شهر رمضان بين سيريالية الأجساد وحرب الهويات


شهر رمضان بين سيريالية الأجساد وحرب الهويات

ماذا يضيف الزمن المقدّس للفكر المدنّس؟
جعفر حمزة

للإنسان قدرة “الساحر” وخفة “البهلوان” إذا ما أراد توظيف الأدوات المحيطة به من أجل الإنجذاب إلى قُطب يهواه دون غيره. هذا إذا كان مغناطيس هواه أكبر من جاذبية أي مبدأ أو معتقد يؤمن به.
ويسري هذا الأمر على كل ما يُحيط به، مادةً ومعنى، سلوكاً وفكراً، عُرفاً وديناً، فَيُحيلُ الأشياء إلى مصنعه الخاص، ويُضيف عليها مكوناته ونكهاته، لتخرج بنفس المُسمى وباختلاف الجوهر.
شهر رمضان من بين تلك الأشياء التي تحولّت في مصنع ذوات السواد الأعظم من المسلمين إلى “مكنسة” ذات برمجة “تسحب” ما يتوافق مع التعريف الجديد لمعنى “شهر رمضان”، الذي اتخذ صوراً عدّة للعيش فيه وإظهاره وممارسته.
تلك البرمجة المتمثلة في سلوكيات ومفاهيم تعتمد على النمط الاستهلاكي في أعظم مصدرين للإنتاج في أي مجتمع بشري، وهو الوقت والغذاء، واللذان أصبحا عُنصرين يُستهلكان لا يُنتجان في شهر رمضان.

وفي مقارنة بين النسخة الأصلية لشهر رمضان والتي يمكن الإطلاع عليها والتمعن فيها عبر النصوص الدينية المقدسة، من القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية والسيرة، وبين النسخة “المشوّهة” لا المقلدة التي بين أيدينا اليوم، تتبين فوارق التصنيع المشوّه الذي أنتجناه وقدمناه لأنفسنا ولأجيالنا وللعالم، على أن شهر رمضان مرتبط بطقوس يتخذ الأكل فيها مكانة مُلفتة، وكأنها حالة إرضاء تعويضي عن الإمساك، ويتخذ فيها اللهو البصري مرتعاً أيضاً، في حين يكون معناه هو الزهد فيه والشعور بالآخر بجوعه وعطشه، وهو زيادة اتساع السلوك الإيجابي في المنزل والعمل والشارع، لأن هناك فرامل تضبط سرعة ردات الفعل في غيره من الأشهر، تلك الفرامل تتمثل في معنى “اللهم إني صائم”، كعنوان يضبط ويسيطر على أي سلوك سلبي أو مستهلِك للطاقة المبعثرة دون نتيجة.
فالنسخة الأصلية تطرح “مُعسكراً” روحياً واجتماعياً له إسقاطاته الإيجابية في الترابط المجتمعي والاقتصادي والصبر والتحمل، مما يبث “النَفَس الطويل” لأفراد المجتمع، وكأنهم في حالة تأهب حركي مُديم طوال الشهر الكريم. 
أما النسخة المشوّهة، فهي تطرح “مُسكراً” روحياً وبصرياً عبر حملة مكثفة، تتخذ من أسلوب “حصان طراودة” تكتيكاً لغزو الساحة المقدسة الدينية لهذا الشهر، ويُعينها في ذلك في ذاتها الآلة الإعلامية الضخمة الموجودة من جهة، والقبول الخفي والمُعلن للناس كطرف مُستلهك ومتفاعل. وبالتالي تزداد نتاجها السلبي المستهلك للوقت والمستنزف للطاقة، من خلال برامج وأمور أصبحت “طبقاً رمضانياً” لا بد منه على مائدة الإفطار اليومية.
في النسخة الأصلية يكون الارتباط الروحي عالياً جداً بحكم خصوصية الزمان الذي يُفيض على الإنسان المسلم نفحات تعيد من شحن طاقته الروحية والتي يكون لها انعكاس اجتماعي ملموس، من خلال زيادة درجة الإحساس بالإنسان الآخر في جوعه وعطشه وتعبه وظروفه القاسية بشكل عام، وتمثل الأدعية الرمضانية موروثاً كتابياً ومنهجاً يدل على ما نذكر.
أدعية تستنطق الضمير وشفافية الروح وإنسانية الإنسان وعظمة الخالق وكرامة بني آدم، لتكون مذكرة للمسلم في كل وقت، قبل الإمساك وحينه وبعده وقبل الإفطار وحينه وبعده، وفي كل فريضة وعند كل ليلة. ومع هذا الكم الهائل من الأدعية والأذكار ذات الدلالات الاجتماعية والنفسية والسياسية والاقتصادية، هناك بالمقابل في النسخة المشوّهة أذكار بصرية تتكرر على طول الشهر الكريم عبر مختلف النتاجات والسلوكيات التي تَرجَح -للأسف- في كفة ميزان كثير من المسلمين. فيتحول هذا الزمن المقدس من انطلاقة تغيير وحشد اجتماعي دقيق في التحمل والصبر والتشابك الاجتماعي إلى مقبرة للبطون والوقت معاً.
ونرى في النسخة الأصلية نموذج الإنتاج في أقصى مراحل استنفاذ الطاقة العقلية والروحية والجسدية، وهي “الحرب” في معركة بدر الكبرى، في ظروف أشبه ما تكون بالمعجزة، قيظ وحر الحديد والاقتتال والجراح والتعب الجسدي الكبير، مما يجعل من مجرد التفكير أن تجري وأنت صائم بأنه ضرب من الجنون، فما بالك بحرب يلسعك حر الهجير وثقل الحديد ودموية القتال؟!
ونرى في النسخة المشوهّة إعلان حالة “الجسد المُنهك” نهاراً “النشط” ليلاً، مما خلق حالة ربط شرطية، بين شهر رمضان وقلة الإنتاج كماً وكيفاً، لتصبح من صميم سلوكياتنا ولغتنا وجدولنا اليومي فيه.
هذه الحالة المخدرّة المُسكرة في فهم معنى الصوم والعبادة في شهر رمضان أصبحت متجذرة بطريقة لا بد من الاستيقاظ والخروج منها، لنخرج من حالة السريالية الغريبة التي تعيشها أجسادنا فيه، السريالية بين نص ديني واضح وتعاليم إنسانية ترفع، وبين عرف وضخ بصري سلبي يضع.
وهناك سريالية أشد وطأة وأثقل قيلاً، إذ أصبح شهر رمضان ساحة اقتتال بصري من نوع آخر في إثبات التوجهات، ليكون جار “الفوازير” و”المسلسلات الكوميدية والدرامية” -كما يُطلق عليها-، مسلسلات أخرى تتخذ من الإنتاج الضخم لها سبيلاً ومن تقديم وترويج وربما تزوير تاريخ طريقة أخرى لإبراز الخلافات بين المسلمين في الشهر الكريم.
فبعد إسفاف في البطن والفكر أصبح الإسفاف مطلوباً وله من يصرف عليه الأموال لنكمل إسفاف الدين والتاريخ معاً، وبهذا يكتمل مثلث الاستنزاف للطاقة في المجتمع المسلم، وتنتعش سوق الكُره المُقدّس، فلا ضير أن تحقد أو تُهمّش الآخر في شهر الإنسانية والكرامة للإنسان واحترام من وما حولك.
لقد أصبح شهر رمضان-بفعلنا- “ثقباً أسوداً Black Hole”، يشفط كل طاقة ممكن استثمارها وتحويلها إلى نتاج سلوكي وملموس، من خلال التوظيف الذكي لخصوصية هذا الزمن وبما يحويه من أجواء ما زالت تحتفظ به ولو قشوراً.
الرهان الآن على من يحتفظ بالنسخة الأصلية لشهر رمضان، ويقوم بالترويج لها وبثها بين الناس بالأدوات الحديثة المتوافرة، والتي لها من الثقل ما لا يقل عن وزن تلك “الديناصورات” ممن لها المال والماكينة الإعلامية، فلم يعد “الاحتكار البصري” مفردة صحيحة على الواقع، فلا احتكار للصورة، بل القوة لمن يملك: جودة المحتوى، وإبداع الفكرة وذكاء الطرح وتخطيط النشر، وتثبيت القيمة ما بعد البث.
ففي النسخة الأصلية قوة نجهلها، قوة تقدّم أساسيات بناء مجتمع صابر ومنتج ومترابط، مجتمع يتمتع بقدرة التحمّل ورفع درجة الإنسانية عنده إلى أقصاها، لينتج منها ما يدفع المجتمعات نحو الاعتماد على الذات، بما يمثله الصوم من أجلى صور التحمل والصبر من أجل مبدأ ورسالة، فأيُّ سلوك جماعي في وقت منظم يتسم بالقدسية وينشر الإحساس بالآخرين اقتصادياً كما هو في شهر رمضان؟!
علينا التصنيف الفعلي بين النسختين لشهر رمضان، ونأخذ بتلك التي تجعلنا نعيش الواقعية الحركية المنتجة، لا تلك التي تُذيبنا في حالة سريالية في الجسد، بين خمص البطون نهاراً ونفخها ليلاً، أو بين رفع راية الصوم التزاماً وتحويل نفس تلك الراية إلى محراب أو عصاً عليظة نضرب بها من لا يتفق معنا في الفكر أو المنهج، أو بين تلاوة للقرآن وذكر “اسم الله عليها” قتلاً في الغير جسداً أو فكراً وتشويهاً وحقداً.
فتلك قمة التناقض والسريالية التي تتخذ من الدين حبراً لرسم لوحة تبتعد عن واقعية الزمن المقدّس لنخرج بكل مُدنّس لهذا الشهر الكريم الذي اتخذه البعض مطية لترويج بضاعته مُنتجاً أو كُرهاً أو تزويراً وتزويقاً.
ثلاثون يوماً حبلى بإحدى طريقين، الرافع للقيم باتخاذه معبراً للنهضة المجتمعية عبر نهضة النفس وتهذيبها، أو يكون الخافض عندما نجعله مجرد “نكهة رمضانية” لما نود القيام به بطريقة مضاعفة.
نحن بحاجة في الزمن المقدس أن نكسر العادة ونتجه في فهم حقيقي للعبادة. العبادة التي تحث على الإنتاج الذاتي بالتهذيب، والإنتاج الخارجي بالتواصل والتفكير في الآخر من منطلقات الإنسانية، وعبر وضع حِراك منظم تكون نتيجته عطاءات نفسية للأفراد وفكر مغير للأفضل في المجتمعات.
وبدون هذا أو ذاك، يكون شهر رمضان “ملصق ديني- Religious Sticker” تم وضعه على ثلاجة أو تلفاز، لنهب له صفة القداسة لا غير!!

Leave a Reply