عندما تكثر الخيارات، تشعر بالقدرة وزهو الاختيار والتحكم، فهناك أكثر من جواب لما تسأل، والأمر يعود لك في انتخاب ما تشاء.
ومع هذا الشعور الذي تستأنس به، فهناك عوامل عدّة تدخل في مسار قرارك، لتستند عليها في الترجيح لهذا الخيار أو غيره.
فكلما زادت الخيارات، زادت العوامل التي توثر في اتخاذ القرار. وكأنها علاقة طردية بين زيادة الخيارات وزيادة العوامل التي تصنع القرار نفسه.
ويكون الرهان الأكبر لإدخالك في دائرة الاختيار هو تواجدك في دائرة الانتباه، فلا اختيار دون انتباه، ولا انتباه دون اهتمام، ولا كل ذلك دون الوسيط الأوحد للقيام بذلك، وهو الوقت.
ومن هنا تتم صناعة الانتباه لاخذك من موقع المتفرّج إلى منصة المتفاعل، وذلك عبر هذه المعادلة البسيطة والعميقة:
A = I X T
A= Attention
I = Interest
T= Time
أي أن الانتباه حاصل ضرب الاهتمام بالوقت.
وما كل ما نعمل به إلا صناعة الانتباه منذ ولادتنا حتى مماتنا، وما بينهما رحلة متنوعة الانتباه لا تتوقف، صراخك في طفولتك هي صناعة انتباه لوالديك للالتفات لك والاهتمام بك، فتقرض من وقتهم ما ليس بيسير.
وفي كل مراحل عمرك تحاول صناعة الانتباه، لأنها تمثل لك كإنسان كياناً ومعنى، وهو ما يشير له آلان دو بوتون مؤلف كتاب “قلق السعي إلى المكانة”.
ومع تضخم حركة السوق وتشعبها، وادخال علم النفس بالتسويق ومحاولة فهم أعمق لدماغ الإنسان وكيفية عمله للوصول إلى مكامن التأثير عليه في اتخاذ الفرد لقراراته، من خلال Consumer behavior وغيرها من التفاصيل التي تحلل وتدرس سلوك الفرد، لفهم النمط الذي يسير عليه، وبالتالي العمل على “حقن” تلك الأنماط بمؤثرات لشد الانتباه وبالتالي ادخاله في عالم يرى نفسه مُخيراً وله القدرة في انتخاب ما يشاء.
وطبعاً هذا الأمر له جانب سلبي كما له جانب إيجابي، وكل الأمر في طريقة توظيف ذلك الفهم وكمية البيانات المتوفرة لدى صاحب القرار. سواء حكومة أو شركة أو رائد عمل.
وللوصول إلى “الانتباه” لا بد من توفير أدوات صناعته، ومن بينهما أمرين إثنين
اتخاذ القرار والتصميم
Decision and Design
ولكي نفكك الأمور بشكل عميق، علينا معرفة المفهومين بداية، اتخاذ القرار والتصميم.
-
١. اتخاذ القرار
وهي معادلة معقدة جداً، تتدخل بها العديد من المدخلات القديمة والجديدة واللحظية، فضلاً عن مؤثرات نفسية وجسدية ومتعلقة بالزمان والمكان وحتى الظروف الفيزيائية، كدرجة الحرارة والرطوبة وغيرها.
ويمكن تقسيم اتخاذ القرار إلى مستويات أربع، هي:
أولاً: القرار الروتيني، النمط المكرر
ثانياً: القرار الاستراتيجي، صناعة نمط
ثالثاً: القرار العاطفي
رابعاً: القرار الأخلاقي
فالقرار الروتيني يكون مبنياً على نمط مكرر، كاستخدام فرشاة الأسنان يومياً قبل النوم مثلاً، هو قرار حجز مكانه ووقته وطريقته عندك، ومساحة التغيير فيه تكون جدا ضئيلة، لأن العملية أصبحت آلية أو كما يسمونه على وضع الطيار الآلي
The Auto Pilot
والقرار الاستراتيجي بحاجة إلى مدخلات متنوعة، ليتم رسم خارطة طريق ونمط غير متعود عليه، وإن كان صعباً لكنه ممكن بسبب أن متخذ القرار له القدرة والقوة لفعل ذلك.
والقرار العاطفي معتمد ع منسوب العاطفة للمتلقي عند مواجهته موقف معين، كمشاهدة متسول أو رجل كبير بالسن بحاجة لمساعدة في الصعود للسلم أو ما شابه ذلك.
أما القرار الأخلاقي، فتعود للمرجعية الأخلاقية للفرد والمجتمع، وينعكس ذلك في سلوك المجتمع أكثر منه من القوانين الموضوعة فيه، مثل الإبقاء على الموظفين دون تسريحهم في جائحة كورونا والبحث عن بدائل أخرى لتجنب الخسارة مثلاً في الشركة.
مجمل أنواع هذه القرارات تكون بيد كلاً من العلامة والجمهور المشتري، والأمر مشترك بينهما
ففي القرار الروتيني مثلاً، كتفريش الأسنان، يمكن للعلامة أن تتواجد في هذا القرار بتقديم خيارات يسعى لها العميل، كون سلوكه روتيني وبحاجة لمنتج مُستهلَك.
2. التصميم
هناك أنواع أربع للتصميم
أولاً: المظهر والشعور، ويكون ذلك عبر العرض المرئي للمنتجات والخدمات أو الرسالة المطلوب حضورها
ثانياً: الجانب العملي، وذلك عبر أداة التفكير التصميمي
ثالثاً: المكونات وتفاصيل الخدمة أو المنتج، ويكون ذلك عبر البحث والتطوير
رابعاً: فهم الثقافة والاستدامة، ويمكن ذلك عبر منهجية ASEES
مثال على كيفية تغيير السلوك من خلال استخدام إحدى أنواع التصميم، وكان ذلك عبر تجربة اجتماعية بسيطة، تم من خلالها تغيير سلوك يومي على نمط معين إلى سلوك جديد وذلك بسبب “الحقن الانتباهي Attention Injection” في النمط الروتيني للسلوك.
فقد تم تحويل سلم عادي إلى سلم موسيقي، بحيث كل عتبة منه تصدر نغمة خاصة عندما تصعد عليها، وقد صنع هذا الأمر سلوكاً جديداً، أبعد معظم الناس عن استخدام السلم الكهربائي الذي كانوا يستخدمونه دوماً.
شاهد الفيديو:
https://www.youtube.com/watch?v=2lXh2n0aPyw
طبعاً هناك بعض الأمور يجب وضعها في عين الاعتبار، وهي أن السلم العادي ليس بطويل مما سيجعل التجربة متعبة للناس، والتغيير المطلوب ليس بجذري، وإنما بسيط وعملي وجذّاب وممتع. وتلك العناصر الأربع مهمة في صناعة بداية التغيير في السلوك.
وهنا تجربة أخرى ذكية من كوكا كولا، واستهدافها لطلبة الجامعة خصوصاً السنة الأولى، حيث لاحظت أن الطلبة الجدد منطوون على أنفسهم، وبهم خجل يمنعهم من كسر ذلك الحاجز للتعرف على زملاء جدد لهم. ولكسر ذلك عمدت كوكا كولا إلى ابتكار ذكي في أغطية زجاجاتها، بحيث لا يمكن فتح زجاجة إلا بزجاجة أخرى، وهكذا يكون بدء التعارف والكلام وكسر الجمود بين الطلبة!
شاهد الفيديو:
https://www.youtube.com/watch?v=P7ADWd9Psag
هنا استهداف ذكي باستخدام التفكير التصميمي “النوع الثاني” مع التنفيذ الجميل “النوع الأول”.
وكل هذه الأنواع تكون بين صاحب العلامة أكثر من كونها عند الجمهور، فالعلامة هي المبادرة في ذلك والمصنعة لأنواع التصميم الأربع المذكورة.
فمن يتخذ القرار فعلياً هنا؟
من يقرر لينتخب مستوى من التصميم هي العلامة
ومن يتأثر ويتفاعل بالتصميم ليأخذ قراره هو العميل
عمدت شركة GLADE إلى الاستفادة من جائحة كورونا، وانزواء الناس في منازلهم، ومعرفة أن هناك “فرصة” للترويج الذكي لمنتجها.
وذلك من خلال استغلال وسائد الهواء التي تأتي في صناديق المنتجات، عند ارسالها من المتجر إلى الزبون.
وتعاونت الشركة مع أكبر متجر في آمريكا وهو Wallmart باستبدال وسائد الهواء الموجودة بأخرى تحوي عطراً جوياً ومطبوع عليها تصميماً للمنتج.
وكان كما أرادت، والنتيجة ارتفاع أربح GLADE أثناء الجائحة، وتقديم تجربة عميل مبتكرة وبسيطة وجذابة جداً.
شاهد الفيديو
https://www.youtube.com/watch?v=DCAU4ZuhCPs
في هذه التجربة هناك اتخاذ قرار ذكي من العلامة بما أسميه استراتيجية “الجودو”!
لعبة الجودو تعتمد حين المواجهة على استغلال اتجاه الخصم ووزنه ضده، وما قامت به هذه الشركة الذكية، هو استغلال اتجاه استخدام الوسائد الهوائية ووزنها “أي زيادة طلبها” بسبب أن الناس في منازلهم في وقت الجائحة، واستفادت من كل ذلك لصالحها، لتكون حاضرة بصرياً وملامسة ورائحة وتفاعلاً مع الجمهور المستهدف من خلال تلك الوسائد الهوائية المعطرة.
تلك التجربة ترسم لنا خطوات مهمة للدمج بين حاجات ورغبات الجمهور من جهة وبين قدرة ورسالة ومنتج الشركة من جهة أخرى، فيكون السير وفقاً لخطوات ثلاث، وفي كل خطوة يلزمها مراحل من العمل.
أولاً: من جهة الشركة، حيث تتخذ القرار بناء على المدخلات من المعلومات إضافة إلى مدخلات الاستراتيجية، ويمكن تمثيلها بأهم مُدخلين، وهما:
DDD
البيانات الراسمة لاتخاذ القرار
Strategt
الاستراتيجية المرصودة للعلامة
ثانياً: وهي المنطقة المشتركة بين العلامة والجمهور، حيث يكون التصميم هنا متداخلاً بين اختيار وقرار العلامة وجاذبية ذلك للجمهور المستهدف. وفي هذه الخطوة كما أشرنا سابقاً يمكن العودة للمستويات الأربع من التصميم والتي يمكن للعلامة انتخاب الأنسب لها ولجمهورها.
ثالثاً: هي منطقة الاختيار للجمهور، والتي تتوزع على قرارات مبنية بعضها على روتين أو عاطفة أو جنبة أخلاقية.
وخلال هذه المراحل الثلاث لا بد من وجود مسار يضمن السلاسة بينها، مع المرونة في التغيير لتحقيق النتائج المرجوة.
فإن تم تقديم منتج قطعة أثاث على سبيل المثال، مكتب أطفال، فالقرار الأول يكون على وجود جمهور له القدرة والرغبة في شراء مثل تلك القطعة، خصوصاً إذا كانت نسبة التعليم مرتفعة في السوق المستهدفة، وأولياء الأمور من ذوي الطبقة المتوسطة أو أكبر، بالتالي رغبتهم في شراء مكتب خاص لأطفالهم يزداد، لاهتمامهم بالخصوصية وتوفير بيئة تعليمية جيدة في منزلهم، وطبعاً عدد القطع تكون متوفرة في الموسم المعروف بالعودة للمدارس. ولا يكون ذلك إلا بمعرفة حاجات الجمهور المستهدف أولاً “الأطفال مع أولياء الأمور”، سواء من ناحية أن يكون المكتب عملياً، آمناً، مبتكراً في بعض الأحيان، فضلاً عن تضمنه لبعض التصاميم والرسائل التي تشجع على الابداع والتحصيل الدراسي مثلاً. وكل ما ذُكر مساحات مفتوحة للتجديد إذا تم بناءها على منهج التفكير التصميمي.
وإيصال الجمهور لمرحلة اتخاذ القرار مبني على الوصول والصورة المقدمة من العلامة للجمهور المستهدف، حتى تكون محل جذب وأحد أفضل الخيارات للجمهور.
طبعاً هناك عوامل أخرى قد تساعد على الارتباط بالعلامة أكثر عند الشراء أو بعده، من قبيل الحصول على خصم ما، أو حتى يكون الخصم خاص للطلبة المتفوقين مثلاً، وهكذا تتعدد خيارات تحسين التسويق وتركيزه بناء على المدخلات وفهم الجمهور المستهدف.
وكل ذلك عملية طبيعية في صناعة السمعة للعلامة، ليتحدث العميل عنك بإيجابية، لا بد من ترك انطباع مميز لديه لتكون علامتك عنده خياراً مقدماً عن غيرها.
والخطوات المذكورة آنفاً بين القرار والتصميم والاختيار والعلاقة بينهم تسعى لرسم علاقة متسلسة مهمة لأي عمل، وهي:
١. عودة العميل ROC: العمل على استهداف عميل سابق أجدى وقتاً وجهداً ومالاً من استهداف عميل جديد، طبعاً لا يعني هذا عدم توسعة دائرة العملاء، لكنما التركيز على أهمية استهداف العميل الموجود فعلاً بين يديك
٢. عائد الاستثمار ROI: وينعكس عودة العميل على الربحية واستمرار ونمو الأعمال
٣. عائد السمعة ROR: وتكون المحصلة أن علامتك “سمعتك” تكون رأس مال غير مادي لكن له تأثير كبير في قيمتها السوقية، مما يجعلها محل جذب للكوادر وللشراكة أو الاستحواذ أو التوسع.
عندما نُدرك أن هدف العلامة ليس توفير خدمة أو منتج فقط، ففي ذلك فليتنافس المتنافسون، لكنما هو صنع تلك العلاقة بين العلامة والقيمة التي تتميز بها، لتتعدى العلامة مرحلة البيع إلى مرحلة الإنتماء والارتباط، حينها تكون العلامة جزء من حياة الفرد والمجتمع ومعززة لقيمه، وليست ببعيدة عنه، أي تتحول العلامة من شكل منتج أو خدمة لقضاء حاجة إلى “وجود يعزز المعنى للفرد والمجتمع”.
يقول مارتي نيوماير في كتابه “Brand Gap”:
لقد انتقلنا من الاقتصاد القائم على توفير الحاجات للعموم إلى الاقتصاد المهتم بتفاصيل الحاجات ورغبات الجمهور.
نية التسويق انتقلت من التركيز على المزايا إلى الفوائد إلى التجربة وصولاً للإنتماء ضمن قبيلة ذات قيم موحدة.”
مع كثرة الخيارات وزيادة التنافسية وارتفاع ذوق الجمهور، بات على العلامات العمل بجد أكثر على صناعة قبيلتها المعززة بالقيم المشتركة، للحفاظ على استدامتها بالسوق، مع فهم أعمق لآليات تساعدها ليس بالحضور فقط وإنما في صناعة الأثر أيضاً.
الانتقال من عودة العميل ROC مروراً بعائد الاستثمار ROI ووصولاً إلى عائد السمعة ROR، يلزمه فهم صحيح وعملي ومُقاس بين اتخاذ القرار وانتخاب آلية التصميم المناسبة.