
نعمل نحن البشر كأجهزة استقبال ولها القدرة على تلقّي العديد من الرسائل الحسية المتنوعة في اليوم الواحد، وتلعب حاستي البصر والسمع أكبر دورين في صياغة التصورات عن أنفسنا وعن محيطنا، ولا عجب أن أكثر الإنفاق لترويج الأفكار والسلوكيات يتم ضخه في هاتين الحاستين “السمع والبصر”
وكما قيل “القريب من العين قريب من القلب”، ومع كل هذه التخمة البصرية التي لا تتوقف أبداً، فقد تم الربط بنجاح، وذلك من خلال الهواتف “الذكية”، فبات كل هذا التدفق البصري والسمعي يأتيك بين أناملك أينما كنت
فهل ذلك الإغراق البصري من الدعايات والإعلانات من علامات عالمية أو محلية تدعونا للوقوف على هامش هذا الازدحام، بدعوى أن معظم المحتوى ترويجي أو تافه أو ربحي أو .. والقائمة تطول
وحديثي هنا عن الذي يحملون الرسائل ذات القيمة الإيجابية للتغيير بالمجتمع، ويرهبون الدخول في ذلك السوق المزدحم، أو يقللون من شأنهم أمام كل هذه الضوضاء البصرية التي لا تتوقف
فهم سلوك المستهلك في سوق مشبع
ولو نحسبها بنظرية الاحتمالات والمنطق البحت، فضلاً عن التمعن بالسلوك الإنساني، قد نصل لهذه النتيجة
كلما أوغل الإنسان في إشباع رغباته من منتجات وميول، سواء كانت مادية أو نفسية، ومع كل هذه الخيارات والسهولة والسرعة بل وتملّك شعور “السيطرة والاختيار والتحكّم”، فإنه يدخل في دائرة الإدمان بلا ريب، ولا أدل على ذلك من وجود سلوك FOMO، والتلاعب بالدوبامين وإسقاط نظرية “سكينر” بشكل رهيب في حياتنا اليومية
فكلما أصبحت الخيارات لإشباع تلك الرغبات متعددة والمساحة واسعة، هناك نسبة لا بد منها تريد أن تكبح هذا الاندفاع مع هذا التيار، وتعود للحياة المتزنة والتي تتسم بالانضباط ووجود رسالة وقيم تعيش عليها، دون الانجراف لكل هذا التسونامي الذي باتت يعزز سلوك المقارنة والفردانية والتأثير على العلاقات الاجتماعية وتعزيز ثقافة الاستهلاك المفرط
تلك النسبة والتي لا يمكن قياسها حالياً بشكل علمي وعملي، إلا من خلال زيادة التجارب المعززة للقيم الإنسانية عبر الوسائل الرقمية المتعددة، والتي من خلال التفاعل والمبيعات والنشر، ستكون أدوات قياس فعلية لمعرفة نسبة من يفضل التواجد لمثل هكذا محتوى، ولا أعتقد أنهم نسبة قليلة
ويمثل المحتوى الديني، والحديث هنا عن المحتوى الإسلامي تحديداً أحد أهم المساحات التي تحتاج إلى نظر، وذلك في نوعية الرسائل وطريقة عرضها، لصناعة أثر ممكن على الجمهور المستهدف في خضم كل هذا الضجيج الذي لا يتوقف
الطبيعة المميزة للمنتجات الاجتماعية الإسلامية
فما الذي يميز المنتج الإسلامي الاجتماعي عن ما سواه؟
حجم السوق وثبات الطلب، خصوصاً في المناسبات الدينية السنوية، مثل شهر رمضان وموسم الحج والأعياد
الدافع العاطفي والقيمي في الشراء، فالارتباط الروحي بتلك المنتجات، لما تحمله من رمزية تجعلها محل قبول
حساسية المحتوى والدقة فيه، لكي لا يقع المنتج في إطار التأويلات والفهم الخاطئ وبالتالي التأثير على المنتج ومبيعاته
الاعتماد على التوصيات وانتشاره بشكل أكبر من مجرد الإعلانات التقليدية، خصوصاً إذا ما تم ترويجه من شخصيات دينية ومؤسسات ذات موثوقية لدى الجمهور المستهدف
الدعم الاجتماعي لهذه المنتجات التي تحمل الجانب الرسالي فيها
وأهم نقطة هو غياب التنافسية والابتكار في مثل هذه المنتجات، مما يفتح المجال على مصراعيه للفرص، لكن ليس لوقت طويل طبعاً
التوسع والابتكار في سوق المنتجات الإسلامية
ولئن عددنا المنتجات والتي يتم تُعنون بـ “منتجات مسلمة” أو تتوافق مع الشريعة الإسلامية، فهناك الكثير، إلا أن مجال التوسع والابتكار ما زال مفتوحاً، من بين المنتجات على سبيل المثال لا الحصر
الحجاب الرياضي، وقد دخلت في ذلك شركات عالمية، مثل نايكي
الساعات الذكية الإسلامية
البوركيني، وهو جمع بين البرقع والبكيني للسيدات اللاتي يرتدين الشواطئ، فيحافظن على حشمتهن مع الاستمتاع بالبحر، فضلاً عن وجود شواطئ تم تخصيصيها للسيدات كما هو في تركيا
المنتجات الحلال، مثل مستحضرات التجميل الحلال
الخدمات المالية الإسلامية
السياحة الحلال، عبر الفنادق المتوافقة مع الشريعة الإسلامية الأكل الحلال، والذي يشكل رقماً مهولاً بالسوق مقارنة ببقية كل ما ذكرناه
الأرقام تتحدث عن نفسها
وإن أردنا الحديث بالأرقام، فإليك التالي
يبلغ حجم سوق المنتجات الحلال عالميًا 3.30 تريليون دولار في عام 20252.(١). هذا السوق ينمو بمعدل سنوي مركب قدره 12.42% ومن المتوقع أن يصل إلى 9.45 تريليون دولار بحلول عام 2034
وتشير بعض المصادر إلى أن حجمه يبلغ 2.8 تريليون دولار مع نمو سنوي بنسبة 7%1
وتهيمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ على سوق الأغذية الحلال، حيث قدر حجم السوق في هذه المنطقة بـ 1.49 تريليون دولار في عام 2025
ممكن أن يُعزى نمو هذا السوق إلى عدة عوامل، منها زيادة عدد المستهلكين المسلمين، وتكامل شهادات الحلال، وتنوع المأكولات. كما أن المنتجات الحلال أصبحت مرتبطة بالجودة العالية، مما جعلها تجذب أيضًا المستهلكين غير المسلمين
فهل يكفي أن يكون لديك منتج موجّه للمسلمين أو من هو مهتم بذلك المنتج حتى لو كان غير مسلماً، دون الاعتناء بطريقة إخراجه وعرضه؟
وجود مساحة ربحية نتيجة قلة المنافسين حالياً في هذا القطاع لا تعني إهمال الجوانب الأخرى الاحترافية في المنتج. لأن دخول القيمة المضافة لتلك المنتجات سيسحب البساط من تحت من يركّز فقط على الطلب والمنتج دون طريقة العرض والتسويق المؤثر


ما بعد المنتج: دور التصميم والعلامة التجارية
إن التركيز على المنتجات الإسلامية له طابع استدامة مميز بشكل مذهل لمن تأمل فيها، وذلك أن دورة المنتج تبدأ من مفهوم قيمي له ارتباطات متشعبة، سواء على مستوى الفرد في استخدامه للمنتج، لو لاحظت لم استخدم كلمة استهلاك، لأنها تمثل نوعاً من الابتعاد عن روح الإسلام في عدم الاسراف والاقتصاد وشراء ما تحتاجه لا ما ترغب به، فضلاً عن التركيز على التدوير كونه إحدى صور حفظ النعمة
وتزداد قيمة المنتج كلما ارتبط بصور الإسلام في التضامن المجتمعي، والاهتمام بالجانب البيئي والإنساني، فضلاً عن المسؤولية المجتمعية
فيكون من المهم في هذه الحالة التركيز على طريقة تصميم المنتج وعرضه، والذي سيعطي الانطباع الاحترافي والمتقن للمنتج، ولذلك تأثيره على سعر المنتج
ومن زوايا الاهتمام
. اختيار الاسم
. تصميم الهوية البصرية “الشعار”
. التغليف
. طريقة عرضه بالمكان، سواء بالواقع أو افتراضياً
. تصاميم الإعلان عنه
وفي كل ذلك قيمة مضافة للمنتج
تجربة عملية في تصميم المنتجات الإسلامية
ومن باب التجربة في هذا المجال، قمت بتصميم منتج افتراضي، مُستوحى أساساً من الزخرفة الموجودة على غلاف المصحف الشريف، وهو الكتاب المقدس لدى المسلمين، وبإضافات مبتكرة فيه، مع تطبيقه على منتجات متنوعة
ويمكنكم مشاهدة بعض التطبيقات لهذا التوجه والذي هو عبارة عن سلسلة منتجات تم تطبيق رسالة التصميم فيها، سواء من مشروبات أو ملبوسات أو إكسسوارات وغيرها
لم أتوقع أن تكون ردة الفعل مميزة حتى أن البعض سألني من أين يمكنه شراء المنتج، ولم يكن كل ذلك إلا تصوراً متواضعاً جداً
وهذا ما دفعني لكتابة هذا الموضوع، لوجود فرص كبيرة عندما يكون المنتج قريباً من الناس ويعكس ما يرون هويتهم فيه، ويعززها بشكل مختلف
الاستفادة من التكامل الرقمي والاستدامة
تخيل يكون هناك محتوى مرتبط بمنتج ما، مثل المشروب الغازي عبر مسح رمز QR، لتشاهد فيديو أو تصميم عن الطرق العديدة للاستفادة من هذه العلبة المعدنية، والاستفادة منها كحاويات تخزين أو زهرية أو مصابيح زينة أو أدوات تعليمية إو حاويات طلاء أو أدوات تنظيف وغيرها الكثير
ويمكن عمل لذك لكثير من المنتجات التي تذهب لسلة المهملات وتعزيز سلوك التدوير لها!
فرصة تاريخية وسط تحولات السوق
وربما ما يزيد من الفرص المتاحة هو موجة المقاطعة لعدد من المنتجات والشركات بسبب دعمها للكيان الصهيوني والذي يقوم بعملية إبادة جماعية في قطاع غزة بدولة فلسطين لأكثر من عام كامل. ذلك الفراغ الذي ستتركه المقاطعة سيترك مساحة جيدة لمنتجات بديلة محلية وغيرها لتأخذ دورها بشكل ملتزم ومستدام، وليس مجرد “استغلال فرصة”
إنّ ما نمر به خليط معقّد من التغيرات الجيوسياسية مع وجود إرادة حرة لكثير من الشعوب، سواء المسلمة منها أو غير المسلمة، لتعزيز قيمها الإنسانية والالتقاء في مساحات مشتركة كثيرة بينها
إن أكثر ما نحتاجه هو التفكير والعمل باستراتيجية استدامة ترتكز على الثقافة والسلوك والتصميم، من أجل تعزيز سلوكيات إيجابية ومُنتجة للمجتمع
الطريق إلى الأمام: التصميم وفق الثقافة والسلوك والاستراتيجية
لإحداث تأثير مستدام، يجب أن يرتكز تصميم المنتجات الإسلامية على تكامل الثقافة والسلوك والتخطيط الاستراتيجي في جوهره. وهذا يتطلب
فهم العقلية المتغيرة للمستهلكين
الابتكار بصدق وبما يتماشى مع الخصوصية الثقافية
إدماج الاستدامة في دورة حياة المنتج
تعزيز الهوية العلامة ورواية القصة الرقمية
مستقبل تصميم المنتجات الإسلامية لا يقتصر على سد الفجوات في السوق، بل يتجاوز ذلك ليشكل حركة تركز على الاستهلاك القائم على القيم، وتمكين المجتمع، وتحقيق الاستدامة طويلة الأمد
الفرصة اليوم ليست فقط لتحقيق الربح، بل لإحداث تحول جوهري ومؤثر في كيفية تصميم المنتجات واستهلاكها وتقدير قيمتها
Leave a Reply