كانت أعماله تأخذ بالأبصار كما القلوب، انتهج أسلوباً جذاباً ساحراً ليس في الرسم وحده، وفي ذلك حكاية طويلة عن مقدار الجهد المبذول والدقة البالغة والاهتمام بالتفاصيل التي تنقلك لذلك العالم دون استئذان، فضلاً عن كمية المشاعر والسرد القصصي العميق وجمالية الإخراج.
فلم أجد أحداً لم يقع حباً في سحر أعمال المخرج الياباني هاياو ميازاكي، وهو المؤسس المشارك لاستيديو “غيبلي” المعروف، ومن أبرز أعماله
Spirited Away
Princess Mononoke
My Neighbor Totoro
Castle in the Sky
Howl’s Moving Castle
فكان ذلك الأسلوب مزيجاً من رسم وشغف ورسالة وأسلوب، واختصرها بكلمة “مدرسة”، حتى بات توجهاً خاصاً في طريقة رسم الأعمال، وأصبح ملتصقاً بالثقافة اليابانية بشكل جذري.
لكن تلك المدرسة التي ألهمت الكثير وألهبت مشاعر الجماهير من كل العالم تتعرض إلى “تسونامي” من الذكاء الاصطناعي قد لامس خصوصية هذه المدرسة وبدء يُزعج مؤسسيها بشكل واضح.
حيث انتشرت بشكل مهول في منصة X الكثير من الصور والتي تم تحويلها بأسلوب استيديو غيبلي إلى رسومات و “ميمز”!
وكان وراء ذلك شركة
Open AI
، حيث أصدرت مولد صور جديد بذلك الأسلوب، وانتشر كالنار في الهشيم في فضاء الإنترنت.
فما كانت ردة فعل المخرج هاياو ميازاكي؟
لقد عبّر عن استيائه الشديد من استخدام الذكاء الاصطناعي في الفن، وكذلك العديد. وأصبح فضاء الإنترنت وخصوصاً على منصة X ساحة جدال واسعة بين إغراق مهول لصور بأسلوب استيديو غيبلي، وبين من هم في صف ميازاكي برفض هذا النوع من التوظيف للذكاء الاصطناعي لتقليد أسلوب الاستيديو.
دعونا نتعمق في دراسة ذلك التسونامي للذكاء الاصطناعي وأثره على المبدعين أمثال ميازاكي وعلينا كجمهور ومستخدمين، وأيضاً لا ننسى الرابح الذي يجني من وراء ذلك، وهي شركة
Open Ai
، حيث أن توليد مثل هذه الصور تكون للنسخة المدفوعة فقط “فور أو” “.
قدرة المحاكاة التي تزداد تطوراً لدى الذكاء الاصطناعي فيما يختص بالفنون متسارعة، فلم يعد الأمر بمجرد محاكاة فقط بعد أن يدرس الذكاء الاصطناعي أسلوب الرسم من تفاصيل الخطوط والملامح والألوان ودقة التفاصيل والإضاءة والخلفية وغيرها، فذلك يشكل الإطار فقط للعمل، حتى بات كثيرون مهووسون من باب التجربة والفضول لرؤية صورهم وصور أخرى بهذا الأسلوب الذي أخذنا بسحره في عالم “ميازاكي” الخاص.
بل أصبح بإمكانك التعديل على النتيجة بشكل مذهل، بكتابة أوامر بسيطة واستخدام أدوات يمكن لطفل في السادسة أن يقوم بها!
فهل هذا المشاع من التجربة والمعرفة شيء سيء؟!
كنت أقول “زيادة المشاع يُذهب بالإمتاع”، بمعنى توافر الشيء للجميع بجعله متاحاً وبسهولة، مجرد مبلغ زهيد ٢٠ دولاراً لتنزل التطبيق، ومن ثم تحول كل ما حولك إلى رسم بأسلوب استيديو غيبلي، من ذا الذي سيرفض حينها أو يمتنع؟
وكأنك تأخذ أداة لتحويل واقع تعيشه لحلم يراودك وتريد أن تراه بين عينيك. ولا عجب انتشار عدد ضخم من الرسومات بذلك الأسلوب في الإنترنت. إلا أن كثرة الإتاحة تقلل من تميز الأمر وجاذبيته، وهذه قاعدة منطقية ومعروفة.
لكن ما الذي يدفعنا لاستخدام هذا الأسلوب وبهذه الكثرة؟
١. الارتباط العاطفي، خصوصاً للمغرمين بأعمال “ميازاكي” خصوصاً ولأعمال استيديو غيبلي عموماً، فالمشاعر المرتبطة بتلك الأعمال قوية، وهو ما يدفع المُحب لالتماس الأدوات التي تحول حبه لشيء قريب منه ويراه بين يديه، وكأنما امتلك عصا سحرية، يمكنه معها تحويل عالمه المحيط إلى ذلك الأسلوب. فهل نتوقع منه أن يمتنع أو يتوقف عندما يجد تلك العصا “التطبيق”؟ لا أعتقد سيكون الجواب نعم بداية. لأننا نعيش لحظة السكرة حينها، وما زلنا!
٢. سهولة الاستخدام، وهو الوتر الذي تلعب عليه التطبيقات، الراحة والسرعة والخيارات المتعددة، بمقابل مبلغ بسيط، فالأمر يستحق حينها. فالتجربة السهلة والسريعة والمثيرة تشجع على الاستخدام
٣. عدوى القطيع، كثرة انتشار أسلوب معين في الفضاء الرقمي، يدفع الناس للفضول والتجربة وركوب الموجة، لأن الكثرة تعني “سهولة الأمر” وهو ما يغذي الفضول للقيام به
٤. تحدي التجربة والاكتشاف، حيث أن كثيرون يميلون لمعرفة مواهبهم وإسقاط تجربتهم على ما حولهم
٥. التطبيقات العملية والتجارية، دخل البعض في خط آخر، حيث يتم استخدام الأمر كمادة تعليمية وتثقيفية لبعض الأمور، كون أسلوب “غيبلي” يتميز بجاذبيته، وبالتالي استخدامه لإيصال معلومة أو رسالة سيكون مرغوبا فيه خصوصا للمعلمين والمدربين. بل ويمكن عمل منتجات للبيع من خلال تحويل صور لشخصيات معروفة أو أماكن وحوادث ومواقف لذلك النوع من الرسم وتوظيفها على شكل منتجات، مثل أغطية الهاتف وملصقات وغيرها الكثير. فما دام العمل الرقمي موجوداً، فلا حد لأخذه لتطبيقات عملية متنوعة.
لكن، لحظة .. هذا الأمر كله يصب في مصلحة ذواتنا كجمهور متعطش لفضول وتجربة واكتشاف واستفادة، وقبلنا الشركة المستفيدة من ارجاع حضورها على الساحة بعد ضربة قوية من شركة “ديب سيك الصينية”.

لكن ماذا عن أصحاب الشأن أنفسهم من فنانين ومبدعين لهذا الأسلوب ومن يقفون إلى جانب رفضهم لهذا النوع من الاستخدام والمشاع لأعمالهم؟
١.تقليل من شأن احترام العمل والإبداع، رذ من المهم معالجة مسائل الاحترام للأعمال الأصلية. نحن نتحدث عن أسلوب لأناس ما زالوا بيننا ويودون تقديم المزيد من جمال أعمالهم إلينا، ومن جهة أخرى نرى هذا الإغراق في استخدام محاكاة فنهم لدرجة الإسراف البصري. فهل سيكون ذلك الانتظار والتفاعل والشغف حاضراً لأعمال جديدة لأستيديو “غيبلي” عندما ترى أسلوبه أينما وليت وجهك؟!
٢.تآكل المعايير للأعمال، فالاستخدام المفرط للأمر سيؤثر بشكل ما وواضح في تآكل المعايير العالية التي تمثلها أعمال استيديو “غيبلي”.
٣. اهتزاز للجانب الثقافي، فالأمر ليس بمجرد المحاكاة للشكل، بل هناك الروح، والتي تتمثل بالثقافة والرسالة والسرد، فالاستغراق المفرط في الشكل يُتعب الروح بالنتيجة. هنا نتحدث عن ثقافة يابانية تعتبر إرثاً وطنياً يابانياً، لكنما رسائلها الإنسانية وسعت كل العالم. وهذا المشاع يسحب البساط بشكل ما قوة الأثر للأعمال من الاستيديو الياباني.
ولست هنا بمقام الحكم على الجيد من السيء قدر وقوفي على الأمر والنظر له من زاويا عديدة تستحق النقاش.
ففي جانب آخر، يستسهل البعض الأمر بالقول، إنها للتسلية فقط، ولن يمكننا الوصول إلى روح “غيبلي” أبداً، فالأمر لا يستحق كل هذا التضخيم منك، نحن لامسنا الجسد ليس إلا!
والبعض الآخر يقول، ترك الأمر على عواهنه بهذه الطريقة سيضرب الإثنين معاً، أصحاب الأعمال الأصيلة وما سيشعرون به من امتهان
كما ذكر “ميازاكي” في تصريح له عن الأمر، وسيضرب المستخدمين الذين سيكونون قد امتلأت أعينهم بهذا الأسلوب فلم تعد عناصر انتظار الأعمال الجديدة فضلاً عن تقدير الجهد المبذول فيها حاضراً، فالأمر لهم أصبح بكتابة سطر وضغطة زر ليس إلا!
ويبدو أن البراغماتية قد تلعب دوراً، وادّعي أن الأمر له علاقة بذلك لو نظرنا إلى ثقافتين متباينتين نسبياً في هذا السياق، بين ثقافة تقدّس العمل وهو جزء أصيل في حياتها اليومية، وبين الدقة في المهارة والفن في التفاصيل وهو ما スキルيسمونه “تسوكيمي”.
وتلك هي الثقافة اليابانية وبين الثقافة الأمريكية التي تسعى للظهور والاستفادة من كل ما هو متاح وجعله مشاعاً لزيادة الربحية لديها.
ما أراه هو واقع حاصل من الذكاء الاصطناعي وهي موجة تكبر ولن تضعف، والعمل على حدها بمقال هنا أو اعتراض هناك لن يشكل حائط صد لها مع كل هذا التدفق من مشاع التجربة والرغبة في الاستخدام وسهولة التمكين من العمل عليها.
هل هذا يعني الاستسلام للأمر لتكون شركات الذكاء الاصطناعي خاطفة للأعمال الفنية ما دامت تملك القدرة على المحاكاة الرهيبة لها؟
قبل أن اختم مقالي بإجابتي، فإن استيديو غيبلي يستخدم أدواته القانونية للحد من هذا الهدر في استخدام أسلوبه من قبل شركات الذكاء الاصطناعي. انظر للخطاب من الاستيديو بهذا الخصوص. وللعلم فإن نظام الملكية الفكرية للأعمال الفنية، وربما يشمل الأمر الأساليب أيضاً وهو ما استنتجته من خطاب الاستيديو، يمتد إلى ٧٠ عاماً، حيث تصبح الأعمال مشاعاً بعد ذلك، وما دام الاستيديو تأسس في ١٩٨٥، فإن أعمالهم وأسلوبهم محمي بموجب ذلك القانون والحماية تشمل الأفلام والرسوم والموسيقى، ومن المرجح أن تستمر الحماية بعد ٧٠ عاما من وفاة المؤلفين الرئيسيين، وهو ما يعني حماية أطول لحقوق استيديو غيبلي

تخيل أن يتم الأمر الآن تحت أعين “ميازاكي” وهو على قيد الحياة؟!
ومع كل ذلك، وبافتراض استمرار هذا التسونامي. يبدو أن على “ميازاكي” وغيره الاستمرار في أعمالهم، وذلك لسببين:
. مهما حاول الذكاء الاصطناعي محاكاة الأعمال، قد يمكنه ذلك شكلاً لا روحاً ولا رسالة، وهذه هي قوة “ميازاكي” وفريق استيديو “غيبلي”، والناس عشقت وما زالت روح “غيبلي” وليس جسده فقط
. سيكون السباق محموماً بين الابتكار والمحاكاة، فكلما ظهر أسلوب وأخذ مكانته في قلوب الناس، ستأتي الشركات مختطفة ذلك بالمحاكاة، وهكذا سيستمر الأمر دون توقف
. وسيكون ارهان دوماً على أمرين لأصحاب الفن الأصيل، وهو الابتكار والأنسنة أكثر في سرديات أعمالهم، وهو ما لا يدركه الذكاء الاصطناعي
وسيبقى الأمر دوماً لأولئك المبتكرون السباقون القريبون من الإنسان ومشاعره، لأنهم هم الأولون القادرون على رسم الخطوط الأولى، حتى لو جاء من بعدهم الذكاء الاصطناعي وسار بمحاكاته على أعمالهم.
فليبق الأمر بأن هناك من يبتكر ويشعر ويقدم وله أصالة العمل، وهناك من يحاكي وينشر للعمل، وقد تبدو الصورة هذه بها تكامل وبذات الوقت تناقض، لأن الأمر ببساطة قيد التغير ولم يتوقف بعد، ولن يتوقف!

Leave a Reply