LEGO

جعفر حمزة

التجارية، ٢٠ فبراير ٢٠٠٨
كانت لديهما نفس اللعبة، ولم يُطلب منهما شيء، فليس هناك داعٍ لذلك، فقد أخذ كل منهما لعبة تركيب قطع الــ ”LEGO” المعروفة، ولم تكن تلك نهاية الحكاية بل بدايتها، فكانت القطع تتناثر يمنة ويسرة بين يدي الأول دون أن يركّب ولو شيء بسيط، في حين كانت تتكاتف في يد الآخر لتمثل مجسمات وأشكالاً جميلة . تلك هي صورة لعب طفلين بتلك القطع التي تهدف إلى تعزيز القدرة الذهنية في التركيب لدى الطفل، وبالتالي تعزيز النمو الإدراكي والمخيلة. لستُ بصدد تفسير نفسي أو تربوي لذلك المشهد، إلا أن ما شدني في ذك المشهد هو تطابق واقعي لصورة أكبر تشهدها الساحة العلمية وتأثيراتها الاقتصادية والمعيشية في البلاد العربية، ولنكون أكثر دقة، فالحديث يدور هنا حول المشهد المحلي وغياب القدرة الإدراكية في تعزيز النفََس العلمي والإنتاج الذاتي والابتكار، ويبدو أن الصورة الحالية تميل إلى ذلك الطفل الذي يرمي القطع “الموارد البشرية والمادية” دون تكوين حقيقي لشكل أو مجسم معين “إنتاج واعتماد على الذات”. والحديث مع الطفل بإمكانية استخدام ما بين يديه في تكوين ما هو مفيد لن يكون مجدياً ما لم نقدّم له مثالاً حياً لنفس تلك القطع وبطفل في نفس عمر على الأقل، ليقتنع بأن ما نطرح عليه ليس تنظيراً أو حديثاً في الفضاء بل بالإمكان القيام به. وتمثل التجربة الإيرانية في التقدم العلمي والصناعي وفي مجال البحوث الأكاديمية حجة مضاعفة للقراءة المتأنية لغياب الاستفادة المثلى من قطع الــ “LEGO ” التي بين يدينا على الساحة المحلية، حيث بتنا نضع تلك القطع في أفواهنا أو نحطمها وفي أحسن الأحوال نرميها جانباً بدلاً من وضعها في مكانها الصحيح والخروج بشكل أو مجسم مفيد. لقد وضعنا مواردنا المعرفية والمالية في مكان لا تنتمي إليه. فبتنا نرسم الترف الفكري بأموال أرضنا، ونقذف بالكوادر خارجاً عنّا. إننا نقرأ بين ضفتين، ضفة انغمست حتـى النخاع ولعبت حتى القاع في تلك القطع دون فائدة وبددت كوادرها وطاقتها، وضفة أخرى جارة لنا على الأقل جغرافياً اهتمت في تعمير العقول وصقلها، لأن لديها تحدٍ وحافز “Challenge & Motivator”، وبغض النظر عن طبيعة ذلك الحافز، فإن إيران باتت مجتمعاً منتجاً لا مستهلكاً ومعتمداً على نفسه لا على غيره، بالرغم من كل الظروف المحيطة به. ونحن أولى أن نكون أفضل من ذلك، فقطع اللعب التي لدينا أكثر وحجمها أكبر ومساحة تنفيذ ما يمكننا العمل به أوسع، إلا أن هناك عقليات تميل إلى ترف فكري يقلل ما لدينا من كوادر، ويحجّم مساحة البحث والإنتاج الذاتي، فقد باتت مسابقات الخيول والسيارات وشعر اللاشعر حاضرة وتغيب مسابقات الرياضيات والعلوم، ومنافسات الابتكار والاختراع، لا لشيء سوى أن قطع التركيب للمستقبل ليست بذات أهمية، وبعيداً عن التنظير أسرد لكم ما في الضفة الأخرى (إيران) من إنجازات في المجال الطبي في غضون سنوات قليلة فقط، وإليكم القائمة: إنتاج علاج لمرضى تقرحات القدم السكري، إمتلاك أكثر تقنية متطورة لطب العيون في العالم، إنتاج عقار لمعالجة الجلطة القلبية، إنتاج قصبة صناعية للرئة، إنتشار صناعة العظام في إيران، المرتبة الرابعة في زارعة الكلية في العالم، إنتاج أقوى لاصق ذكي للأنسجة، تشخيص الهوية بواسطة قزحية العين، التوصل لطريقة جديدة لمعالجة سرطان الثدي (١). هذا فضلاً عن الأبحاث العلمية والصناعية الأخرى في مجال الروبوت والكيماويات، وتميز لافت في المسابقات الدولية للرياضيات والفيزياء. لقد بات العالم في صراع علمي وتقني ومعرفي لا مجال للتوقف أو الإبطاء أو التغنّي بشعر نبطي هنا أو هنا، نحن في صراع مع الزمن وصراع مع أنفسنا في كيفية التوظيف الأمثل للموارد البشرية التي بين أيدينا، بتنا في عالم معرفي لا يعرف إلا لغة العلم والمعرفة والتطور التقني، وأين نحن من كل ذلك؟ وما تقديم إيران كمثال إلا لإسقاط حجة أن المعرفة والتقنية ليست محصورة في العالم المتقدم فقط، فإيران وماليزيا أوضح مثالين على الإرادة المخططة للإعتماد على الذات، مثالين من بلدين مسلمين أحدهما في الضفة الأخرى من الخليج والآخر يبتعد عن تجمع العالم الإسلامي الجغرافي آلاف الأميال، فلا حجة عندئذ لمن لا يعرف تركيب القطع والبدء بالإنتاج! وعوداً إلى الطفل صاحب الترف البصري، والذي لا يقدر قيمة ما بين يديه من قطع ”موارد”، فإليكم بعض من قائمة نستطيع تطويرها لنكوّن منها أنموذجاً مُنتجاً لا فاغراً فاه فقط: دعم المبادرات الرسمية والمجتمعية من أجل تطوير سوق العمل المحلي، منها على سبيل المثال مبادرات صندوق العمل. – إنشاء مراكز بحوث أكاديمية وعلمية تبتعد عن الاستنساخ البصري لبرامجها، وتقدّم ما هو ملموس على الساحة المحلية. – تعزيز الإبداع العلمي عبر ضخ ميزانية سنوية للمعاهد والمدارس والمراكز وتقييم مدى إنتاجيتها وتقويمها. -اتباع سياسة التغذية الراجعة الإبداعية، من خلال تخصيص جزء من ميزانيات مشاريع ضخمة للأبحاث والتطوير، مثل مشروع الفورمولا واحد والمشاريع العقارية والسياحية الضخمة في البلد. – التركيز على التعاون العلمي والبحثي في الاتفاقيات الثنائية التي عقدتها الدولة مع الدول الصديقة والجارة، منها اتفاقية FTA مع أمريكا، ووضع خطة زمنية لتخريج كوادر علمية مؤهلة في المجالات التي بها نقص بالسوق المحلية. – سد “فجوة المهارات Skills Gap” في السوق المحلية، من خلال التنسيق بين الجامعات المحلية ومتطلبات سوق العمل خلال عشر إلى عشرين سنة القادمة. -دعم مبادرات إنشاء المعاهد العلمية والبحثية والمصانع في البلد شريطة وجود أجندة لتدريب الكوادر المحلية وتبؤها لمناصب صنع القرار. – إقامة المعارض العلمية وزيادة عددها في العام، من خلال تبنّي الحكومة لها وتعزيز الاستفادة منها. إعادة النظر في المناهج وبث روح الإبداع والإنتاج فيها، يمكن الرجوع للتقرير الخاص بالتعليم في الدول العربية لنرى حجم القطع المتناثرة في أرضنا العربية. ولن تكفيني مساحة العمود لأسرد كمية القطع التي يمكننا أن نستخدمها في سد فجوة المعرفة لدينا. ولكن هذا غيض من فيض. إن قطع الـLEGO موجودة بين أرض الوطن وابن الوطن، إلا أن ماسك تلك القطع لا يبدو راغباً في تكوين شيء مفيد وذو مردود بعيد المدى، ربما لخوف الطفل من أن تُبث الحياة في تلك القطع وتشكل له مزاحمة في وجوده، حاله مثل “دينكيشوت” الذي تخيل أن طواحين الهواء عمالقة يريد محاربتها.

www.arabic.irib.ir(١)

Leave a Reply