منع الماء وقتل الأطفال وسبي النساء
منع الماء وقتل الأطفال وسبي النساء
جعفر حمزة
لم يأت الزمن بملحمة تحمل عناوين أخلاقية الإعلام و الدعاية للمبادئ من جهة و التضليل الإرهابي في الإعلام من جهة أخرى كمثل ما قدمته واقعة كربلاء.
فما زالت تلك الواقعة تقدم المزيد من دروس فهم الذات و محاورة الآخر، أياً كان توجهه و مذهبه، و هي من القيم الإعلامية الكربلائية المهمة التي وظف الإمام الحسين (عليه السلام) المفردات الصورية و الكلامية في محاورة الآخر، و إكمال الحجة عليه، إذ لم يكن التحرك الحسيني منطلقاً من قراءة المعاش آنذاك دون الأخذ الفعلي بالتعتيم الإعلامي القائم و المغلف بالصبغة الدينية الكفيلة لتوجهات السلطة القائمة حينئذ بتمرير تصوراتها السياسية التي تصب في مصلحتها الخاصة وضرب القوى المعارضة تحت الحزام.
و الناظر لخارطة الإعلام الحسيني منذ بدء الإنطلاقة الأولى للتحرك نحو كربلاء إلى ما بعد واقعة الطف، يلحظ الكثير من خطوات “التعبئة الرسالية” التي كان يحملها الحسين في قبال ” التشويه الإعلامي” التي اتخذته السلطات الحاكمة في عصره ، و التمثل الأكبر في ثورة الخطاب الإعلامي الحسيني اتخذ من كربلاء محطة له ، لقد كان التصعيد الإعلامي الحاكم و المشوه لمسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) أخذ أكثر من بُعد، فتارة يتحرّك ذلك التصعيد بحجة دينية عبر وضع الأحاديث التي تتقص من حركة الحسين تارة ، أو من خلال إرهاب إعلامي مصاحب في كل من الكوفة و البصرة لسد طريق الصوت الحسيني لأهل العراق تارة أخرى، إذ كان التسلط الإعلامي الواحد قد أخذ مكانته في نفوس الناس بترغيب و ترهيب من السلطة الحاكمة آنذاك.
و في هذه القراءة المقتضبة نتناول أبرز الصور الإعلامية التي شهدتها واقعة الطف من معسكر الإمام الحسين(علية السلام) ومعسكر يزيد بن معاوية بقيادة عمر بن سعد، إذ يتضح مبدأ الأخلاقية الدعائية و الإعلامية في الحرب و المواجهة العسكرية.
الصورة الأولى : مصارحة الأصحاب
إمتاز الإعلام الحسيني في عاشوراء بالصدق و الصراحة و الواقعية ، و لم يمارس فيه الخداع و التضليل ، و قدم الحسين كل المعلومات المتوفرة لديه و المتوقعة على الساحة لأصحابه و أهل بيته دون استثناء ، و استمر الحسين(ع) في ذلك من بدء إنطلاقه لكربلاء إلى آخر ليلة له قبل قتله، و انعكس ذلك الإعلام الصادق في خطب الحسين لمعسكر بن سعد حيث لم يستخدموا اللف و الدوران و التدليس في طرح الحقائق ، و إنما عرضوا نصائحهم و آرائهم واضحة لا لبس فيها و لا غموض.
الصورة الثانية : خطب الإمام الحسين(ع)
تمثل خطب الإمام الحسين(ع) في كربلاء تعرية واضحة للإعلام المضلل الذي أخذ أثره في بعض الناس ممن كانوا مع جيش عمر بن سعد، و دفع بعضهم بعد سمعاها إلى الإنضمام إلى معسكر الإمام الحسين(ع) بالرغم من الفارق العددي الواضح بين الجيشين ، فكثير من الروايات تذكر بأن جيش عمر بن سعد كان يبلغ تعداده سبعين ألفا كحد أقصى وثلاثين ألفاً كحد أدنى في حين كان أصحاب الإمام الحسين(ع) لا يتعدون خمسة و سبعين رجلاً أو ثلاثة وسبعين رجلاً على رواية ثانية.
” أيها الناس أنسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها و انظروا هل يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي ،ألست ابن بنت نبيكم و ابن وصيه وابن عمه و أول المؤمنين بالله و المصدق لرسوله بما جاء من عند ربه ؟” كانت الخطبة تصريحاً واضحاً و مباشراُ لمكانته لمن يريدون قتله و إكمال الحجة عليهم ، ولم يكتف الحسين بذلك، فالرسالة الإعلامية يجب أن تصل بشتى الصور ليتسع انتشارها، و كانت الخطبة الثانية ذا حركة أبلغ و خطاب أشد ، فقد أخذ الإمام الحسين مصحفاً ونشره على رأسه و وقف بإزاء القوم و قال :” يا قوم إن بيني و بينكم كتاب الله و سنة جدي رسول الله (ص)”، ثم استشهد على نفسه و ما عليه من سيف النبي (ص) و لامته و عمامته ، فأجابوه بالتصديق، فسألهم عن إقدامهم على قتله ، فقالوا : طاعة للأمير عبيد الله بن زياد.
وكان رد الإمام الحسين (ع) :” ألا و أن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة و الذلة و هيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك و رسوله و المؤمنون”.
ويكشف الخطاب الثاني إقراراً من معسكر بن سعد بمكانة الحسين الدينية، وما احتكامه لكتاب الله و سنة جده الرسول الأكرم(ص) إلا إعلام قد اكتملت ملامحه للطرف الآخر في معرفة من يقاتل ، وما جوابهم له بالتصديق بأنه حفيد الرسول الأكرم و رغبتهم بنزوله على طاعة ابن زياد وإغفالهم للاحتكام إلى كتاب الله و سنة رسول الله الذي قدمه و تم رفضه من قبلهم، إلا دليل آخر على إتمام الحجة الإعلامية المقدمة من معسكر الحسين(ع)، و كانت من نتائج ذلك توبة الحر بن يزيد الرياحي أحد القادة الكبار في جيش عمر بن سعد و انضمامه إلى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام).
الصورة الثالثة : توبة الحر بن يزيد الرياحي
شكل الخيار الذي اتخذه الحر بانضمامه لمعسكر الحسين(ع) ضربة قوية للإعلام لعسكري لجيش بن سعد،و كانت نتيجة ذلك الخيار انسحاب جزء من الجيش و إن كان بسيطاً، و الملاحظ الدقيق لحادثة كربلاء بتفاصيلها الثانوية يرى أن الافراد المنسحبين أو المتعاطفين من جيش ابن سعد شكل خللاً كبيراً في المصداقية العسكرية الإعلامية التي جهد على تنفيذها مراراً و تكراراً حتى بعد قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وما أمر ابن سعد للجنود بحرق خيم نساء معسكر الحسين(ع) بقوله”إحرقوا بيوت الظالمين ” إلا محاولة يائسة في عملية لتغليف الظلم و العدوان بتعابير دينية للتبرير ، فضلا عن ” الشريط الإخباري” الذي يُلقى على الناس عن سبايا الحسين بأنهم خوراج”.
الصورة الرابعة : منع الماء
بالرغم من تقلص مساحة التعاطف وتقدير ظروف الآخر في ساحة المعركة والصاع بين طرفين، إلا أن هناك زساسيات ُوم هذه الجهة أو تلك بالإريحية والقوة والنخوة والشهامة، وكل تلك القيم التي تغيب أكثرها إن لم تكن كلها في ساحة الصراع و على أرض المعركة التي تشرب الدماء، ومع ذلك نرى أنموذجاً إنسانياً نبيلاً يحتفظ بالعناوين العامة للإنسانية حتى مع وجود الخلاف الذي يؤدي إلى سفك الدم والإحتراب بين الإنسان وأخيه.
ومنع الماء من الخصم، لا يمثل قوة للجهة المانع، بل ضعف فيه يحاول أن يتمسك بمطلب حياتي يسلبه من الخصم، وما قام به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في معركة صفين من السماح لجيش معاوية بن أبي سفيان بشرب الماء، بالرغم من منع الأخير الماء عن جيش الإمام علي إلا مثال على القيم الإنسانية النبيلة التي يتبنّاها أهل البيت (ع).
وقد قام جيش ابن سعد بمنع الماء عن معسكر الإمام الحسين، ليس عن الكبار والمحاربين من جيش الإمام الحسين، بل حتى عن الأطفال والنساء. ويمثل هذا الموقف دنو في أخلاقيات الحرب والمواجهة، وهي التي تعتبر بمثابة إختراق لقوانين الحرب في العصر الحالي.
الصورة الخامسة : قتل الرضيع
كانت الصورة الأبرز في معركة كربلاء ، إذ تمثل الطفولة البراءة و السلام بأجلى معانيها ، فعندما أتى الحسين بابنه عبد الله الرضيع نحو القوم يطلب له الماء بعد أن حوصر و منع من الماء ، شكلت تلك الصورة المأساوية في جيش بن سعد تضارباً في آراء الجيش، ففرقة من الجيش بكت عندما رأت الرضيع ، و أخرى طلبت له الماء و ثالثة رفضت ذلك، فما كان جواب القائد العسكري(عمر بن سعد) إلا قتل الرضيع بسهم من حرملة الأسدي و ذبحه على صدر أبيه الحسين(عليه السلام)،كانت الصورة مشهودة للجميع بلا استثناء ، صورة إنسانية صافية لم تدع لمعسكر العدو من حجة في البقاء لقتال الحسين.
الصورة السادسة: صلاة الحسين(ع) و أصحابه
صورة إعلامية تفند المزاعم الدينية التي دفعت جيش العدو لمحاربة الحسين(ع)، و هو النزول على أمر من كان حاكماً باسم الإسلام آنذاك، فلم يُسمح للحسين و أصحابه بإقامة الصلاة ، إذ كان رد العدو لهم رمي السهام و الرماح عليهم و قتل من كان يحمي ثلة من أصحاب الحسين(ع) المصلين معه، و سقط قناع الديانه كما سقط قناع الإنسانية ، و جرد الحسين(ع) كل المبررات الواهية لجيش بن سعد التي دعته لقتاله ، و لم يبق لهم من الإنسانية إلا صور وجوههم و من الدين إلا بعض أسمائهم لا غير.
الصورة السابعة : رض جسد الحسين
إن كانت محاربة حفيد الرسول وقتله مبرراً تحت طائلة “الخروج على ولي الأمر”، وما ولي الأمر إلا ساقط للشرعية ديناً وسياسة ومنطقاً، ويكفي القارىء للتاريخ أن يعرف ما قيل في حق ولي الأمر آنذاك “يزيد بن معاوية”
إن كان قتال الحسين مبرراً، فأي مبرر يمكن سوقه لحز رأس الحسين ورفعه فوق القنا، ورض جسده بالخيول، وسلب ما عليه من ثياب وهو ميت، فضلاً عن سلب خفه وخاتمه؟؟
أي صورة هذه الذي يقدمها جيش ابن سعد للعالم، الهدف من حز الرأس، إمعان في القتل وتبرير للإنحطاط بغلاف ديني أسموه “الخروج على ولي الأمر” و”الخوارج”؟؟
لم تكن كل تلك المسوغات والحجج تصمد أمام ما ارتكبوه من “مجزرة” و”تمثيل” و”إنتهاك” لمعنى الإنسانية.
الصورة الثامنة : سلب النساء
لم يكن قتل الإمام الحسين (ع) وأهله وأصحابه بما فيهم عبدالله الرضيع، حتى أتى “الإرهاب الأموي” على ما تبقى من معسكر الحسين (ع)، حيث تم الهجوم على نساء الحسين وسلب ما عليهنّ من مقانع وحُلي، لا ليسقط القناع الأخير من حقيقة الحراك الأموي المتمثل في جيش عمر بن سعد فقط، بل ليظهر الوجه القبيح البعيد عن كل مفردات الإنسانية البسيطة، فهل كان سلب النساء وضربهنّ مبرراً؟، وهل ترويعهنّ ومعاملتهنّ والأطفال بوحشية مسوغاً؟، ربما يكون الجواب “نعم” لعقلية الجيش الذي يحارب تحت مبرر ديني، فمعسكر بن بنت رسول الله وخليفة المسلمين الشرعي “حتى على المستوى الرسمي، بعد وثيقة الصلح بين الإمام الحسن (ع) ومعاوية)، هذا المعسكر بات مُستهدفاً لإسقاط كل الوحشية والقمع لأنه “خارجي”، وهذا المبرر يفتح الباب على مصراعيه لرفع كل المحظورات في التعامل مع “الخوارج”.
ويمثل سلب النساء تحطيماً لآخر ما بقي من صور الإنسانية في جيش عمر بن سعد.
وتكفي صورة واحدة مما قدمناه، وهناك الكثير لإسقاط كل الحجج والمبررات التي كانت والتي ما زال البعض يصدع بها ليومنا هذا إزاء ثورة الإمام الحسين (ع).
و يستمر الإعلام الحسيني بامتداد زينبي سجادي لما بعد واقعة كربلاء ، حيث كان يلزمها سنداً إعلامياً في قبال الدعائية الرسمية للنظام الحاكم المروج لمقولة “الخوارج” التي حاول إلصاقها بسبايا الحسين(ع) ، فقد كانت الدعاية الرائجة في الكوفة و الشام بأن السبايا “خوارج” على النظام “الشرعي” القائم والمستند “شرعيته” من الأحاديث النبوية الشريفة الموضوعة، و كانت حكمة الحسين(ع) إصطحاب النساء معه ، و أي نساء ، فقد كانت أخته السيدة زينب (عليها السلام) القناة الإعلامية المتنقلة لمبادئ الحسين(ع) و لبث الحقائق التي حوصرت في كربلاء ، و كانت “المراسلة” الكفؤ بعد الإمام زين العابدين لنقل الوقائع للمجتمع المسلم آنذاك ، و نزع غشاوة ” العقل الجمعي” الذي صاغته القنوات الرسمية الحاكمة .
و كانت خطب السيدة زينب (ع) و فاطمة بنت الحسين و أم كلثوم و الإمام السجاد(ع) إعلاماً رسالياً متنقلاً يبث الحقائق ليس على المستوى الشعبي فقط ، بل كانت المواجهة الإعلامية قد بلغت أوجها في مجلس بن زياد حيث أخذت السيدة زينب (ع) بالمبادرة في صد” التضليل الإعلامي” و الآخر بثنائية قوية جمعت بين الإمام السجاد و السيدة زينب في مجلس يزيد بن معاوية، و ما اختيار الزمان والمكان لتقديم الرسائل الإعلامية الرسالية التي حجبت عن الكثير من المسلمين ممن “بُرمجوا ” إعلامياٌ على القناة الرسمية الحاكمة فقط دون غيرها، إلا دلالة على قراءة واقعية و ذكية تميزت ببعد نظر مطلوب في ظل “إرهاب” رسمي و حجب الناس عن معرفة الحقائق.
إنّ القراءة المتأنية لإعلام كربلاء يستلزم الوقوف العلمي لمعرفة أسس الخطاب الرسالي والتوظيف الواقعي لمفردات الزمان والمكان في خطاب الآخر، الآخر المسلم والآخر الإنسان، لظلت كربلاء نبع متجدد وهي كذلك في خطاب الذات والآخر، وما زالت واقعة لطف سبيلاً لإستهلام القيم والمبادىء والخطط في بناء الفرد والمجتمع إلى يوم القيامة، وذلك لسبب بسيط هو أن كربلاء “صبغة الله” التي لا يفاضل عليها، و”سنة الله” التي لا تتبدّل.