بين خد المسيح وصدر محمد
تبصّر في التعاطي السلمي مع التوترات الطائفية بالبحرين
جعفر حمزة
ما إنْ دخلَ معه في “حِوار” هادىء متلمسّين الجُرح لما يعتريه هذا الوطن حتى دخلا “لا شعورياً” في منطقة الإصطفافات لمرجعية فكر كل منهما، وأدارا ظهريهما لما ابتدءا به من حُسن الحوار والمناقشة إلى حدّة الخوار والمُرافسة.
هذا يقدّم حُجتّه وتبريره، وذاك يرد بما في جُعبته من حُججٍ وتبرير، وهكذا يتحولان من كرسي المشاهد المنصف والمحلل الحصيف إلى حَلَبة المصارعة فيما بينهما، وكلما زاد تعلقهما بمرجعيتهما الفكرية وبخلفية متراكمة لما لديهما زاد اقترابهما من الحَلبَة ليكونا “متصارعين” ، وليس بالأمر الهيّن أبداً أن تُعمل العقل عند الخوف والشحن والكراهية والتراكمات السلبية عن الطرف الآخر. ما هي إلا كُويلمات-تصغير كلمات- حتى يخرج ذلك المارد من قمقمه المكهرب فيُطيح بكل مبدأ إنساني لتقبّل الآخر والتواصل معه، ويخرج المستر هايد ويختفي الدكتور جايكل.(١)
إنْ كان ذاك سيناريو حقيقي ما بين مثقفَين إثنين، فما عسى يكونُ حال البقيّة ممّن تحكمه بساطة الحياة على التعامل بعفوية تارة، وبشحن مُسبق تارة أخرى، ويكون نتاج تلك الشحنات حتّى ينتظر التفريغ عبر قول وفعل وموقف، يُدعمه خطاب مُفتن مؤجج يُخيف المرء من جاره؟
ونِتاج ما ذكرناه آنفاً وكثير غيره آتٍ من مولدّات الشحن الفكري السلبي لأفراد المجتمع، وبدا ذلك بيّناً بعد تسطير شباب البحرين الشجاع موقفه باستقباله الرصاص الحي من السلطة بقلوب عارية إلا من كرامة وعزّة وأَنَفَة.
تلك المواقف الشجاعة التي رسمها الشباب البحريني أسّست بطريقة سريعة ولا شعورية إلى مبدأ “سلمية..سلمية” الذي اُتخذ من شعارات الثورة في بلد عربي عريق وهو مصر في حركته الإحتجاجية لإزالة النظام الجائر الجاثم على صدره لعقود عِجَاف.
لقد شكلّت سلمية الحراك الشعبي في البحرين لوحة واقعية فرضت نفسها على كل العالم، ليلتفت إلى شعب يتعامل بطريقة مختلفة في ثورته أو حركته عن بقية الإحتجاجات في العالم، وخصوصاً العالم العربي.
وبعد سقوط كل الرصاص والجيش والعنف من قبل السلطة بأجهزتها الأمنية أمام بسالة وشجاعة هذا الشعب المسالم، والذي طالما حِيكت وما تزال التُهم الجاهزة في مطبخ السياسة ليتم إلباسه ما تود السلطة من خزانة التُهم الجاهزة لديها ضده، عندما يتحرّك أو يمد رجليه ليشعر بأن الوطن له فحسب.
تلك النقلة النوعية في الفعل والفكر والإيمان في غضون أشهر معدودات مما كان يستخدمه البعض من زجاجات حارقة وحرق إطارات ومواجهات في بعض الأحيان مع القوات الأمنية، تلك النقلة من حرق الإطار إلى حمل الأزهار أربك السلطة في تعاملها مع هذه الحركة الشبابية المولد، وجعلها تتخبّط في اتخاذ قرارات أمنية انسحبت بعد علمها بسقوط هذا الخيار بهذه الحدّة، وتبع ذلك رسم هذا الشعب لوحة بعد لوحة بسلمية وحضارية يتوقف عندها المرء إعجاباً، فمقابل القمع ورد، ومقابل الرصاص صدر مفتوح، ومقابل الرشاش رفع علم، تلك الصور المتناقضة بين حركة الشارع وتداول السلطة للأزمة في بداياتها هزّ العالم لينظر لشعب في جزيرة صغيرة يرسم لوحة جديدة في العالم العربي من أجل تحقيق مطالب مشروعة له لا غير.
وبعد وسام السلمية في مقابل البربرية، كان لا بد ممّن لا زال يؤمن بتهميش شريحة من المجتمع أو بالحشود الغفيرة المطالبة بإصلاحات حقيقية وليست شكلية للبهرجة الإعلامية الإقليمية والدولية فقط، كان لا بد لأولئك أن يمزقّوا تلك الصورة الغالبة على البندقية بسلميتها، عبر دس السم فيها لتتعفّن داخلياً ولتتآكل دون شعور، وبالتالي يتحوّل المشهد من سلمية الحركة وعدالة المطلب إلى مشهد آخر يكون لبسط العضلات فيها مكاناً ولفرض القوة حلاً لا بد منه واستنجاداً.
وما تصاعد نبرة التجييش الطائفي من قبل رجال دين وإلقاء الهلع والخوف في قلوب أُناس من هذا الوطن الطيب، فضلاً عن تصوير دراماتيكي لما سيؤول عليه الوضع في حال تم التغيير الذي يطالب به المحتجون -وما هو إلا منصوص في الميثاق والدستور-، ويتم ذلك عبر تهويل من شعارات مرفوعة ضمن عقل جمعي غاضب مما يجري عليه، فتتخذها بعض الجهات باستخدامها لعدسة التكبير وكثير من مساحيق التجميل السوداء، لتتم بعدها عرض المسرحيات والتأويلات البعيدة عن الواقع لأفراد ومجموعات لها خلفية ذهنية سلبية مُسبقة عن مواطنين من بني جلدتهم جرّاء شحن طائفي مستمر ساهم فيه كثير من رموز وإعلام رسمي وصحف ومواقع ومواقف، مما جعل بيئة انعدام الثقة في الآخر واردة لا تنفكُ عنه.
وتتم الاستفادة مؤخراً من بعض الشعارات المرفوعة والمُبالغ فيها حسب المنظرين السياسيين، في تعزيز ذلك الخوف وتغذية ذلك الهلع، وبالتالي تتعزّز الأساليب الدفاعية عندهم بالهجوم والتعدّي على الآخر، والحديث هنا يدورُ بالأخص على الحلقة الأضعف في التأثر نتيجة قصر تجربتها الزمنية في التمازج مع المجتمع البحريني، ونقصد به المُجنسون حديثاً، ممن يمكن الإعتماد عليهم في الإستجابة السريعة في التوتير الطائفي بل واتخاذ الفعل على الشارع، وذلك نتيجة الخلفية الاجتماعية لدى الكثيرين منهم ممن تم جلبهم من مناطق تكون المدنية فيها والتعليم متدنٍ جداً، فضلاً عن استقوائهم بمن هم من بني جلدتهم العاملون في “حفظ الأمن” لهذه البلاد، ومع خطاب تصعيدي مشحون، يكتمل مثلث العنف ونشر “البلطجة”، هذا مع لحاظ ما تم رصده ومشاهدته من تواطىء من قوات الأمن مع تلك “العنترية”.
وما عدى هذه الجماعة ممن أكل وشرب وصاهر وفرح وحزن مع أخيه البحريني ببعيد جداً عن هكذا أفعال إلا من شذ.
ومع تصاعد وتيرة إفتعال العنف، وكأنها شوكة تلو شوكة في خاصرة “سلمية .. سلمية”، والتي هي الرهان الأكبر في تحقيق المطالب بالضغط المتواصل بحضارية وابتكار في التعبير، والتي يهدف منا حرف مؤشر البوصلة إلى مسألة تم اختلاقها لأمرين:
الأول: لإخافة كل التيارات من بُعبع “العنف الأهلي” واهتزاز الأمن برمته في البلد، فبالتالي يكون تدخّل السلطة مبرراً ويتم قطع الإحتجاجات كونها مُنتجة لتوترات تُدخل البلاد والعباد في أتون عنف وعنف متبادل، ليكون الكف (٢) من أجل الكف (٣).
الثاني: لإنزال سقف المطالب القانونية الواقعية التي رفعتها الجميعات وبعض قوى المعارضة للخروج من الأزمة، وفي معظم تلك المطالب سندٌ من ميثاق أو دستور أو حقٌ مطلوب.
الثالث: إدخال أطراف ضمن “الطبخة” المطالبة بالتغيير، وتلك “الطبخة” ستكون لكل مواطن، إلا أن البعض له “بهاراته” الخاصة التي ستُفسد النكهة، ويتلفظّها آكلها.
وربما هناك أسباب أُخر لم نحط بها علماً بعد، فبسقوط راية السلمية تسقط تباعاً رايات سجلها العالم لشعب البحرين تقديراً وإعجاباً، وما التقارير المحايدة من صحفيين وإعلاميين دوليين إلا شاهدة على ذلك.
المهم الآن وليس بعد حين، في قطار الحركة الإحتجاجية هو “خدُّ المسيح”، “فإنْ صفعك أحدٌ على خدّك الأيمن، فاعطه الأيسر”، لا من منطلق ضعف وهوان، بل من منطلق القوّة التي تدفعك لأن تقول له “لئن بسطت الي يدك لتقتلني ماأنا بباسط يدي إليك لأقتلك أني أخاف الله”
تلك هي المعادلة التي تجعلك منتصراً حتى في قمة الضعف الظاهري بعدم الرد، مما يجعل الطرف الآخر المباشر بالأذية أو من يعلم تتوقف عجلة الشيطنة لديه بهذا السلوك، ويعود لإنسانيته طالباً السماح أو رافعاً الصوت لنصرتك. فذاك المسيح في قولته وهذا الحسين في فعلته مع الحر الذي حاصره وقدم له الماء وبكاءه على قوم أقدموا على قتله.
ذلك هو مبدأ القوة في التعامل مع المسيء “ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حميم”.
قرأتُ وسمعتُ ورأيتُ من ردود فعل عفوية تجذّر السلم فيها ليكون فعلاً طيباً، برمي الزهور في كل مواقع العنف والبطش والتسلط، وحتى من جيّش الأخ على أخيه.
وما نذكره هو خط مواز يجب أن لا نحيد عنه مع خط المطالبة بحقوق مشروعة لهذا الشعب الطيب بجميع أطيافه، والذي يتم استغلال تلك الطيبة إما بقمع أو تخوين أو تخويف أو إرهاب.
إنّ “خدُّ المسيح” بحاجة إلى “صدر محمد” في التسامح وتقبّل الرأي الآخر مهما كان سواء ضمن صفوف هذه الجماهير العريضة المرابطون في دوار اللؤلؤة -الشهداء- أو ممن احتشد في مركز الفاتح أو ممن غائب مكاناً عن هذا وذاك.
صدرُ محمد يتمتّع بالرأفة وتقبّل الرأي، فمن الرأفة “ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضو من حولك”، فلا فظاظة في قول أو فعل أو حتى إشارة تُسيء للآخر برمزه أو معتقده أو قادته.
ومن تقبّل الرأي ”وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ”، يقولها وهو نبي معصوم، ليفتح كل مساحات الحوار وينزع كل خطوطه المقيدة له، لتتم مقارعة الحجة بالحجة والمنطق بمثيله لا غير.
ما نمرّ به الآن هي آخر مرحلة من مخاض عسير لوطن جديد، بين حرف مسار الحركة وأخذها إلى دهاليز طائفية وأمنية ستكون شاهد قبر لذلك المولود-لا قدّر الله-، أو الإستعانة بيد هابيل القابضة وخد المسيح المُرسل وصدر محمد الواسع للوصول إلى رسم وطن بكرامة وحرية وعزّة، ولاستقبال مولود الغد والأمل والعمل
ولا تتأتّى اليد والخد والصدر إلا عبر تشذيب كل التوترات معاملة وحكمة نشر للسلمية في كل قول وفعل وفكر وثقافة، واحتضان الآخر فعلياً ليس بورد فقط، بل باجتماع وتحاور ودعوة محبة وإذابة هذا الجبل الجليدي الضخم فيما بين أطياف المجتمع، من خلال فعاليات مشتركة أياً كان مكانها وزمانها، وإلتقاء رموز مع حركة سلسلة لترجمة خطابات الوحدة والسلم الأهلي، وبهذا تسقط جدران برلين فيما بيننا، ويفتح الآخرُ عينيه على واقع ملموس غير مزوّر تعمل عليه قناة رسمية هنا أو عبر أقلام جفّ حبرها إلا من كتابة التأزيم والتحشيد والتأليب هناك.
وبذلك فقط، يتم التوجّه الصحيح نحو مطالب مشروعة تعامل معها هذا الشعب بحضارية بالغة وبسلمية عزّ أن تُوجد في العالم بمثل هذه الطريقة، لتكون “سلمية ..سلمية” هي القطار الآمن للوصول إلى بحرين الغد، ففي مقابل كل عنف سيكون ورد.
(١) رواية إنكليزية تقدم الصراع بين الخير والشر،تحكى عن طبيب طيب القلب اسمه دكتور جيكل توصل لعمل تركيبة كيمائية تجعل من يتعاطاها قويا معافا.
وقرر الدكتور جيكل أن يجرب هذا الدواء على نفسه إشفاقا من أن يجربه على أحد من البشر لاحتمال فشل هذا الدواء.
وبالفعل يتعاطى د جيكل الدواء الذى يضفى عليه شخصيه أخرى لرجل قوى ولكنه شرير عنيف سفاك للدماء..
فيصبح د. جيكل ذا شخصيتين… د. جيكل الطبيب الطيب نهارا ومستر هايد السفاح العنيف ليلا..
والقصة عبارة عن رمز لفكرة الشخصية ذات الوجهين.. أو من يظهر بمظهر طيب أمام الناس فى حين أو وجهه الأخر هو وجه الشر…
(٢) أي كف اليد.
(٣) أي الكف والصد.
لا فض فوك يا جعفر فضيق الصدر الذي يبديه الحكم ومن تبعه بنا لا بد أن يقابله سعة صدر ونفس طويل من الصبر والاطمئنان بالحق والثبات على السلمية لكي تتكسر العنجهية والغرور على صخرة الحقيقة التي يراد لها أن توأد في مهدها.