خارطة الطريق للانتصار الداخلي
جعفر حمزة
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ
النساء 104
تمتد آيات القرآن الكريم التي تسرد الحدث أو تطرح المبدأ من مكان وزمان الفعل لترسم حينها خطاً يُولد من حادثة نزول الآية ويمتد في اتجاهين متقابلين أحدهما للخلف تأكيداً لسيرة الأولين ولأخذ العبرة والآخر للأمام تثبيتاً لخارطة طريق للاحقين وتقديم الفكرة. فآيات الله عرض فعلي للفطرة وطرح ميزان القوى الكونية والسنُن الطبيعية في الإنسان وما حوله.
وتلك هي إحدى نوافذ القراءة الحركية لكلام الله، لتُشرق الآيات على كل غُرف الحياة بكل مساحاتها وأثاثها، ونتلمّس منها الطريق ويكون سبيلنا معها بيّناً لما نريد وكيف نريد ولمن نريد.
تقدّم هذه الآية الكريمة صورةٌ يجتمع فيها السبب العلمي الأرضي مع الارتباط الروحي السماوي. إذ تدعو الآية للمرابطة المعنوية من خلال عدم الترهّل في كل صور “الابتغاء” للطرف الآخر المُراد مواجهته، فلا مجال للضعف ولا الوهن ولا أي مفردة كلامية أو عملية في ذلك، وليس للتلميج أو التصريح من سبيل للظهور، فيكون النهي عن التهاون بداية السبيل وهو الراسمُ بقوة للتحرّك والمُضي للظفر من “القوم”.
فعدم الوهنُ هو ضمان الاستمرار في إكمال خارطة طريق “ابتغاء القوم”، ونتيجة للمواجهة سيقع الضرر نتيجة الإحتكاك، ولا يقتصر وقوع ”الألم” عليكم فقط، فهو واقع في الطرف الآخر كنتيجة طبيعية وحتمية، فالضرر متبادل و”الألم” في الطرف الآخر كما هو لكم “إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحٌ مثله”، والتبادل في “القرح” كما “الألم” معادلة طبيعية وسُنّة كونية ، تحكمها قوانين التوازن في الكون كما قوانين الفيزياء في الفعل وردة الفعل، فمُحال أن يكون رد الفعل غائباً حتى مع بطش الفعل وقوته، فهذا لا يكون، فردة الفعل إما تكون في لحظة وقوع الفعل أو تكون مؤجلة، وما يجمعها في كلتا الحالتين هو حاصل جمع إحداث الفعل مع الزمن.
فوقوع الضرر أو الألم في أحد طرفي المعادلة ينتقل حتماً ولو بصور مختلفة في الطرف الآخر، لأن الكون من طبيعته التوازن ، وعند انحراف كفتي الميزان تتأثر الأخرى، ليكون المجموع الكلي للكفتين واحدة بحكم سُنة التوازن الكوني.
ومع واقعية الضرر المتبادل تطرحه الآية علناً وتُخبره تذكيراً وتأكيداً، كما هو في قانون نيوتن الثالث
“لكل قوة فعل قوة رد فعل، مساوي له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه يعملان في نفس الخط”.
وردة الفعل ليست بالضرورة تكون من نفس نوع مُحدث الفعل، فعند ضربك بقبضتك على الطاولة فهو الفعل، وترد عليك الطاولة بصوت وألم، قد تكسر الطاولة وهو الفعل، إلا أنها ستترك الألم وربما الكسر في يديك وهو رد الفعل.
واستيعاب هذا الأمر ضروري للجبهة التي تنشد التغيير في أي مجتمع يعيش أي نوع من الحراك أكان سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً أو دينياً أو اقتصادياً، وهذا الاستيعاب مُهم في جانبين:
الأول: جانب صناعة الفعل
الثاني: جانب رفع المعنويات
فعند إدراك أن الطرف الآخر يتأثر بدرجة أو بأخرى بمقدار نوع الفعل المطروح، عندها يُعمل الفكر في الإبداع في صناعة الفعل والجديد منه وطرحه، وأما الحالة النفسية من معرفة هذا الأمر فهو يمثّل تغذية راجعة داعمة لمواصلة إحداث الفعل تلو الفعل، فما دام “الألم” موجوداً في ساحتي الطرفين، فهذا دافع لبرمجة الألم والألم المتوقع حدوثه، ومن ثم التعامل معه على أساس هذه المعادلة الكونية في ساح التغيير والأزمات، بما يضمن التحمّل ودراسة “الألم”.
وتلك المعادلة القرآنية في وقوع “القرح” و”الألم” تسري على غير ميادين الحرب، بل في أي مواجهة من أي نوع، وعندما نتحدث عن طرفين أحدهما بيده السلطة والآخر تمثله الرعيّة فإن حجم “القرح” كبير ومقدار “الألم” غير مُتوقّع.
وإلى جانب أهمية ذلك الإدراك العملي، هناك عامل مُضاف لجبهة التغيير التي تبتغي العدالة والإنصاف
تفتقدها جبهة التسلط والطغيان والعدوان وهو الإرتباط بالسماء “وترجون من الله ما لا يرجون”، وفعلُ الرجاء هذا يُضيف رصيداً في جبهة المؤمنين، ويُعتبر مدداً مستمراً لها من السماء، فبالتالي تكون الحركة ذات بُعدين، بعدٌ عملي واقعي يقرأ متغيرات الأرض وبعدٌ يستمد من السماء قوّة. وبهذين البُعدين تكون معادلة النصر من صبر.
لذا يكون الاستيعاب الحركي لمعادلة “قانون الأثر المتبادل” ضرورياً في توجيه دفّة الحِراك في التركيز بدقة على أمور ثلاث طرحتها الآية الكريمة، وتمثّل بحق مثلث التغيير وامتصاص الصدمات وتحقيق النصر، وأضلاع المثلث هي:
الضلع الأول: التركيز على الهدف بشدّة والاستمرار فيه والتخطيط له “ولا تهنوا في ابتغاء القوم”.
الضلع الثاني: إدراك أسلوب الفعل ورد الفعل والألم المتبادل بين الطرفين، وهو الدافع لدراسة الأثر وصداه “فإن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون”.
الضلع الثالث: الركون إلى المدد المعنوي في الارتباط بالله، وهو رصيد إضافي لفريق التغيير وإحداث التوازن الطبيعي في المجتمع، وهذا الرصيد لا يملكه الفريق الثاني الذي يفتقد هذا النوع من الارتباط، حيث يسقط في يديه كل معاني الصبر والنصر المختزن مع مرور الوقت، والنتيجة أن فريق التغيير يتفوق على فريق الجمود بخطوة مهمة وإضافية وهو -الرجاء الداعم-، الرجاء المفتوح على كل أسباب النصر والتفوق والتقدم في سوح المقابلة “وترجون من الله ما لا يرجون”.
ولئن كانا الضلعين الأولين ضمن حسابات الواقع والمنطق والمتوقع أو المخطط له في أي حركة تجابه مقاومة من طرف آخر، فإن الضلع الثالث هو عنصر لا يمتلكه كثيرون، وبالتالي ميزة الثبات على الموقف والمتابعة لها مدد معنوي كبير عبر “الرجاء” الباني والمُعطي لقوة التحرك للأمام، وهو الوقود الإحتياطي لحركة الفرد الذي يستنفذ قواه الظاهرية في المواجهة، والتي لا تكون كافية، إذ لا بد من مدد معنوي يُكمل معادلة القوة والنصر، عبر الارتباط بالله تعالى بما يكون الارتباط دافعاً لاستخراج كل القوى الداخلية في الفرد وتقديمها في الواقع المادية منها والمعنوية، فتسميها بعض الرياضات بالطاقة الداخلية الكامنة، فهي “التشي” الصينية أو “الكي” اليابانية، هي بلغتنا ثنائية “اعقلها وتوكل” ، الجمع بين حركة الأرض ومدد السماء. وللارتباط هذا ينابيع عدّة من شواهد تاريخية يكونُ المدد الإلهي فيها من صُلب الأسباب الأرضية أو عبر فيوضات إلهية تتخذ أكثر من شكل ولون.
وبتلك الثلاثية يكون المضي قدماً في ابتغاء القوم وتحمّل الألم والمدد من السماء، في تحقيق النصر للمبدأ في كل موقف، هي الآلة والآية بين يدي كل مؤمن يسير على خارطة طريق الانتصارين الداخلي والخارجي. وبتلك الثلاثية يكون محرّك البحث عن النصر في كل ميدان وزمان.
لذا، وإن تحركّت كل الأحاسيس الطبيعية للإنسان في خضم أي مواجهة أو مقابلة، والتي قد تدفعه لليأس تارة أو لحسابات أرضية قد تحد طموحه تارة أخرى، ومع ذلك فإن الاستعراض القرآني يقدّم واقعية المواجهة مع إنارة الجنبة الخفية في معادلة تلك المواجهة، وهي سر نصر كل المؤمنين في التاريخ، أكان النصر بمعجزة أو كرامة أو بتسبيب سبب غير متوقع البتّة.
وبهذا الجمع بين أضلع مثلث النصر، فإن اليأس مفقود فيه، والتباطؤ ليس ضمن قاموسه، والمعنويات العالية سِمَتُه، والارتباط بالله ديدنه.
لذا يتحول هذا المثلث إلى رأس سهم النصر، ويفتك بكل من يقاومه. وهذا السهم بحاجة إلى قوس الفهم والإدراك والنية الصادقة.
وتكون الرسالة الكبرى لهذه الآية أن لا تيأسوا، لأن اليأس لا يكون في شخص الإنسان الحركي لله في إعمال العدل والإنصاف في الأرض، لذا يكون هذا الإنسان قوياً صلباً متماسكاً، لأن لديه ارتباط بعالم علوي، ولا تقتصر معرفته بالأسباب الأرضية، وإلا فستكون شكيمته معرضة للكسر والضعف بسرعة.