضة والدجاجة، من عليه أن يبدأ ومن عليه أن يتبع؟ من عليه أن يُنفذ فيه القانون ليتبعه الآخر؟
“كيفما تكونوا يُولّى عليكم” أم “الناس على دين ملوكهم”؟
عندها نخرج من دائرة الرقص على “القانون؛ إلى دائرة نظم السلوك في ظل “القانون”، وشتّان بين القانونين.

(1)
صحيفة الوسط البحرينية – العدد 2940 – الجمعة 24 سبتمبر 2010م الموافق 15 شوال 1431هـ
http://www.alwasatnews.com/2940/news/read/476134/1.html

Leave a Reply