كيف أغير؟ نظرية السقوط الحر والتموج الأفقي

 مجموعة لفتات ذاتية المنشأ من الكاتب تتناول فلسفة التغيير في المفهوم القرآني عبر التأمل في آياته. واستنطاق الطاقة الكامنة في الكون عبر الفيزياء الرياضية في تعزيز فهم سُنة الله، وهي أهم أساس لحركة التغيير، حتى لغير المؤمنين بالله والذين يعملون بها حتى مع عدم إيمانهم بها.

 مقدمة التغيير …

التغيير هي حركة انتقال من نقطة إلى أخرى، وليس بالضرورة أن يكون أقصر الطرق بينهما هو خط مستقيم كما في المفهوم الرياضي البحت. فذلك المفهوم يسري في عالم ثنائي الأبعاد، أما في عالم ثلاثي الأبعاد أو حتى أكثر، فأقصر الطرق بين نقطتين يمكن تحقيقه بغياب المسافة بينهما، وذلك بطي السطح التي تقع عليه النقطتان، كما لو فعلت ذلك في ورقة مرسوم عليها نقطتان، فعبر طيها تكون قد أوصلت النقطتين بلا مسافة مطلوبة بينهما. مما يعني أن التغيير له ألف طريقة وطريقة، لكنه يتبع قاعدة كونية موحدة ولها عناصرها المتغيرة والثابتة، وفي هذه اللفتات سيكون الحديث عن تلك المعادلة الكونية والتي تم ذكرها في القرآن الكريم بصورة واضحة جداً. والتي أسميتها “نظرية السقوط الحر والتموج الأفقي” للتغيير. سيتم طرح ثلاثية “لماذا؟” و”لمن؟” و”كيف؟” ضمن هذه الحلقات البسيطة والتي تم تقديمها من قبل “كمحاضرة مع تصرف يتناسب مع نشرها للقاريء. ….

أسئلة الوجود الثلاثة وخلق التموجات.

 لمَ نحن هنا؟! وإلى أين متجهون؟! وما المطلوب منا خلال وجودنا الأرضي؟!

 معرفة جواب هذه الأسئلة ستشكل “خارطة طريق-Road Map” واضحة المعالم للإنسان من أجل أن يكون وجوده ذو هدف وغاية ضمن نظام كوني دقيق حد الإعجاز في كل تكوينه.

 لماذا؟ الجواب القرآني للرد على السؤال الوجودي الأكبر هو “وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون” المهمة واضحة لمخلوقَيْن عاقلين هما الإنس والجن معاً، مع أفضلية وتعاظم مهمة البشر، فالتكليف الأول عليهم، وكون الأنبياء منهم ومهمة الإعمار في الأرض “وقفٌ” على البشر دون الجن، وللوصول إلى تلك الـ”ليعبدون”، لا بد من أدوات يمكن تسخيرها لترجمة تلك العبادة بربطها بمفهوم “الاستخلاف” في الأرض وتحقيق القيمة القصوى من الوجود، بتحويل الطاقة الكونية المختزنة في الإنسان إلى “تموجات” تُحدث التغيير وتُكيف الوضع المحيط به إلى ما ينشده من راحة وطمأنينة وبناء العش الفِطري له. ومع تلك القدرة التي يتمتع بها هذا المخلوق الذكي دون سواه، نلحظ منه الشطط والإنحراف عن “عش الفطرة” ليتجه نحو الـ”فرعنة” باغترار قوته بأقصى درجاتها أو ينغمس في “القَرْوَنَة” – نسبة إلى قارون – عندما يشعر بتخمة المال بين يديه، أو يصاب بغرور “البَلْعَمَة” -نسبة إلى بلعم بن باعورا- حين يصيب علوماً ومعرفة تُشعره بنشوة السيطرة الذهنية.

 لذا كانت القوانين الكونية هي المرجعية للتفكير والتدبر وهي المحفّز للتغيير بالرغم من ثباتها، فكان الاستدلال المنطقي للأنبياء عبرها في الخلق وآيات الله في الأرض، وكانت دعوة القرآن الكريم للتدبر والتفكر هي “شرارة” الإيمان للوصول إلى “المعادلة الكبرى”، وهي التي تتضمن الجواب على السؤال الأكبر “لماذا؟”.

 ما هي هذه العبادة المطلوبة، ليتم خلق هذا الكون البديع من أجله؟ ما طبيعتها ليكون الإنسان ضمن أدق وأجمل منظومة معقدة ما زلنا في السطح نرفع اللثام عن بعض مكونات المعادلة الكبرى للكون. ولم يصل الإنسان لهذه القدرة من السيطرة والإبداع فيه إلا من خلال فهم سُنة الله، وسُنته هي قوانينه التي نعيش بها ونسير عليها، وفيها مساحة حرة من التحرك كسعة الكون نفسه.

 

 ما هي هذه العبادة التي توصلك إلى فهم ميكانيكة هذا الكون بما فيها الإنسان نفسه؟

 هل هي الصلاة والصوم والحج والزكاة فقط؟ تلك “مَرْكبات” لها خاصية التأثير إذا ما تم وضع الفكر الكوني الصحيح فيها للتغيير ومن أجل “لماذا”، وإلا تحولت إلى محطات “استنزاف” للطاقة، وحرفٌ لهدفها الأول لتكون “مرتعاً” لمكبِّ الأفكار الخاصة فيها. وآية أخرى تقدم جواب “لماذا” عبر “يا أيها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربك كدحاًِ فملاقيه”، الخطاب لكل إنسان على وجه الأرض، الكدح الإنساني العام له من يراه ويُقيّمه ويُجازَى به. والكدح به استهلاك مضاعف للطاقة من الإنسان. مما يعني وجوب الظفر بمصدر طاقة متجدد لضمان الكدح الحاصل في طول عمر الإنسان. وهذه المعرفة بالكدح هنا “كدحاً” واللقاء هناك “فملاقيه”.

 هناك “إلا ليعبدون” وهنا “كدحاً فملاقيه”، فالعبادة كدح وعمل وتفكر وتبصر وتخطيط ورؤية وإنجاز وترك أثر. و”لماذا” هي الموجة الأم لتردد موجات الأسئلة الكبرى الأخرى والتي تأتي تباعاً:

 لمن التغيير؟ وكيف التغيير؟

 لمن؟

 جوابه الآية الكريمة “إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها”. معادلة بسيطة في تركيبها وبحاجة إلى كدح في تحصيل عناصرها. كل طاقة تنبعث من الإنسان سلباً أو إيجاباً تعود عليه في بناء تركيبته النهائية في آخر مطافه على هذه الأرض، أي تكون شحناته تراكمية مثل طبقات الجو أو الأرض، وهو ما يسميها القرآن بالدرجات “ورفع بعضكم فوق بعض درجات”، وتكون الطبقة الأهم وقمة الجبل فيه هي خاتمة حياته، لذا يكون الدعاء بحسن الخاتمة كونها الطبقة النهائية التي يكون عليها الإنسان قبل انتقاله لعالم آخر تكون المحاسبة فيه على ما عمل وختم به حياته.

 بعد معرفة “لماذا”؟” وهو الدافع، لا بد من معرفة “لمن؟”أي المتلقي، و لمن سيعود التغيير بالفائدة؟ ليكون الإنسان هو الجواب على ذلك. أما كيف؟ وهو السؤال الأرضي الكبير، والذي كان وما زال هاجس الإنسان نبياً أو مصلحاً، مفكراً أو مخترعاً أو حتى ذلك المُغرِّد خارج سربه الرتيب، فيكون جوابه في أعجب معادلة كونية فيزيائية ثابتة يذكرها القرآن الكريم…

 استنطاق التغيير الداخلي وإكمال المعادلة الكونية

 لمعرفة جوهر كل شيء لا بد من فك جزيئاته واستخراج معادلة آلية عمله أو ميكانيكا التشغيل له. والتغيير كأي عملية تخضع لمعادلة تسير عليها، تتضمن عناصر ثابتة وأخرى متغيرة تحفظ نتيجتها “هيبة” النظام الفيزيائي الثابت والذي لا يتغير، وهو تجلٍّ لدقة وعظمة هذا النظام وخالقه. وإحداث التغيير يتحرك في دائرة “سُنة الله” والذي يستلزم توفير العناصر المتغيرة لتكون مقترنة بالعناصر الثابتة للحصول على نتيجة المعادلة الكلية.

 فالتغيير ليس رغبة أو مجرد فكرة تسبح منعزلة في الفراغ، والتغيير لا يتحرك بصورة مجردة دون ترجمان ملموس، والتغيير ليست “موضة” ذهنية فقط. إنما التغيير هي حركة رياضية سماوية محسوبة بدقة، وهو ظاهرة طبيعية عامة كهطول المطر وسقوط الثلج، والمد والجزر وغيرها من الظواهر الطبيعية وقوانينها.

 وفي حال توفرت ظروف مع عناصر معينة تكونت الظاهرة، ويمكن “تصنيع” الظاهرة بعد فهم معادلة تكوينها. فكان المطر الصناعي، والثلج الصناعي وتقنية الـ Nano Technology المعتمدة على فهم تكوين العوالم الصغرى بهدف تمثيل ومحاكاة قدرات تلك العوالم على مقاسات أكبر.

 فالتغيير “معادلة”، يمكن أن يتقنها من يعلم بعناصرها ويعمل على توفيرها. وليس هناك مرجع ذو مصداقية لفهم معادلات الكون والحياة كالقرآن يمكنه أن يقدم “التغيير” بكل تعقيداته في شرح القاعدة بلغة بسيطة ودلالة عميقة جداً في الوقت ذاته. فكانت هذه الآية هي المعادلة، وهي “المركّب الذري” في كيمياء أبهى سلوك بشري يعكس تفرده عن بقية المخلوقات وهو التغيير وفق إرادة الإنسان وخطته متجاوزاً التغيير الجبري، ليكون تغييره اختيارياً ومحسوباً لديه.

لنتأمل بدقة هذه الآية وكأننا نراها لأول مرة: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

 عنصر “التغيير من الله” لا يتحقق وجوده إلا بتوافر “تغيير ما بأنفسنا”. والملفت في الآية عولمة إمكانية التغيير بغض النظر عن المحرك الفكري والديني لمن ينشد التغيير، والدليل ذكر “ما بقوم”، مهما كان إنتماءهم ودينهم وعرقهم وثقافتهم، وكان وصفهم مجرداً عن أي صفة تلحق بلفظة قوم.

 فلم يقل “ما بقوم مؤمنين” أو “ما بقوم مسلمين”، بل لم يلصق صفة دينية كانت أو غيرها ب”قوم”. وكان الوصف الوحيد هو فعل التغيير الذاتي فيهم “يغيروا ما بأنفسهم”.

 وهل هناك أبسط معادلة في الكون من هذه؟ إبدأ عملية التغيير من الداخل ليستجيب لك الخارج. وهذا ما يسمونه حديثاً بقانون الجذب “The Law of Attraction” وله كتابه المعروف باسم “The Secret”  للمؤلف Rhonda Byrne، مع أنه قديم منذ أيام المصريين القدماء واليونانيين، إلا أنه ظهر بصورة أكبر في أواسط القرن العشرين مع علم البرمجة اللغوية العصبية NLP.

 وفي المنهج الفكري الإسلامي قانون الجذب مذكور بصورة تُثير العجب وتؤسس لمبدأ يتجاوز المنطق الرياضي المألوف.

 وهي عملية سير إرادة الإنسان مع إرادة الله، وبالتالي تحوّل الإنسان القريب من الله إلى مصدر طاقة ومحل تأثير ملموس، ففي الحديث “عبدني أطعني، تكن مِثْلِي أو مَثَلي، أقول للشيء كن فيكون”! وهنا لا نتحدث عن قانون جذب فقط، بل قانون تحكّم أيضاً.

وتلك المرتبة موجودة ومثبتة واقعاً من خلال معاجز الأنبياء وكرامات الأولياء ومَدَد الصالحين. وآية التغيير تعطي القدرة المفتوحة لأي إنسان على وجه الأرض في حال تطبيق شرط المعادلة الكونية وهو البدء بالنفس. انطلق من دائرتك الصغرى في التغيير لترى أثر ذلك “تباعاً” وكتحصيل حاصل خارجاً، وهذا وعد إلهي على بياض -كما يقولون-، ( غيِّر سنغيِّر ).

 فالله يقدم النتيجة لمن يدرك معادلة الحياة التي خلقها، حتى لو كان العامل بها غير مؤمن به تعالى. فترى شعوباً متقدمة في السلوك والإنتاج كالشعب الياباني الذي عمل بالمعادلة الكونية وقانون الجذب وعلى رأسها المعنى العملي للآية الكريمة، فكانت النتيجة أن تحوَّل هذا الشعب من صدمة الدمار والتراجيديا إلى ثورة الإعمار والإنتاجية. وكذلك هي المجتمعات التي ترفع من قيمة فهم معادلة التغيير، فتستجيب لها قوانين الكون.

 فكلما تعمَّق المجتمع في فهم ميكانيكية عمل ما يحيط به وما هو فيه، كلما اقترب من “زِر” القدرة المتوقعة للتحكم به.

 فلا غرو إنْ رأيتَ مجتمعات متقدمة وتتمتع بالقدرة والقوة، لأنها أدركت تلك المعادلة الكونية الخالدة، التي تعطيك النتيجة بدقة متناهية ما دمتَ تُحقِّق عناصرها فيها. فالكون يسري وفق سُنة الله على الجميع، فالنار تُحرق المؤمن والكافر، فطبيعتها الإحراق، تلك هي معادلتها التي لا تنفك عنها إلا عند إبطال طبيعتها ولا يكون ذلك إلا بإرادة صانعها وبحكمة منه، كما في قصة نبي الله ابراهيم الخليل “عليه السلام” فلم تحرقه نار النمرود، بل كانت له برداً وسلاماً!!

لتُدرك طاقة التغيير عليك بفهم معادلتها الثابتة. قُم بترتيب البيت الداخلي في ذاتك تتغير عناصر الخارج آلياً عند ذلك. تغيَّر اليابانيون والتمسوا الإرادة الصلبة والتخطيط المتقن سبيلاً لهم، وتغير كل العالم لهم. تحول المجتمع الياباني إلى أنموذج وهوية Model & Brand.

 وهذا من أقصى ما يمكن تقديمه عند التغيير، لتتحول إلى مصدر مُلْهِمٍ له بعد أنْ تقتبس منه وتعمل منه. إن سنة الله لا تفرق بين قوم وقوم أو بين جنس وجنس، سُنة الله معادلة ثابتة تعكس حكمته ودقته وشديد نَسَق نظامه، فمفتاح التغيير بين جنبيك، ليكون العالم كله بين يديك.

 لكن ما تفاصيل معادلة التغيير وعناصرها تحديداً؟!

 

معادلة “التغيير” الكونية…

تمثل الظواهر الكونية قوالب معرفية جاهزة للإنسان، كونه الخليفة على هذه الأرض حسب المنظور الإسلامي. وهو مُحاط بأوسع بيئة تعليمية بسعة الكون، بدءً من نفسه وامتداداً إلى حجم العالم المحيط به، “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.

هذا العالم الذي يخضع لكل القوانين الفيزيائية والرياضية مُوصلٌ عقلاً إلى مرحلة “هضم” حكمة الوجود، فضلاً عن اتخاذ تلك القوانين سبيلاً مُترجِماً للإيمان بتلك الحكمة، “وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”. ولا يتوقف نظام الخلق في أسبابه ومسبباته نتيجة عدم وصول الإنسان للحكمة من ورائها والتسليم بعظمة مُوجدها. وإلا لما وصل غير الموحدين لله لاكتشاف أسرار كبيرة في هذا الكون، ولما وصل غير المؤمنين إلى فك شفرة معادلات حياتية معقدة، ولَكَان كل ذلك “وقفٌ” على “المؤمنين” فقط. وهذا غير وارد أبداً.

فالمعرفة تلزمها حركة وجهد وتجربة وعناية وبحث ومتابعة، وهذه أساسيات استحصال العلوم التي لا تشترط “الإيمان أو الإسلام” للفرد الباحث لكي يظفر بها. فالكون له قواعده، ومن يفهم قواعده يتبوأ منصب التحكم في الأرض مهما كان توجهه الفكري، أكان مسلماً أو غير ذلك. والدعوات القرآنية للتفكر والتدبر في أنفسنا وما يُحيط بنا هي دروس عملية للوصول إلى القوالب المعرفية التي تقدمها لنا الطبيعة والكون للإنسان من أجل رُقيِّه العلمي لخدمة راحته وتطوره وبسط اليد على الأرض.

 ومن تلك الظواهر الطبيعية التي تشد الإنتباه وتدعو للتأمل العميق، هي ظاهرة “التموّج في سطح الماء عند سقوط جسم عليه”، حيث تتعامد عوامل كثيرة لخلق هذه المحصلة التي نراها بشكل طبيعي غير مُلفت لنا، إلا في حال الإلتفاتة الفنية لها عبر تصوير بصري إبداعي أو تقديم جديد لها، وما عدا ذلك، فقد تم تصنيفها في عقولنا بأنها ضمن خانة “الأمور المعروفة -العادية جداً-”، إلا أن التأمل العميق فيها يُفضي إلى قوانين كونية كبرى، تنسحب على الإنسان في سلوكه الأرضي. فعملية الإسقاط المعرفي من مكونات الطبيعة على الإنسان وضرب الأمثلة هو من ضمن منهج قرآني أصيل، بل أن ذلك سبيل إنساني عام، تراه في أدبيات الثقافات والحضارات المختلفة، في قصص “كليلة ودمنة” وأساطير اليونان وتاريخ الفراعنة وحضارة المايا وغيرها من الحضارات الضاربة في القدم.

 إلا أن ما يميز الهوية القرآنية في عملية إسقاط الأمثلة الطبيعية للإنسان في مجتمعه، هي العملية التكاملية التي تنشد للإنسان الوعي الكامل بالكون وخالقه وتوظيف كل أسباب القوة في الأرض من أجل هدف تأصيل أنسنة الإنسان وارتباطه الحركي بالسماء من أجل الإنسان نفسه، كرامةً وحريةً وإنتاجاً وتطوراً. وعوداً إلى ظاهرة التموج على سطح الماء عند سقوط ثقل عليه، نرى فيها عمقاً جميلاً يمكن أن يكون “صورة مصغرة” لعالم الإنسان، وذلك في حال القراءة التطابقية بين هذه الظاهرة والسلوك الإنساني، وبعد معرفة المشتركات بينهما. فما المشترك بين سقوط حجر مثلاً في بركة ماء راكدة وبين آلية إحداث التغيير في مجتمع ما؟ وهنا تكمن معادلة التغيير الكونية الجميلة والعميقة لدى الإنسان.

فلنأخذ هذه الظاهره عنصراً بعنصر ونجري عملية الإسقاط على عناصر حركة التغيير المطلوبة لدى الإنسان. عندما تُريد أن تُحدث “تغييراً” في سطح ماء البركة، تقوم برمي حجر عليه. وهنا تعمل كل القوانين الفيزيائية والرياضية لنرى إثرها الموجات التي تتشكل من نقطة سقوط الحجر.

والتشبيه هنا للتعلَّم من الطبيعة التي أوجد الله فيها كل هذه القوانين لنعرف أيها نستخدم ولأي هدف وكيف. فعوامل إحداث الموجات يتطلب التالي:

 أولاً: سطح سائل قابل للتموج والتغيير بناء على إحداث القوة فيه. والماء هو من أبرز الأمثلة على ذلك، وفي غياب هذه الخاصية لن نرى التموجات التي ننشدها. والإسقاط الإنساني هنا في وجود بيئة لها قابلية في التغيير، ويمكن العودة إلى ذلك للمشتركات الاجتماعية، اللغوية، الدينية، الفكرية والاقتصادية، والعديد من العوامل الأخرى التي تسمح بإحداث أثر ولو بدا صغيراً.

 فكانت بيئة قريش سطح أقرب للصخر منه إلى السائل ومع ذلك أستطاع النبي محمد (ص) بوزن رسالته أن يجعلها تتموج للسماء به. لذا، علينا البحث عن المنطقة الرخوة لمقاومة التغيير في المجتمع عبر المشتركات ليكون التأثير منطلقاً منها، فكانت دعوة النبي (ص) في بداية الإسلام لمن يرسلهم للتبليغ إلى الإسلام أن يخاطبوا الحَدَث من الناس، أي الشباب، كون عقولهم لم تيبس بعد جرّاء البرمجة الجماعية حينها. وفي ذلك تأمل لطيف عند التفكير في وضع خطة تغيير، على مستوى فردي أو مجتمعي.

 ثانياً: وجود جسم ذو وزن ، وليس المهم حجمه، فقد تكون هناك ورقة ضخمة إلا أن تأثيرها أقل بكثير من كرة حديدية بحجم قبضة الكف لها تأثير أكبر منها، لذا المهم هو الوزن لا الحجم.

  وهنا لطيفة أخرى، فالمهم ما تعمل به لا ما تعلم عنه، والمهم ما تملك من حكمة ومعرفة لا مقدار ما صليت وصمت فقط، فكانت الأحاديث التي تحث على العلم والمعرفة وتفضيل صلاة العالم على الجاهل. وكيف نحصل على هذا الوزن؟ من خلال المعرفة، والعلم الخبرة والسلوك المُنتج وكل عوامل زيادة الوزن لمن يريد التأثير.

 ثالثاً: لن يكون هناك تأثير البتّة في حال انعدمت الجاذبية ولم يستقر لا الماء ولا الثقل. ويتمثل ذلك في أهمية إدراك سُنة الله في خلقه، مما يتطلب لمن يريد التغيير فهم أكثر للإنسان والمجتمعات، والعوامل المؤثرة فيه ودراسة وهضم ومعايشة المجتمع ليفهم “مفاتيح” أبوابه المغلقة التي يكون التغيير من وراء فتحها. فكان الأنبياء من بني قومهم لا غرباء عنهم. ادرس مجتمعك، اعرف نقاط قوته وضعفه، قم بتحليل SWOT (نقاط القوة والضعف والتحديات والفرص) له، وأدرِك مكامن التغيير الممكنة فيه، وقم بالتنفيذ. والأمر يسرى على دائرة العائلة كما الفرد على حد سواء.

 رابعاً: من الضروري “غياب المعترضات” عند سقوط الجسم على السطح السائل، وإلا غاب التأثير. من قبيل الهواء الشديد أو من يلقف الوزن قبل سقوطه على سطح الماء. ومن المعترضات في حال طلب التغيير هي، إنعدام الثقة أو ضعفها للذي ينشد التغيير، وغياب أو ضبابية أو تناسي الهدف .

 وهناك نقطة يمكن وصفها بالعامل الخامس، وهي أنه كلما زاد وزن الجسم وارتفع عن سطح الماء، كان التموج أكبر وأشد.

 وبالتالي ، كلما علا مبدأ الإنسان المُغيِّر زادت التموجات وارتفعت، لذا يكون تأثير النبي من أعلى مستويات التأثير كون مبدأه عال جداً. فعندما ترفع مبدؤك يزداد أثر تغييرك ولو بعد حين. والأمر يسري في السلوك المجتمعي كما في أي حقل آخر كالعلوم مثلاً. يُذكر أن ثرية أوروبية كانت مُغرمة بالرياضيات والفيزياء قامت بتفنيد رياضي دقيق لإحدى النظريات المشهورة في زمنها بأوروبا، لكن لم يُعر أحداً إهتماماً بها، فاعتبروها “تتسلّى” بذلك لا أكثر. وبعد مرور ١٠٠ عام على رحيلها، اكتشف العلماء أنها كانت محقة في نقدها الرياضي وبصورة تدعو للدهشة. فلها وزن البحث العلمي، وقامت برمي جهودها على سطح “قد لا يبدو سائلاً” في وقت الرمي، إلا أنها رحلت قبل أن ترى أن موجات تأثيرها قد ارتفعت عالياً بعيداً عن نقطة السقوط الحر لوزنها. وهنا تأتي نكتة لطيفة جداً، وهو الإيمان بعمق وثقل الرسالة التي تسعى للتغيير تحت ظلها ولو لم ترَ آثارها في حياتك بعد، أي أن تعمل لها وأنت غاض الطرف عن عامل الزمن في تحصيل ثمارها، لا من باب عدم وضعها في الحساب، بل من عنوان الأمل الطويل في تحصيل الأثر.

فكانت دعوة نبي الله نوح (ع) الطويلة، وكل الأنبياء والصالحين والمصلحين والثائرين والمبدعين، يعلمون يقيناً أن نتاج تضحياتهم تؤتي ثمارها بعد حين، وقد لا يكونون موجودون على الأرض ليروها، إلا أن ذلك يدفعهم من أجل معادلة إحداث “الموجة العُليا” بعيداً عن نقطة سقوط وزنهم على المجتمع، أي نقطة بداية تكوين الأثر. وبإدراك هذه العوامل الأربعة مع الوضع في عين الإعتبار للعامل الخامس، وهو علو وزن المؤثِّر يرفع من مستوى موجة التغيير.

 هذه المعادلة الكونية للتغيير، يمكن اتخاذها منهجاً عملياً في إحداث الأثر ونشره. ويكون الرهان الحقيقي على الإنسان المُغير كنبي أو مصلح أو ثائر أو عالم أو باحث أو مثقف أو حتى رجل الشارع الذي يحمل همّ التغيير عبر وزنه وعلو مبدئه، يكون على الإدراك الحقيقي لسُنة الله وهو ممكن حتى لغير المؤمن بالله حتى، وهو نصف الطريق، والنصف الآخر يكون على إدراك طريق الله، وهو طريق الإنسان المُكرّم الحُر العاقل المنتج. وعندما تجمع بين سُنة الله وطريق الله، تكون قد ظفرت بفيزياء الكون هنا وبكيمياء الحب هنا وهناك، وما بينهما رياضيات إحداث الأثر لتكون تحت مظلة حديث نبوي جميل يوجه كلامه إلى إنسان التأثير الجامع بين الفيزوكيماء الرياضة الإمام علي (ع) بالقول:

 ( يَا عَلِيٌّ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ).

 أَحْدِث تغييراً، تترك أثراً…

Leave a Reply