الرئيسية

  • We will not go down

    جعفر حمزة*

    كدت أبكي لكلماتها الصادقة وابتعادها عن كل مساحيق التجميل، فما إن اقتربت من سمعي حتى ذاب كل الجليد بيني وبين ذلك النسق في الحديث والتعبير. بل وأكثر، فأصبحت مدمناً عليها، فصرت أطلب منها أن تُعيد ما قالته مرة بعد أخرى، حتى أمست رديفة سمعي أينما ذهبت، فقد أحببتها لشجاعتها وصدقها الذي بات يُزهر في البلاد التي تغرب فيها الشمس، بالرغم من منع “الهواء النقي” و”الماء الصافي” و”التربة الجيدة” نتيجة “فيروس” يُسمى “الكيان الصهيوني” و”بكتريا” تُدعى “الإهمال العربي”।
    فأطرقت فيها مُفكراً بعد أن طرقتني سمعاً بقوتها وكلماتها التي تعكس واقعاً وقضية إنسانية خالصة (قضية غزة)، ولم يكن الأمر بحاجة إلى طول تفكير وتحليل، حتى عرفت أن أغنية We will not go Down للمغني الأمريكي Michael Heart هي إحدى الصور المتناثرة مع تطاير الجثث التي وزعت أشلائها ماكينة المجزرة الصهيونية البغيضة على الإنسان والمكان والزمان، فكان نتاج ما صنعته تلك المجزرة في غزة بعد حصار وتجويع وإرهاب هو “تسونامي” هز الضمائر الحرة في العالم من أقصى الشرق إلى أبعد نقطة في الغرب، تلك الصدمة التي جعلت الآلاف يتظاهرون في البلاد الغربية ، وحرّك الأقلام الحرة في العالم لتبيان الدنو في المستوى الأخلاقي الإنساني الذي وصل إليه العالم في ظل مجزرة تحرق كل شىء حي وجماد معاً. وتعبر الأغنية عن شجاعة وقوة الإنسان وثباته على مبادئه مهما كانت الظروف، فبالإمكان حرق المساجد والبيوت والمدارس، لكن لا يمكن لتلك النفوس أن تموت. وهذا أحد مقاطع الأغنية:

    We will not go down In the night, without a fight You can burn up our mosques and our homes and our schools But our spirit will never die We will not go down In Gaza tonight

    فعند تعاظم الظلم والوحشية البربرية، يكون التعاطف العالمي من قبل الشعوب هو أقل نتيجة متوقعة، فالإنسان هو الإنسان في البحرين وروما وواشنطن، وفي كل مكان. وعند زلزلة الاتزان الإنساني في قيمه الأساسية تكون الثورة والصراخ من الأعماق هو التعبير الطبيعي للألم الذي يمثله انسلاخ الإنسان من إنسانيته ، ويتخذ ذلك الصراخ وتلك الثورة صوراً عديدة تتجاوز كل حسابات السياسة وموازين القوى الموضوعة في المجتمعات باختلافاتها। إذ أن هناك حسابات من نوع آخر تظهر على السطح عندما يُهدد الإنسان في صلب إنسانيته. ومع ذلك يبقى الإنسان أسير الزمن في النسيان وترهل الذاكرة لديه، فبالتالي تكون إحياء الصور التي تعكس القضية الإنسانية وبطرق مبتكرة وتماشي العصر مطلوبة بل وضرورية لتحافظ على وجودها وحركتها في الذاكرة والسلوك، بل وتتحول إلى أيقونة ، وتلك من أجلى الصور التي يمكن أن تعيش معها القضية ضمن حياة الناس، بل قد تكون جزءً من أسلوب حياتهم اليومي، ولا أدل على ذلك من تحول “الكوفية” إلى صورة للقضية الفلسطينية بل وأكثر للدلالة على الثورة والتمرد على الظلم، لتصبح رمزاً “ملاصقاً” لللإنسان في ملبسه. ومن أقرب للإنسان تعبيراً من اللباس؟ فهو جلده الثاني وصورته الظاهرة لنفسه والآخرين. ونتيجة للتسونامي الذي أحدثته الوحشية والإحتلال الصهيوني لأرض فلسطين ومجازره على مدى ٦٠ عاماً، ومجزرة غزة والتي لن تكون الأخيرة ما بقي هذا الكيان موجوداً، سيكون لزاماً علينا نحن العرب والمسلمين توسعة دائرة اللقاء مع الآخرين في العالم من خلال القاعدة الإنسانية المشتركة في الحوار، وبالصور الممكنة، سواء منها الموجود أو تلك التي يمكن ابتكارها। فالمأساة مأساة والمجزرة مجزرة تنتفض لها النفوس جزعاً واستنكاراً وتنديداً وتفاعلاً.
    وفي ظل هذا السياق الإعلامي المتخبط بين ناقل للصورة لا غير وبين مغيب لها، يكون بين الفعلين مساحة لا تحدها قناة ولا يغيبها توجه سياسي، تلك المساحة من الفضاء الواسع في العالم الإفتراضي “الإنترنت”، والذي له ميزة التواصل والتفاعل مع العالم وبشتى الصور الموجودة والمبتكرة في العرض والتحليل।
    وتأتي أهمية صياغة الخطاب الثقافي في عالم الفن بصيغه المختلفة عبر حصان الإنترنت لتكون ضرورة لنقل القضية إلى الآخرين، حيث تمثل هذه الأغنية إحدى الصور التي تشترك في التعبير الإنساني العام. ومن الجدير بالذكر أن ما يربو على ٧٠٠ ألف متصفح للإنترنت قد شاهدوها على اليوتيوب، وأكثر من ٢٥٠ ألف قام بتنزيلها من الإنترنت، وأكثر من ١٠ آلاف رسالة إلكترونية وصلت للمغني داعمة مثنية عليه ومؤيدة. (١) وهذا يعكس أولوية التحرّك في الخطاب مع الآخر ضمن القواسم الإنسانية المشتركة، وضمن الأدوات التي يتفاعل معها الآخر ويندمج، فهناك مجتمعات تميل إلى المصدر السمعي من خطب وكلمات وغيرها، وهناك من يستسيغ صورة الغناء والفن كطريقة لها تأثيرها في التفاعل وزرع الأسئلة والبحث عن الواقع। وبالتالي تتعدد طرق التواصل مع الآخر عبر الفضاء الأوسع “الإنترنت”، وكما قيل في الحديث المروي “خاطبوا الناس على قدر عقولهم”، ومن أبجديات الخطاب مع الآخر معرفة ما يميل إليه وما يتفاعل معه سلباً أو إيجاباً. لقد أصبح العالم أكثر وعياً وأكثر قرباً كبيوت الجيران المتلاصقة، وما علينا إلا زيارة الجيران وإخبارهم بما يجري دون إيكال هذا الأمر إلى الآخرين، الذين بإمكانهم تشويه صورتنا وتحويلنا إلى “غول” أو “عدو” يريد الموت للآخرين। ومع مستوى التدني في المستوى الرسمي العربي في الإعلام، إلا أن الحركة النشطة والمبدعة في بعض تجاربها للخطاب مع الآخر هي وليدة الظروف والضغوط والحاجة، وتحتاج للوقت لصياغتها بصورة أكثر تفاعلاً ولتمتد اتساعاً مكانياً وزمانياً في الإنترنت وغيرها من سبل التواصل مع الآخر (الجاليات، الأندية، الجامعات، السفارات، إلخ)।
    ولك في الإنترنت حياة لقضايانا صورة وصوتاً وحركة، إذ يمكن مد جسور التفاهم والحوار وطرح القضايا التي لا غبار عليها، كقضايا إنسانية خالصة صرفة مع الآخر، وخصوصاً ممن يمثلون وزناً سياسياً أو فنياً أو ثقافياً وحتى رياضياً، لتتحول تلكم القضايا إلى موضوع حاضر في الأذهان والخواطر كمقدمة للأرضية اللازمة للتغيير. وما يزيد الأمر جدية في العمل به هو وجود صف من المثقفين والفنانين والمفكرين في الطرف الآخر من المعادلة يشجعون القضية ولا تأخذهم في قول الحق لومة لائم، ويحضرني هنا ما قاله الممثل الأمريكي عن العرب والربط الشرطي السلبي الدائم بين العرب والإنسان السيء في أحد المقابلات التلفزيونية، حيث شدد على نفي الربط السلبي ذاك، وقد لاقى استحساناً ملفتاً من الحضور ومقدمي البرنامج. (٢) وغيرها من التجارب الإيجابية التي ينبري بها مفكر في أمريكا أو فنان في وسط أوروبا، وهكذا ترتفع أصوات إنسانية محايدة مائلة للحق مدافعة عن القضايا الواضحة، وأولئك من الأهمية بمكان حيث يكون لزاماً على الخطاب “الإنترنتي” -إن صح التعبير- أن يكون برفقتهم داعمين موضحين لهم الأمر على طول الخط، وذلك عبر العديد من أدوات التواصل، من بينها (الفيس بوك، يوتيوب. سكند لايف، إلخ)، لتكون هي البوابة الأخرى التي تنفتح على قضايا العالم العربي والإسلامي دون المرور من البوابة الأمامية لإعلامهم الرسمي والمؤسسي المحكوم بالمصلحة والحسابات الشخصية. ويتعدّى الأمر عند البعض من القول إلى الفعل، كوزيرة الاقتصاد والمال النرويجية “كريستين هالفورسن”، والتي أيدت مقاطعة المنتجات الإسرائيلية تضامناً مع الفلسطينيين، وقد صرحت “هالفورسن” لصحيفة «داغبلاديت»: «لم أشتر منتجات اسرائيلية منذ وقت طويل، ومن الطبيعي ان ادعم حملة حزبي لمقاطعة المنتجات والخدمات التي مصدرها اسرائيل». وقد انضم حزب اليسار الاشتراكي الذي تنتمي اليه ويشارك في الائتلاف الحكومي اليساري الى جانب منظمات عدة خصوصا نقابية، الى حملة «قاطعوا اسرائيل» التي أطلقها فلسطينيون تنديدا بـ «السياسة الاسرائيلية الفظيعة والمناقضة لحقوق الانسان بحق الفلسطينيين». ومن الجدير بالذكر ان برتقالا اسرائيليا تم تقديمه خلال المؤتمر الوطني لحزب اليسار الاشتراكي ، وما ان عرف مصدره حتى سحب فورا. (٣)
    كان ذلك قبل ٣ سنوات، فما عساها فاعلة اليوم بعد مجزرة غزة؟
    فهناك العديد من الشخصيات والمبادرات المنصفة في العالم الغربي، وما علينا سوى دعمها وتشجيعها لتكون صوتاً في قلب تلك المجتمعات، والتي تلعب حكوماتها دوراً رئيسياً -للأسف- في الكثير من قضايانا. وعلى عاتقنا كسر الحاجز النفسي والإقتراب منها لتسمعنا ولتتحول قضيتنا إلى جزء من اهتمامهم، لأنها إنسانية ومنطقية في الدرجة الأولى، وتمثل وسائل الاتصال الحديثة وطرق التعبير المبتكرة رُسلنا إليهم، وهم قد ردوا بمبادرات فردية كتلك الأغنية وذلك التصريح وهذا الموقف، وغيرها العديد، وليتحول شعارنا كما هو “هيهات منا الذلة” في طمس قضايانا ومأساتنا، لتكون هي الرديفة عندهم। وما يتمخض عنه الإنترنت بفضائه الواسع يُشير إلى تحركات إيجابية وجيدة من العرب والمسلمين إلى أخوتهم في العالم كله. فهل لتلك الأغنية من أخوات أو صاحبات فن ورسالة؟ علينا العمل لتظهر الإجابة.

    (١)
    http://michaelheart.com/
    (٢)
    http://www.youtube.com/watch?v=5SzjBNTJpkU
    أو البحث عن هذه الكلمة
    Ben Affleck defends Arabs
    (٣)
    الشرق الأوسط
    الجمعـة 06 ذو الحجـة 1426 هـ 6 يناير 2006 العدد

  • هيتَ لك

    جعفر حمزة*
    التجارية ٢١ يناير ٢٠٠٩م

    لم تكن بحاجة للتودد إليه، فهي فاتنته وحبيبته بل وأكثر، لذا فهي “واثقة” من أن عينه لن “تزيغ” عنها، فكانت كما أرادت. إنسان محب عاشق لها يسايرها ويماشيها ويستلذ بصحبتها في أي وقت وفي أي مكان.
    وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فظنت أن صاحبته السمراء الجديدة -القديمة- عليه، قد تعكّر صفو الود والصلة بينها وبينه، فصاحبته تصبح وتمسي عليه من خلال نشرات الأخبار والصحف، وقد تحضر معه في المسيرات وأحاديث الناس في مجالسهم “الإسمنتية” أو “الإلكترونية”، فأصبحت -أي صاحبته السمراء- مدار الحديث والإهتمام.
    فهي -قضية غزة- بل وفلسطين كان لها الحضور الفاعل في الفترة الأخيرة من تفكيره في غدوه ورواحه، إلا أن تلك “الفاتنة الأولى” لم يرمش لها جفن؛ لثقتها بأن “فتنتها” و”جاذبيتها” كفيلة بأن تُعيد ذلك الإنسان إلى جدوله اليومي و”روتينه” المبرمج معها. فهي تكون معه في أكله وشربه ولباسه وتنقله ووسائل اتصالاته، بل وحتى في أغراضه الخاصة جداً جداً، فكيف له بالابتعاد عنها أو “مقاطعتها”؟ فالأمر بالنسبة له شبه محال، إذ لا يقدر العيش بدونها وأنّى له ذلك؟ فهي معه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فكيف الخلاص منها؟ ولم يريد الخلاص أصلاً؟

    تلك هي الماركات والعلامات التجارية التي نسجت حياة صاحبنا اليومية حتى غدت “الحمض النووي” فيه، بل و”الهواء” الذي يتنفسه. فهل تسأل أحداً الكف عن التنفس؟

    لم يكن صاحبنا متحيراً لتلك الدرجة، فهو -كما يتصور- يجوز له الإقتران بأكثر من واحدة، وهذا ما حصل، فاقترن بمأساة غزة سمعاً وهو يرتشف “حبيبته” القهوة من “ستاربكس” طعماً، وبعد أن أنهى بعض مسيرته مشياً، عرّج على “بيبسيته” أو “كوكلته” شرباً. ،هكذا يصبح الجمع بين الضرتين جائز، بل وواقعي، فلا ضير أن ترضي إحداهما ليلة، وتكون الليلة الأخرى من نصيب الثانية. بل لا مانع من أن يجمعهما معاً في وقت واحد. إذ يمكنه رفع صوته “مناصراً” لصاحبته الأولى “قضية غزة وفلسطين”، ويقبّل الأخرى بعدها بشربه السجائر الأمريكية بعد أن منح حنجرته “وقتاً مستقطعاً” لإكمال مسيرة “حبه” لصاحبته السمراء.

    وقد تجرأت بسؤال أحد أولئك الجامعين بين الإثنتين بالقول “أتحب فلسطين؟”، فرد بضرس قاطع بالإيجاب وهو يرتشف إحدى المنتجات الداعمة للكيان المحتل الغاصب، وعند سؤالي الثاني عن قدرته على الجمع بين “الضرتين” هوى صعقاً مستنكراً بالقول “أتريد منا أن نموت؟ أو نرد على أدبارنا بركوب الجمال والحمير؟”. ولم أعرف لإجابته مغزىً سوى أن الصاحبة الشقراء القادمة من الغرب قد “لحست عقله” كما يقولون وأخذت منه كل مأخذ، حتى أصبح الحديث عن مقاطعة المنتجات الأمريكية ضرباً من “اللاواقعية” و”اللامنطق” و”الكلام الحماسي” و”..” القائمة تطول.
    إذن عليكم بقراءة الأسطر التالية لنعرف إن كان “قيسنا” يستطيع العيش بدون “ليلاه” الشقراء أم لا؟

    ذكر السيد “آن ماك”الخبير في اتجاهات التسويق في وكالة الإعلانات الأمريكية العالمية “جي دبليو تي” في تقريره الخاص بسوق المسلمين في العالم، بأن الإهتمام في اتجاهات التسويق والإعلان والترويج في تلك السوق مهمة جداً لمعرفة نوعية الخطاب الموجه لتلك الفئة المستهلكة الضخمة، والتي تتميز بوجود خلفية ثقافية دينية يجب معرفتها، لفهم مفاتيح الخطاب الإعلان والتوسيقي لهم. وقد أفرد دراسة بهذا الخصوص.
    ولا غرابة في ذلك إن علمنا بأن تعداد المسلمين في أمريكا يبلغ ٨ مليون مسلم، ويتجاوز المليار و٦٥ مليون مسلم حول العالم، أي ما يعادل ٢٠٪ من كثافة السكان في الكرة الأرضية.

    وعوداً إلى صاحبنا الجامع بين الشقراء والسمراء، فإن كانت سوق المجتمعات الإسلامية لها هذا الحضور كقوة شرائية يُحسب لها وتفرد من أجلها الدراسات، وتقام على شرفها معارض المنتجات الحلال في الأسواق الأجنبية قبل الإسلامية، فهذا مؤشر على قوة اقتصادية “مستهلكة” ضاربة، يمكن الاستفادة منها عند توجهيها بالطريقة الصحيحة في إعادة التفكير لسياسات الشركات الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الصهيوني والعاملين ضد قضايا الأمتين العربية والإسلامية بصورة عامة.

    فإذن لدينا القوة العددية التي لا يُستهان بها، ولا نسأل للعودة إلى الجمال وركوب الحمير، بل العودة إلى الضمير وحساب الربح والخسارة لتشكل قوى ضغط يصل صوتها إلى مسامع من يحولون مصادر ثرواتنا الطبيعية إلى علامات تجارية تُباع لنا مرة أخرى. لم نسأل مقاطعة برامج الحاسوب الضرورية ولا المنتجات الإلكترونية ولا كل ما من شأنه أن يُبطأ من سير حركتنا نحو العمل والتطوير، ما سألناه هو أن نقطع صلتنا بتلك “الفاتنة” لنا كل يوم من مشروبات غازية وسجائر ومطاعم. أفكثير هذا على ما ندعيه من وصال بها ليلاً ونهاراً؟
    فتلك الأمور ليست ضرورية للمعيشة، فما بالنا قد أخذنا الهوس والشغف بالشقراء حتى بتنا لا ننام إلا معها ونصحو عليها كل يوم؟

    إنّ المعادلة أسهل مما نتوقع، فهناك دورة حياة للمنتجات تنتهي عندي أنا وأنت -أي عند المستهلك-، وعندما تمتنع عن شرائها فإنك بمثابة من قطع الحلقة الأخيرة من سلسلة المنتج، فبعد التصنيع والتسويق والترويج والشحن يكون الأمر بيدي وبيدك لأن نقطع تلك السلسلة، وخصوصاً لمنتجات لها اليد الطولى في مساعدة الكيان الصهيوني المحتل. إلا أن البعض لا يريد “وجع الراس”، حيث يقول “وما الذي سأحدثه من فرق؟، فهناك غيري يذهب لهذا المحل ويشتري ذلك المنتج. فما الفائدة؟”.

    ونقول إن غياب الشعور بإحداث الفرق ولو بصورة بسيطة، فضلاً عن تحجيم قدرتنا الشرائية التي بمقدورها أن تغير الأرقام ولو جزئياً، هو وقود استمرار ذلك “الإنجذاب” نحو تلك الماركات، كالذي هام حباً في امرأة ويعتقد أن العيش من دونها محال.

    وبالرغم من وجود دوافع المقاطعة من قبل ٢٠٪ من سكان العالم تجاه تلك البضائع التي تدعم كياناً غاصباً محتلاً، إلا أن الصورة غير مكتملة الملامح في ظل غياب وعي شعبي مدروس، ومرجعية اقتصادية واقعية، فضلاً عن تقاعس اجتماعي يشترك فيه المثقفون والاقتصاديون وعلماء الدين والإعلاميون. فهي رسالة مفادها أن الشقراء لم تعد مالكة القوة في القلوب، وقلوب من؟ أكثر من مليار مسلم يضخون المال لشرايين صناعات تساهم بطريقة أو بأخرى في دعم “فيروس قاتل” بالمنطقة؟

    ومع ذلك، تتربع الشقراء بمنتجاتها على القلوب، وتقول لك دوماً عندما تقترب منها شراباً ومأكلاً وملبساً، تقول فاتحة ثغرها “هيت لك”. فهل تستجيب؟

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

  • اجلسي على قارعة الطريق

    جعفر حمزة*

    التجارية ١٤ يناير ٢٠٠٩م

    لم أشأ النظر لها، بل حتى الإقتراب منها، فهي لم تفهمني، ولم أفهمها.
    فلم التقارب إن كانت لغتها لا تشترك حتى في حرف واحد أو بمخرج لفظ واحد من لغتي؟ فتركتها على “هواها”ترتع وتلعب. وكان ديدنها التحدث بلغة لا أفهمها، بالرغم من كوننا على أرض واحدة ونعيش ذات الأحداث ونتنفس نفس الهواء، فازداد عجبي منها وازدادت هي ابتعاداً مني. حتى أتى ذلك اليوم الذي ظننتُ فيه بأنها ستتفهم وتعاود التفكير مرة أخرى في لغتها الغريبة عني. فمر موسم محرم الذي يشترك فيه الجميع من القيادة السياسية وحتى أصغر طفل على أرض هذه الجزيرة، ولم تلتفت إليه، بل تجاهلته سلبياً، وبالرغم من أن موسم عاشوراء يمثل تظاهرة ثقافية بمختلف صورها، والذي يميز البحرين عن بقية دول العالم الإسلامي في هذه المناسبة هو مقدار نتاجاتها الثقافية وصورها التفاعلية في هذا الموسم.
    ومع ذلك نأت “شاشتنا المحلية” عن العروج علي المناسبة بما يليق. بل وتأصلت لغتها “الغريبة” عندما تجاهلت كل الحراك المجتمعي والذي تفاعل مع مأساة غزة. من مسيرات وندوات وتجمعات وغيرها.
    حتى باتت نسيباتها من الصحف أقرب ملامسة لما يجري وقعاً وتحليلاً وعرضاً، أما هي “تلفزيوننا الوطني” فهو أبعد ما يكون عن الشارع المحلي فضلاً عن الشارع العربي.

    فهل بالغتُ في تأنيبها والتطاول عليها؟
    لا يبدو لي ذلك، خصوصاً عندما اسأل الكثيرين من المسن إلى الطفل الصغير، هل تتابع شاشتنا المحلية، فيرد ضاحكاً مستهزأً “ومن يتابعها”؟ فأصبحت كالمركونة من ضمن أثاث لا يتم استخدامه، فضلاً عن النظر له، فالصور أربع، ولنرَ من أي صورة تنتمي لها شاشتنا المحلية؟
    فالتحوّل الحاصل في عالم الصورة ينقسم إلى التالي:

    أولاً: هناك صورة من صوت واحد، ولكنه يكون كالمرآة الذي يعكس ما يجري في الطرف الآخر (المجتمع).
    ثانياً: وهناك صورة من صوت واحد صماء، لا تعكس إلا نفسها.
    ثالثاً: وهناك صورة تفاعلية بحدود معقولة تسمح للتفاعل من جميع الأطراف، ليأخذ كل دوره في تقديم الصورة.
    رابعاً:وهناك صورة تفاعلية يصنعها المجتمع من الناس، وهي بمثابة “الهايد بارك”، من خلال تقنيات حديثة باتت في متناول الجميع، بل أصبح الناس يصيغون الصورة ويقدمونها لأنفسهم وللآخرين، من خلال اليوتيوب، والعديد من الخدمات والتقنيات الجديدة.

    ويبدو أن الصفة جاهزة لصاحبتنا الفضية “الشاشة”، فهي صورة لذاتها فقط، ويبرز السؤال حينئذٍ عن أحقية الاستمرار في هذا النهج البعيد عن ملامسة الواقع بشقيه الداخلي والخارجي. فإن كانت صاحبتنا ضمن قطاع خاص، لخففنا العتب قليلاً، ولقلنا هذا شأن خاص ويعكس رأيه، ونحن في زمن الحريات، ولكن أن تتحول قناة رسمية، والتي من المفترض أن تمثل الشعب بواقعية موزونة إلى أداة للتهميش، فضلاً عن الدخول في دائرة تهديد الوحدة الوطنية، من خلال ما بثته في عاشوراء من لقاءات تمس معتقدات الكثير من الشعب البحريني. فما الذي تنويه صاحبتنا لي ولغيري؟

    ومن جهة أخرى، وفي ظل التطورات السريعة على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والذي أخذ البطء في الحركة والاستيعاب من نصيب صاحبتنا الفضية، يبقى السؤال البديهي، هو في أحقية تخصيص ميزانية من أموال الشعب والتي تديرها الدولة ليتم ضخها في جهة إعلامية رسمية دون حتى العمل بوتيرة تتناسب مع الواقع الداخلي، فضلاً عن الخارجي؟
    ولا يمكننا إغفال بعض “الخطوات” التي يُشاد لتلك الشاشة، إلا أنها نزر يسير، في قبال الكم الهائل من التجاهل والبطء اللذين باتا رفيقا درب صاحبتنا.

    ولعلم التي لا أعيرها اهتماماً حتى بالنظر لها من طرف، فإن حراك الصورة من داخل المجتمع بات أقوى، وقطار التقنية السريع والذي يخطف الأبصار بسنا ضوءه بات أوسع، فأخذ الأفراد أخبار صورهم من المنتديات وغيرها من تقينات البث المباشر والمتابعة، فضلاً عن بحر لجي من الأساليب الجديدة في طرح الصورة، من “اليوتيوب” و”جوست” و”الفيس بوك” و”ماي سبيس”، وغيرها الكثير، مما يركن صاحبتنا على قارعة الطريق لتُحاكي نفسها لا غير.
    وفي حال أردنا المضي قدماً في بيان الصورة بواقعيتها وحدثها، لا يكفي “حقن” صاحبتنا بالأجهزة الحديثة والوجوه “السمحة”، إذ لا بد من “معرفة” و”تطبيق” و”حيادية” تضمن وجود “مشاهدين” -على الأقل- لهذه الشاشة. ومتى أُجريت آخر احصائية تبين حجم مشاهدي تلفزيون البحرين؟
    نحن نتحدث عن واجهة بلد، وهي التي لها دور -كما أتوقع- ضمن الرؤية الاقتصادية. ولا أدري إن تم إدراجها ضمن تلك الرؤية كقناة إعلامية للترويج وتفعيل الرؤية من خلال إعلامها. وإن كان ذلك، فمن هي الفئة المستهدفة؟
    البحرينيون، إذن ينبغي مراجعة هذا الخيار مرة أخرى.
    لخارج البحرين، فليكن، إذ ما نفع أي خطوة دون مشاركة فاعلة من المجتمع وأفراده فيها؟
    ما سردناه من “سيرة” صاحبتنا هو غيض من فيض ينبغي دراسته وبتأنٍ كبير، للخروج من “ثقب أسود” يصرف المال ولا يعطي للمجتمع سوى الذبول. بل وعدم الإهتمام.
    وسلوك صاحبتنا قد يصلح لقناة خاصة، أما أن تكون واجهتنا الوطنية، فعذراً صاحبتي، فلست الشخص المناسب لمرافقتك، فضلاً عن النظر لك، فاجلسي على قارعة الطريق، فلا يمكنني أن أقبل أن تكون لي صوتاً أو صورة أو طعماً أو رائحة। عذراً.
    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

  • عاشوراء، حركة تغيير في السلوك اللباسي


    عاشوراء، حركة تغيير في السلوك اللباسي

    قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة

    الجزء الثالث

    جعفر حمزة*

    نشرة عاشوراء البحرين، العدد ٥

    تشكل المواسم الدينية كغيرها من المواسم في الكثير من المجتمعات البشرية “ساحة” تتفاعل فيها الكثير من العوامل الاجتماعية، والتي تقتضي “حركة” مالية نتيجة وجود تلك المواسم، حيث أن خصوصيتها تفرض نمطاً معيناً من “الاستهلاك”، وبطبيعة الحال تمثل دراسة تلك الخصوصية أهمية لتوظيف تلك الحركة المالية لتصل إلى مرحلة “الإنتاج”، وبالتالي تتكون الاستفادة الذاتية من المواسم الدينية

    في هذه الحلقة نستعرض الجانب “التجاري” من “سواد عاشوراء” عاشوراء والسواد من المواسم التي ما زالت علاقتها قوية باللباس وتحتفظ “بنكهتها” المميزة، هو موسم عاشوراء عند المسلمين الشيعة منهم والسنة، حيث إن العلاقة بين عاشوراء والسواد بات في أصل التكوين الثقافي والفكري بدءً من وجوده كرمز للحزن في الأبيات الشعرية ومروراً بإظهاره من خلال اللباس والأعلام ووضع السواد في الأزقة والشوارع.
    واللباس كالكائن الحي ينمو ويتطور وتنتكس صحته ويقوى ويشيخ ويموت، وتمتد “حياة” اللباس بتحقيق ثلاثية تبدو لأول وهلة بأنها طبيعية، إلا أنها معادلة بالإمكان تطويرها وضخ المزيد من مفردات الاستمرار فيها. والثلاثية المرتبطة بحياة اللباس هي:
    أولاً: استمرار وجود الأصل الدافع للباس ذكراً وممارسة، وفي الحالة العاشورائية يتمثل ذلك الأمر بسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، والذي يكفي للمتتبع المنصف الوقوف بأعجوبة استمرار ذكره بهذه “الحُرقة” إلى يومنا هذا، وهي المنبع الأول للكثير من القيم والمباديء التي تصيغ المجتمع، وبعبارة أخرى فإن حديث “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً”، ليست إنشاءً أو توصيفاً وقتياً، بل هي امتداد حقيقي نعيشه كل عام في إطاره الزمني الخاص “محرم وصفر”.
    وكما للحج لباسه الأبيض الذي لن يتغير مع الزمن في علاقة أصيلة بين موسم الحج و”الإحرام الأبيض”، كذلك هو اللباس الأسود “الحزين” الذي أُتخذ شعاراً لتذكر واقعة الطف بما تحمله من قيم ودروس وأحزان أيضاً للمسلمين بل وكل إنسان حر في الحزن على حفيد الرسول الأكرم (ص)।
    ثانياً: ممارسة التعامل مع ذلك الأصل، وهذا يتمثل في المراسم الحسينية، وهي صيغة أخرى حركية للآية الكريمة “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب” ووجود التقوى في القلوب يستلزمه “حفظ” السلوك من خلال الشعيرة نفسها، وبالتالي الاستمرار في إحيائها من خلال “التعظيم”. وقد تهتز الصلة الوثيقة بين استمرار وجود الأصل وممارسة التعامل، وذلك من خلال وجود “التشوهات” في ممارسة إحياء الشعائر، وبمرور الزمن تُلقي بظلالها على صورة الأصل الدافع للشعيرة. ويعتبر هذا الأمر من العوارض الطبيعية التي تطرأ على اللباس، مَثَلَه مثل الإنسان الذي يتبنى “آليات” جديدة لإظهار فكره ومعتقده، إلا أن الخطورة في الأمر أن تشوه تلك الآليات المُختارة ملامح الفكر.
    ثالثاً: التجديد في طرح الصورة “الثابتة” لمعنى الرسالة في عاشوراء. وذلك لضمان بقاء روح الارتباط بالشكل الرمزي لجو عاشوراء دون تشويهه وإدخال مفردات غريبة عنه. وما الحاصل من لباس “مستغرب” كالتي تحوي أشكال ورموز وكلمات غربية، ولا يشفع في لبسها في الموسم الديني سوى لونها إلا دليل على فقر في الساحة من تقديم البديل الذي يهب اللون حركة، ويعطي للباس قوته، في الوقت الذي يشعر معه الفرد بانتمائه وهويته الخاصة. مكياج غير صحي للأسود وفي هذا السياق، نرى أن “السواد” في صيغته العامة ما زال محتفظاً بهيبته الخاصة لشهري محرم الحرام وصفر، إلا أن مساحة تغيره أصبحت واضحة على صدور الكثيرين، وذلك من خلال الكثير من النماذج التي اتخذت السواد “حصان طرواده” لتمرير العديد من الرسائل المختلفة المحتوى والمضمون، وبالتالي ابتعاد السواد لباساً عن المحتوى الحسيني، وعندئذ ستنخر تلك الصور والرسائل روح “السواد” الحسيني، ويتحول اللباس الأسود من رمزية دينية إلى رمزية احتفالية تفتقد المعنى الديني الملتزم فيها.
    وعندما يتحول الرمز الديني إلى إحتفالية صورية فقط، ستُخدش القيم المرفوعة في ذلك الرمز الديني، ولا أدل على ذلك من بعض الثياب التي يرتديها البعض وتحمل رسائل وصور لا علاقة لها بالجو العام لشهر محرم، حيث يحتوي بعضها على كتابات أجنبية وبعضها الآخر رسومات لثقافات غربية।
    ويأتي السؤال في أهمية اختيار السبيل الأنسب للحفاظ على الروح الدينية للمناسبة، وفي الوقت ذاته تُقدم بطريقة عصرية حديثة مرغوبة وجذابة، حيث لا انفصال بين الحداثة والأصالة في اللباس، لا فكراً ولا سلوكاً ولا تطبيقاً. وذلك عوضاً عن ارتداء ما يتم طرحه في السوق من ألبسة سوداء، بغض النظر عن نمط الرسالة المكتوبة أو المعروضة، وفي ذلك تحدٍّ كبير ودافع لتقديم البديل فيما يخص الثياب في المواسم الدينية، سواء الحزينة منها أو الفرحة. والمقومات موجودة لطرح مثل هذا المشروع، فالقاعدة المستهلكة لهذا النوع من المنتجات “الثياب السوداء” موجودة، وجودة التصنيع متوفرة، وما علينا إلا صياغة “ماركة” يمكنها أن تحل مكان المطروح في الأسواق، وخصوصاً للمجتمعات المحافظة. ويمكن اعتبار مشروع “البديل” والذي طرحته شركة “إسلاميديا” من خلال منتجها الجديد “نبراس” تجربة تستحق التقدير والإشادة والدعم، وقد سمعت الكثير من التعليقات المشجعة على هذه الخطوة، مما يشير إلى مقدار الفراغ الحاصل في السوق بالمجتمعات المحافظة، والتي تريد أن تواكب العصر وتحتفظ بالهوية في نفس الوقت، وذلك ممكن وبطريقة محترفة أيضاً إن أحسنا التخطيط وقدمنا البديل المنافس والأقوى. فهل نرى نماذج لألبسة خاصة لعاشوراء بطريقة عصرية؟
    بل هل يمكن تخيل أن تقام عروض “fashion Show” تحمل من القيم ما تمثل نقلة نوعية في التعامل مع لباس يمثل فاعلاً مع أعظم احتفالية دينية باقية لحد الآن، وهي ذكرى ثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) حفيد خاتم الأنبياء، ليكون منطلقاً للتغيير وإحداث تلك النقلة النوعية في التعامل مع اللباس بصورته التي تحمل القيم والرسالة من صلب ثورة وقيم الإمام الحسين وهي لب كل القيم الإنسانية الأصيلة।
    فهل يمكننا تحويل اللباس إلى جهاد من نوع آخر ينصر الحسين سلوكاً ولباساً؟

    مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

  • هويّة معمّرة


    جعفر حمزة*

    التجارية ٧ يناير ٢٠٠٩م

    اتشحت الشوارع كما البيوت بالسواد تعبيراً لحضور موسمي لم يتوقف منذ مئات السنين، وقد أخذ السواد مكانته في اللباس وأماكن إحياء تلك الذكرى الأليمة في عاشوراء، بعد أن أخذ مكانته في القلوب والسلوك.

    حتى أصبحت عاشوراء النقطة التي نعود إليها في كل عام بروحيتها وأجوائها وبيئتها التي احتفظت بتلك القوة في الحضور دون “مواد حافظة” أو “منشطات”، بل هي “طبيعية صرفة” بامتياز، لأنها ببساطة انعكاس لصورة إنسانية نبيلة قل مثيلها في المأساة والعِبرة والعَبرة والتراجيديا في أوجها ودلالاتها.

    وتأخذ المواسم الدينية مساحتها في التعبير الاجتماعي وما ينسحب عليه من صور مادية وسلوكية، بل أخذت عاشوراء البحرين ميزة تفوقت بها على بقية البلدان في العالم، حيث أصبحت ذات هوية وبرامج وطريقة صاغت ملامحها حتى أصبحت بمثابة “هوية موسم”
    Season Brand
    تشكلت مع الزمن، لتأخذ من كل صورة من صور التفاعل الإنساني نصيباً في كل عام دون ضعف، بل أخذ هذا الموسم أثره ككرة الثلج التي تكبر مع الزمن عندما تتدحرج.

    ويتمثل ذلك في الكثير من الفعاليات التي تعكس قيماً إنسانية أخذت من عاشوراء مظلة لها ومنطلقاً، ومن تلك الصور التي تتجدد سنوياً وتأخذ من عاشوراء منبعاً لها على الصُعد المختلفة التي تتفاعل مع الآخر على أكثر من صعيد وفي أكثر من حقل، ومن بين تلك الصور:
    أولاً: الصور الفنية، والتي يبرز فيها المرسم الحسيني كأحد الأمثلة البارزة على الساحة المحلية، والذي اكتسب حضوراً وتفاعلاً من مختلف الشرائح والإثنيات والديانات، فضلاً عن بقية الأنشطة الفنية كالتمثيليات المسرحية والشبيهات (المسارح المفتوحة)، والمعارض الفنية، فضلاً عن إضافة جديدة في السنوات الأخيرة، وهي الفيديو كليب الديني الحسيني، والذي يتخذ من الفضائيات مساحة له للظهور.
    وتنشط سوق بيع أشرطة الكاسيت من مراثٍ ولطميات ومحاضرات، لتكون “فاكهة” من يعيش هذه الأجواء، في السيارة والبيت على حد سواء.

    ثانياً: الصور الاجتماعية والتي تتعزز فيها الترابط الاجتماعي، من ناحية الحضور في الحسينيات، والاجتماع على مائدة واحدة، وتلك الصور التفاعلية من الطبخ في الحسينيات والبيوت، والتي تعتبر تراثاً لم يندثر لحد اليوم.

    ثالثاً: الصور التضامنية المستجدة، فحملات التبرع بالدم أخذت نصيبها في موسم عاشوراء من كل عام في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى الحملة الجديدة التي تم إطلاقها فيما يخص جمع الأدوية المستعملة تحت شعار حملة مريض كربلاء.
    بالإضافة إلى الصور التضامنية مع الأحداث المستجدة في كل عام، حيث أخذت قضية غزة نصيبها من الحضور في عاشوراء هذا العام.

    رابعاً: الصوراللونية، إذ لا يغيب اللون الأسود عن الحضور القوي والفاعل من على أجساد الناس إلى الحسينيات، ومن الشوارع إلى البيوت. فتظهر الملابس السوداء على واجهة المحلات، بغض النظر عن توافق حضور موسم عاشوراء مع فصل الشتاء أم الصيف، فاللون الأسود من ثياب وأعلام له نكهته الخاصة التي لا يخطأها ناظر أو زائر.

    ويمكن الاستفاد من هذا الموسم الديني الذي يعتبر مكسباً للسياحة الدينية في البحرين، إذا وضعنا في عين الاعتبار العدد الكبير من الزائرين للبحرين في موسم عاشوراء من الدول الخليجية المجاورة، وبعض الدول العربية، فضلاً عن بعض الأجانب الذين يميلون إلى توثيق ومعايشة هذه الأجواء، بما تتميز به من فعاليات وأجواء لا تكون إلا في موسم عاشوراء.

    ويحضرني ما ذكره أحدهم من استضافته لبرازيلي في موسم العاشر من المحرم وحضوره المجالس الحسينية ومتابعته لموكب العزاء، فضلاً عن اطلاعه على الخدمات التي تقدمها المواكب والحسينيات من طعام وغيره، حيث أبدى البرازيلي إعجابه بهذا التنظيم، وتلك الأجواء التفاعلية الني تميز بها أيام المحرم.

    ولإيجاد هوية للموسم بالمعنى الاحترافي والجاذب للسياح، لا بد من عملية تنسيق متواصلة بين الحكومة ممثلة في الأوقاف الجعفرية والشئون الإسلامية ووزارة الداخلية ووزراة الإعلام من جهة، والهيئات الحسينية والمؤسسات ذات العلاقة من جهة أخرى، والوزارات والجهات التي يمكن أن توصل رسالتها من خلال هذا الموسم من جهة أخرى كوزارة الصحة ووزارة البلديات والزراعة على سبيل المثال لا الحصر.
    ويمكن للمحافظات الاستفادة من هذا الموسم لتوسعة دائرة عملها لتتخذ من عاشوراء “مركباً” لها للتطوير والعمل.

    إنّ عملية التسويق لموسم عاشوراء بات أمراً ملحاً في ظل تطور وسائل الإعلام واتخاذ عاشوراء البحرين نمطاً خاصاً له نكهته وشخصيته وطريقته في الإحياء، بل أن طرح مشاريع تم تنفيذ بعضها كأكبر لوحة للبصمات البشرية وأكبر عدد من الشموع في ليلة العاشر، ومشاريع تم الإعلان عنها كمشروع مهرجان عاشوراء السينمائي، كل هذه المشاريع تأخذ مساحتها التفاعلية الإيجابية في صياغة هوية للبحرين من خلال موسم ديني تتلون فيه الأنشطة من ديني واجتماعي وثقافي وفني وغيره.

    فهناك مقومات لهوية يمكن اتخاذها رسولاً مبشراً لتسويق السياحة الدينية والتي تتماشى مع مفهوم السياحة النظيفة.

    وعند الحديث عن هذا الموضوع، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار بأهمية الاحتفاظ بالموروث الشعبي والأنشطة من الناس كما هي دون رتوش أو تدخل مباشر، سوى تلك التي تحتاج إلى أمور تنظيمية (حركة المرور على سبيل المثال). إن عاشوراء البحرين يجب أن تتخذ من الاهتمام الرسمي بقدر ما تتفاعل معه العديد والكثير من شرائح المجتمع، وتُعتبر من أفضل المشاريع الترويجية للسياحة الدينية بالخصوص عندما تتمازج رؤية الرسمي مع الأهلي في تقديم موسم مميز وفريد في البحرين، في قبال جهد تقدمه الدولة وتضخ فيه الميزانية الضخمة لإظهار صورة تريد إيصالها للآخر، كما هو الحاصل مع مشروع “ربيع الثقافة”.

    إن أفضل وسائل التسويق لأي بلد هو وجود القاعدة الأهلية للفكرة وتسهيل ودعم من الدولة، لنصل إلى مستوى التسويق المتكامل لإحدى أهم صور السياحة النظيفة في البلاد، والتي نمتلك مقوماتها ونعيشها كل عام، بل وتتطور، والمركب يسير دون توقف، كنهر جارٍ من عالم عاشوراء الحسين، يسقي من يريد، فهل تقترب قافلة البعض لترتوي بعد عطش هي اختارته لحد الآن؟

    فعاشوراء نبع لا ينضب، ويتجدد كل عام دون أن يبلى، فهل نستقي منه بالصورة المرجوة؟ نتمنى ذلك!


    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

  • وللون نصيب من قرب الجسد

    وللون نصيب من قرب الجسد
    قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة

    نشرة عاشوراء البحرين، العدد ٤

    (الجزء الثاني)

    وللون نصيب من قرب الجسد

    يمثل اللون صلة تواصل بصرية كما هي الكلمات والأصوات، وما يميز الإنسان هو قدرته الكبيرة في “توظيف” المفردات المحيطة به للإعلان عن “هويته” و”انتمائه” وبعبارة أخرى “ما هو” و”من هو” حيث تتحرك الأولى في إطار معرفة الذات وتتحرك الأخرى في دائرة “تعريف نفسه للآخر”. وفي هذه الدراسة المبسطة نستعرض حركة “لون” من نوع آخر، يدخل فيه “المقدس” في السياق العام للتفاعل مع ذلك اللون، ليكون مختبرنا “عاشوراء” و”العينة” التي نستكشفها “لون عاشوراء” لباساً وشعاراً وإعلاماً.

    للأسود دراهم معدودات

    ترتفع مبيعات الألبسة السوداء في الأسواق في المجتمعات الشيعية قبل شهري محرم وصفر، ليكون اللباس المنشود هو ذو اللون الأسود بالمطلق بغض النظر عن المحتوى المكتوب أو المرسوم على القميص أو “T-Shirt”، وهو ربط ناقص إن اعتمد على اللون فقط. وينطلق هذا الإهتمام والملاحظة من خلال المكانة التي يحتلها “السواد” بصرياً في الموسم الحسيني (محرم وصفر)، وبالتالي يكون “لفت النظر” و”التعليق” و”الملاحظة” رد فعل طبيعي بل ومطلوب ليكون الجو العام لهذا الموسم متناسقاً ومتوالفاً مع النمط العام لما هو مقدم كمؤشر له، وذلك من خلال السواد في هذه الحالة لبساً وإظهاراً في الشوارع والمآتم والبيوت.

    الأسود مرفرفاً على الصدور والجدران

    ويتحول اللباس إلى رمز لفكر أو عقيدة مع تطور الزمن وارتباطه الزماني والمكاني، وما الملابس الفلكورية إلا مثال لاحتفاظ الأمم بتراثها وفكرها وثقافتها، حتى تحولت إلى صيغة “قانونية” و”معرفية” يتم الحفاظ عليها والدفاع عنها، كما هو مصنف ضمن “الملكية الفكرية” إذ إن إحداها هي “الفلكور” بما يتضمنه من ملابس وأغانٍ وموسيقى। والحفاظ على تلك الروحية الخاصة بالموسم الحسيني تتمثل في الملاحظة والبحث وتقديم ما يُثبت تلك “الروحية اللباسية” –إن صح التعبير-؛ لتتشكل على إثرها فلكلوراً دينياً خاصاً ينتقل لأجيال عبر أجيال دون “تشويه” لتلك الثقافة والروح من خلال تقلبات “لباسية” تضيف وتُنقص من تلك الصورة العامة لعنوان اللباس الحسيني المرتبط بشهري محرم وصفر. إن حركة السواد على الجسد (اللباس) والحجر (البيوت والمآتم) تمثل ثقافة دينية تحيا بحياة الرمز المجسد لها أو القالب الذي يقدمها “اللون الأسود”، وبالتالي تكون عملية “إنعاش” الرمز مهمة وتتخذ من الوسائل الحديثة طريقاً لبقائها عوضاً أن تكون سبباً في تشويهها. إن تحول اللباس العاشورائي إلى موضة fashion هي إحدى الطرق التي بالإمكان الحفاظ على إمساك العصا من المنتصف، لنصل إلى مرحلة توجيه الكثير مما نريد من خلال تلك الطريقة. وقد تكون من ضمن التحديات التي “تنخر” في اللباس العاشورائي هو بقاء “الصفاء الأسود” فيها، بمعنى عدم تغير القيم العاشورائية في اللباس، ويمكن القيام بذلك من خلال تقديم “المواضيع العاشورائية” للباس والتي تتضمن الرسائل ذات العلاقة الدينية بصورة عصرية ومبتكرة، إذ أن ذلك سيساهم في حفظ “الروح الموسمية” لعاشوراء من جهة، وتضمن وجود “جاذبية” من قبل الجيل الجديد والأجيال القادمة له، حيث أن العملية قائمة على تثبيت القيم اللباسية وتغيير النمط بصورة عصرية، حيث نضمن بذلك استمرارية الفكر للباس عاشوراء. وكمثال على ذلك مع الفارق هما أنموذجي الهند والصين، حيث تغلبتا على الغزو اللباسي –نوعاً ما- إذ بقيتا على اللباس التقليدي وبصورة حديثة، وساعدهما على ذلك السينما والتلفزيون، حيث بقي “الساري” ولا زال في الأفلام وبعض “ثيمات” Bollywood وجزء لا يمكن الاستغناء عنه في الثقافة والتراث الهندي، والأمر بالمثل للباس الرجال في الصين، حيث بقي هذا اللباس لحد الآن في الأسواق بل وتم تطويره وأصبح رمزاً “Symbol” للفنون القتالية القديمة Martial Arts। في قبال مثال لباس رعاي البقر “Cow Boy”و في أمريكا.
    إن المعادلة الناقصة في خصوص حضور الألبسة الدينية هو غياب عنصر التفاعل والثبات في اللباس الأسود كثيمة دينية تبتعد عن كل الهوامش الطارئة عليها، ولا يمكن الاعتماد على اللون فقط كرهان للهوية، دون تقديم لون ورسالة معاً عبر طريقة عرض تفاعل جاذبين وحاضرين في السلوك اليومي للإنسان الذي يعيش أجواء محرم وصفر، بل وأجواء إحياء المناسبات الدينية التراجيدية والحزينة، والتي تحمل من القيم ما لم يتم توظيفه بطريقة عملية مؤثرة ومدروسة لحد الآن

    وليبقى الأسود خفاقاً شعاراً ولباساً

    ونؤمن بأن “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء” تتعدى مساحة ومكانة الفهم المكاني والزماني لتشكل هذه المقولة عنواناً إنسانياً يضم بين جنبيه كل القيم الإنسانية النبيلة، ورسم لمجتمع حي فاعل ومؤثر، وعند الحديث عن خلق بيئة متفاعلة يلزمها الصورة التي تتحرك بها بما تحويه تلك الصورمن إلتزام وتوجه متجدد ومبتكر للغاية الأولى والأخيرة “الإصلاح” بمفهومه الإسلامي الإنساني العام. ويشكل “اللباس” أحد مظاهر المجتمع الأصيلة والتي لا يمكن التهوين بها لأنها “مظهر”، فهي معادلة تفاعلية منطقية أن يتم توصيف وملاحظة اللباس كعنوان حركي للمجتمع الذي يريد أن يرسم ويخط طريقه من خلال العديد من أدوات التشييد والتعبيد، ومنها اللباس. فهل تكون النظرة للباس الأسود “الديني” ذات أبعاد عصرية ومبتكرة تحاكي حجم التحديات التي تفرضها الكثير من المتغيرات أم تظل تلك النظرة متأرجحة ومتقلبة ترفع شعار الحسين لوناً وتغيّره عنواناً وسلوكاً و”لباساً”؟

  • عاشوراء اللون والتكوين

    قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة

    جعفر حمزة*

    نشرة عاشوراء البحرين، العدد٢

    (الجزء الأول)

    ورقة التين وهوية الجلد

    تعتبر العلاقة بين الإنسان واللباس من أشد الصلات الفيزيائية تشعباً و”مرونة”، حيث يكتسب القماش الذي لا تتعدى مساحته بضعة أمتار “قدرة” كبيرة على إرسال الرسائل و”افتعال” رسائل جديدة، بالقدر الذي يمكنه “بث” جو مسالم ومتسامح. وتعتبر ساحة عاشوراء محطة “تحرك” واسعة للون الأسود.

    فما هي تلك العلاقة “السيوسيولوجية” والاجتماعية في العقل الجمعي للمجتمعات المتفاعلة مع “عاشوراء الحسين (عليه السلام)”؟ وما هي التغيرات المبدئية التي قد “تشكل” بطريقة أو بأخرى “سواد عاشوراء” من ناحية التقديم والرسالة والشكل؟

    ورقة التين تتحرّك

    “اللباس هو جلد ثانٍ ولغة بصرية نٌظهره بطريقة مُبتكرة تعبيراً عن ذواتنا”.

    لم تكن ورقة التين أو التفاح التي ستر بها آدم وحواء سوءاتهما إلا رمزاً أصيلاً في الإنسان عبر حركته لتحقيق الذات ومعرفتها، ولم يكن “الستر” إلا لوناً أصيلاً لا يمكن الاستغناء عنه لإكمال وجود الإنسان في حركته المعرفية في هذا العالم، ولم تكن ردة الفعل السريعة كما تذكرها الآية الكريمة “فطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة” إلا جذب طبيعي للون أساسي في التكوين الإنساني ليعود لطبيعته المرتكزة على الروح والفكر عبر وعاء الجسد والتي أخذت “ورقة التين” مساحتها من جسد نبينا آدم في سترها ليس لجسه فقط، بل لموقفه، وذلك عبر “هداية” فطرية من الله له باتخاذه تلك الورقة ساتراً.

    وكأي مفردة تلامس هذا الكائن الحركي “الإنسان” الذي لا يتوقف، فقد كانت تلك الورقة “التين أو التفاح” مجرد بداية لتأخذ أبعاداً جديدة ورموزاً مختلفة أبعد وأكبر مما تحمله في ذات تلك الورقة من مجرد شيئاً “يستر” الجسد، بقدر ما كانت تمثل “ستراً” لحركة أبينا تجاه “الشجرة الممنوعة”.

    اللباس وتشكيل الهوية

    ونتيجة لميل الإنسان للتعبير عن ذاته بالوسائل “المحكية” أي القابلة للظهور ولفت النظر للإعلان عن “الهوية” الخاصة به، كان “اللباس” إحداها كاللغة وصبغ الوجه وحركات الجسد الأخرى التعبيرية “الرقص والعبادة”، لتنتقل من مرحلة “الجلد والصوف” إلى “القماش والقطن” ومن ثم إلى “النايلون والخيوط الصناعية”، وتلك الرحلة الطويلة التي امتدت مع عمر الإنسان الأول إلى يومنا هذا صاغتها الفلسفات العديدة والاعتقادات التي رسمت للإنسان طرقاً مختلفة للتعامل مع الذات والآخر، وكانت إحدى أهم اللغات المشتركة في ذلك التعامل هو “اللباس”، حيث يعبر عن الصورة الداخلية للإنسان، وما يريد إيصاله من رسائل إلى الآخر.

    لقد شكل اللباس هوية الإنسان قديماً وحديثاً، حيث كان يشكل في إحدى صوره “الإنتماء الجغرافي” و”الإنتماء القبلي”، ومن ثم تحول إلى “هوية وطنية” لهذا البلد أو ذاك، لينتقل ويتعمق في ذات الإنسان حركة وفكراً وسلوكاً واعتقاداً، وتحوّل إلى دائرة الإنتماء الديني ليلامس ساحة شديدة الخطورة وهي ساحة “المقدس”.

    عندما تلامس الهوية “القماش”

    وما الألبسة الدينية إلا تعبير عن “مطاطية” اللباس الذي يتحول من “ضرورة” لستر العورة والحماية من البرد والحر إلى “هوية” يكون جزءً لا يمكن فصله عن الجسد، ليتحول اللباس إلى جلد حقيقي آخر للإنسان يؤذيه إن “خدشته” أو “مزقته” لأنك تكون قد خدشت “هويته” و”معتقده” و”دينه”.
    ولا أدل على ذلك من الحرب الضروس على الحجاب الذي لا يفهم الكثير من عامة الناس في الغرب مكانته في “الهوية المسلمة”، إذ لا يشكل مجرد قطعة قماش فقط، كما لا يفهم الكثير من الغرب الاستهجان على ظهور إمرأة بنصف ثيابها في المجتمعات المتحفظة سواء كانت مسلمة أو مسيحية أو يهودية أو من أي ديانة تلتزم “العفة” في اللباس فيما تمثله العفة من صيغة أساسية للإنتماء الديني والثقافي لتلك المجتمعات.
    ويُذكر بأن هزيمة اليابان الفعلية لم تكن بعد إسقاط القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي، بل كانت بعد أن استبدل اليابانيون لباس “الكيمونو” التقليدي بالجينز والأقمصة، حيث بدأت تنتشر حينذاك القيم الغربية بعيداً عن الثقافة اليابانية الأصيلة.

    وفي هذا الشأن العديد من الأمثلة التي تم فيها المحاولة لتغيير هوية المجتمع من خلال إحدى بوابته الأمامية “اللباس”، منها تركيا الحديثة كما يسمونها التي أُجبر الشعب التركي تحت حكم كمال الدين أتاتورك بنزع اللباس التقليدي للأتراك ولبس القبعات الغربية، ولم تنجح المحاولة ذاتها في إيران إبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي نتيجة الاستماتة القوية لحفظ الهوية الإيرانية الإسلامية لا المستغربة.
    أرأيت أن من ضمن الحصون الأولى للهوية هو “اللباس”؟!

    اقتراب المقدس من اللباس

    وتأخذ المواسم الدينية في الكثير من المجتعمات المعاصرة نصيب الأسد في تحريك “اللباس” كرسول للقيم الدينية والشعائر المرتبطة بتلك المواسم، حالها حال المواسم المختلفة للعديد من المجتمعات بصورة عامة سواء ما ارتبط منها بالدين أو بالتراث أو بأحداث معينة، حيث يتم فيها لبس ثياب لها ذلك الارتباط الذي يستحضر تلك المناسبة. وتشكل المواسم الدينية إحدى أهم وأبرز تلك الصور التي يظهر فيها اللباس كإعلان حركي مُمارس. حيث تُضفى عليها صفة “القداسة” لما لها من رمزية وعلاقة بالحدث التاريخي الزماني أو المكاني كموسم الحج على سبيل المثال.

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

  • اللي في قلبي على ثيابي

    جعفر حمزة*

    التجارية ٣١ ديسمبر ٢٠٠٨م

    شدته بقوة لجرأتها، بل و”لوقاحتها” الواضحة لتخرج للملأ دون رقيب أو حسيب، فاقترب من صاحبها اليافع وسأله عنها: “تعرف شنو مكتوب على فانيلتك؟”.
    فكانت إجابته بالنفي، وأردف قائلاً: ” بس شفتها فانيلة سودا، واشتريتها عشان محرم، يعني شنو مكتوب عليها؟ كتابة بالإنكليزي وبس!”

    لم يكن يُدرك بأن العبارة التي يحملها على صدره تدعو للإباحية وبصورة مباشرة ومقززة، ويبدو أن ما دفعه لشرائها هو لونها الأسود ليتناسب مع موسم شهر محرم والذي يتشح فيه المجتمع البحريني بالسواد إحياءً لذكرى عاشوراء الأليمة، والتي اُستشهد فيها حفيد الرسول الأكرم (ص) الإمام الحسين (ع) عند رفضه لواقع الظلم والتحريف في الدين في زمانه.

    وفي كل عام تنتعش سوق الملابس السوداء في البحرين عند اقتراب موسم عاشوراء، نتيجة أن الكثير من الناس يلبسون السواد إظهاراً للحزن على فاجعة كربلاء، وإحياءً لتلك المناسبة الدينية الكبيرة.

    ويبقى السؤال، ما الذي نلبسه في محرم؟ وأي نوع من السواد يمكننا لبسه؟ وهل هناك بديل؟

    يُعتبر شهر محرم من ضمن المواسم الدينية التي تنتعش فيها أسواق بيع الملابس السوداء، كونها تمثل مظهراً للحزن وتعبيراً عن معايشة أجواء هذا الشهر العظيم، ونتيجة لفقدان “البديل” من الثياب السوداء المطروحة، وخصوصاً بالنسبة للشباب، يتوجه أغلبهم إن لم يكن كلهم إلى شراء كل ما هو أسود، مع بعض الزخرفة أو الحركات الموجودة في الثياب، وذلك كنوع من الاختلاف والتميز، وهو ما يميل إليه الشباب عادة، إلا أن ما يغفل عنه الكثيرون، هو نوعية “المسج” أو الرسالة المكتوبة على تلك الثياب، سواء نتيجة “جهل” من يشتري باللغة الإنكليزية، أو نتيجة “تهاون”، فما دام اللباس أسود، فلا ضير بما هو مكتوب عليه.

    وقد لا يقتصر الأمر على مناسبة عاشوراء فقط عند تناولنا لموضوع “مسجات” الملابس، إلا أن أبرز مظاهر تلك المسألة حضورها بسلوك جمعي واحد، وهو لبس الناس للون الأسود، فضلاً عن طبيعة المناسبة والتي هي دينية بحتة.
    ونتيجة لذينك السببين: السلوك الجمعي في اللباس، والصبغة الدينية للمناسبة، يكون الأمر بارزاً إن تم تناول موضوع الملابس و”المسجات” التي عليها، وينسحب الاستنتاج من هذا الكلام على جميع الأوقات وفي جميع المناسبات،كل بحسب ظروفه ورسالته وبيئته.

    وفي قبال ذلك يبقى السؤال: أين البديل في الملابس وخصوصاً للشباب؟

    تُعتبر سوق الملابس من أنشط وأنجح أنواع التجارة في العالم، وتتباين حجم ونشاط تلك التجارة اعتماداً على البيئة والجو وأعراف وتراث كل مجتمع، فالمجتمعات المحافظة لها نمط معين من الملابس في التصميم ونوعية القماش، في حين تكون المجتمعات الغربية لها نمط آخر تميل إليه في الملابس وهكذا، فكل يغنّي على قماشه.

    وبذا تتحرك قطعة القماش اتساعاً وضيقاً وزهاء ولونا اعتماداً على ثقافة وميل المجتمع وأذواق الناس فيه.
    وعند الحديث عن موسم عاشوراء تأتي خصوصية لا بد منها في الملابس، فمناسبة عاشوراء دينية وتكتسي بالحزن والمأساة، لذا لا بد من تحقق أمرين فيما يخص الملابس في هذه المناسبة، وهما:

    أولاً: أن تكون الرسالة “المسج” معبرة عن المناسبة، لتتخذ خصوصيتها في المناسبة.
    ثانياً: أن تكون حديثة الطراز ومبتكرة।

    وذلك لأن الفئة المستهدفة من طرح ذلك هم الشباب والفئة الناشئة والتي تبحث عن الشيء الجديد المميز. وفي حال غياب هذين العنصرين سيكون اللباس الأسود بصورته العامة هو ما يبحثه الشاب للبسه في هذه المناسبة الدينية. ونتيجة لذلك تنتشر الألبسة التي تحمل الشعارات والكلمات التي لا تمت إلى الإنسان المسلم فضلاً عن تناقضها الواضح مع رسالة موسم محرم التغييرية والإنسانية.

    فما الذي ينقصنا لتقديم البديل المنافس؟

    إن المقومات موجودة لطرح مثل هذا المشروع، فالقاعدة المستهلكة لهذا النوع من المنتجات “الثياب السوداء” موجودة، وجودة التصنيع متوفرة، وما علينا إلا صياغة “ماركة” يمكنها أن تحل مكان المطروح في الأسواق، وخصوصاً للمجتمعات المحافظة.

    ويمكن اعتبار مشروع “البديل” والذي طرحته شركة “إسلاميديا” من خلال منتجها الجديد “نبراس” تجربة تستحق التقدير والإشادة والدعم، وقد سمعت الكثير من التعليقات المشجعة على هذه الخطوة، مما يشير إلى مقدار الفراغ الحاصل في السوق بالمجتمعات المحافظة، والتي تريد أن تواكب العصر وتحتفظ بالهوية في نفس الوقت، وذلك ممكن وبطريقة محترفة أيضاً إن أحسنا التخطيط وقدمنا البديل المنافس والأقوى.

    فالتصميم حديث وشبابي بعضه باللغة الإنكليزية والآخر باللغتين العربية والإنكليزية، فضلاً عن تقديم نماذج نسائية في الملابس، لتتسع دائرة “البديل” وتدخل بحركة ملحوظة في السوق، من خلال تقديمها البديل المناسب والذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة في آن معاً.

    ومن اللطيف في الأمر تحوير مثل شعبي وهو “اللي في قلبي على لساني” إلى ترجمة ذكية لرسالة “نبراس”، حيث أصبح “اللي في قلبي على ثيابي”، وهو تعبير عن الهوية والاعتزاز بالثقافة من خلال طرحها للنماذج التي تحوي الرسالةالمناسبة للموسم.

    وسيمثل “نبراس” انطلاقة جديدة ومميزة-إن تم التخطيط لها جيداً- لتكون ماركة بحرينية محلية، تقدم البديل المنافس في الثياب، ونأمل أن نرى مشاريع مشابهة تنزل في السوق وبقوة معتمدة على ثقافة المجتمع والتي تمثل نقطة البيع الفريدة للمنتج، وهو ما لا تملكه الماركات الأخرى العالمية.

    وقد نطمع بأن نرى عروض “fashion Show” تحمل من القيم ما تمثل نقلة نوعية في التعامل مع اللباس، والذي بات بمثابة جلدنا الثاني؟
    فهل ينقصنا شيء، فالجمهور والملعب في صفنا، لكي لا يستمر لبس شبابنا لثياب تحمل من الرسائل بعضها ما يخدش الحياء وبعضها ما يحارب الدين،
    ليكون شعار”اللي في قلبي على ثيابي” واقعاً عملياً ملبوساً مطلوباً.


    *مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

  • واقع الإبداع الفني في المجتمع البحريني مـن يصنع الخـبـز؟

    واقع الإبداع الفني في المجتمع البحريني
    مـن يصنع الخـبـز؟
    الوقت ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٨م

    جعفر حمزة:

    ”إن لم تستطع أن تقدم ثقافتك। فهناك غيرك من سيملأ الفراغ الذي أحدثته أنت”। لم يقلها فيلسوف أو مفكر أو كاتب، بل قالها صاحب شركة صغيرة في إحدى الدول الأفريقية، والتي قامت بإنتاج سلسلة رسوم كرتونية تحكي قصصاً عن تاريخ تلك الدولة وحضارتها القديمة. لقد تغيرت المعادلة هذه الأيام مقارنة بالخمسين سنة الماضية. إذ أصبح ميدان التحدي أو ما أميل إلى تسميته بالتدافع ”ولو لا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد”وفقاً للمفهوم القرآني، حاضراً وبقوة وهي المعادلة الطبيعية لإيجاد توازن بين الشعوب والأمم. لقد أصبح هذا التدافع ملموساً بصورة لا يمكن سوى فهمها وترجمتها لصالح المجتمعات بدلاً من أن تكون مدعاة للتصارع وحروب الهوية.

    ومما يحفظ ذلك التوازن هو وجود آليات تضخ القوة والثبات للمجتمعات بالحفاظ على هويتها من جهة والتعاطي بمرونة مع المتغيرات المحيطة به من جهة أخرى، لنصل إلى صورة الكوكب الذي يسير حول نفسه ”الثبات على هوية المجتمع” ويسبح حول الشمس ”المتغيرات المتسارعة”، ويسير مع منظومته الشمسية إلى مسار أكبر، وهو مسار التكامل والقوة التي وضعها الخالق للمجتمعات الإنسانية.
    وما ادعيه بأن المعادلة قد تغيرت نتيجته هو ”الانفجار المعلوماتي والتقني” حول العالم، حيث لم تصبح التقنية ”حكراً” على مجتمع دون غيره أو لدولة دون أخرى، والتي كانت في السابق بمثابة نقاط قوة وسلاح تستخدمه المجتمعات في النصف الشمالي للعالم في تعاملها مع مجتمعات النصف الجنوبي كما يقولون.
    بل إن الأمر قد اختلف، فنتيجة ذلك الانفجار في التقنية والمعلومة أصبح من الصعب وضعها في قفص مجتمع دون غيره، حيث باتت تلك التقنية متوافرة في العديد من المجتمعات، والتي اعتبرت بالأمس القريب أقل من نامية لتمتلك الآن مناطق تقنية تنافس فيها الدول المتقدمة، منها على سبيل المثال لا الحصر ”مدينة السيليكون” وهي مدينة بانغلور الهندية، والتي تتميز بصناعتها لرقائق السليكون والعديد من مراكز الأبحاث والتطوير والتقنية العالية الدقة। والتي باتت بمنزلة ”وادي السليكون” في أمريكا

    لم تعد التقنية مرتبطة أو ”حصرية” على الرجل الغربي، بل قد أصبحت ”مشاعاً” ومتوافرة، وينبغي على الأفراد كما على المجتمعات الاستفادة منها ومعرفة الوصول إليها أولاً والاستفادة منها ثانياً والاحتفاظ بها وتطويرها ثالثاً.
    ونعتقد بأن الحديث بل والتعمق في تناول الإبداع الفني بآلياته طبيعية وتفتح منطقي للعيون، التي أغفلت أو تغافلت أو لم تدرك مقدار القوة ”الكامنة” الموجودة فيها، فهل يكون هذا الطرح ”رفع عتب” ومن أجل رضا نفسي؟ أم تكون بداية مسؤولية حقيقية لتصبح ”بداية عمل” يجب أن يتحملها الجميع دون استثناء؟
    وفي غير تلك الحالة سنكون كمن يملك كنزاً تحت بيته، ويقوم برسم الخرائط وتقسيم الثروة المفترضة من هذا الكنز دون البداية العملية، وهي ”الحفر” واستخراج الكنز والاستفادة منه.
    وبالتالي لن نضيف للمجتمع وقبله أنفسنا سوى وقت ”للتنفيس” ووريقات تُتلى، وكلام يُقال لنوهم أنفسنا بأننا قد وضعنا النقاط على الحروف، لندرك بعد حين أننا لم نكن نمسك قلماً أصلاً لنضع تلك النقاط.
    هي مسؤولية الجميع دون استثناء في تحويل الإبداع إلى مسؤولية والخروج من تصور أن ”الإبداع” هو ”المقبلات” في الوجبة وليس هو الوجبة الرئيسة.

    من يجمع القطع المتناثرة؟
    لا يُنكر القارئ لواقع الفن (المسرح، الأفلام القصيرة، الفيديو كليب، الفن بأنواعه) في المجتمع البحريني بأن الأخير يتميز بقدرته الملحوظة في ”هضم المتغيرات المتسارعة” كتقنية وأدوات. حيث إن ما ذكرناه من ”الانفجار المعلوماتي” يطل على الكثير من المجتمعات، ويبقى السؤال هو في كيفية الاستفادة منها.
    وحديثي هنا هو عن فلان المبدع في التصميم، والذي يعيش عالمه الخاص عبر الإنترنت وبرامج التصميم التي تمثل امتداداً لشخصيته، وهو لا يُعير اهتماماً لما حوله من هوية أو تحديات. وحديثي أيضاً عن ذلك الكاتب المسرحي الذي يمتلك قوة قلم وخيال خصب وهو محاصر من قبل بعض واضعي الحجج الشرعية للحد من حركته، ليكون مُقعداً في النهاية دون حرية حركة أو حرية إبداع قلم. وحديثي عن المغرم بألعاب الكمبيوتر الذي يعرف التقنيات وتفاصيلها وهو قادر على الغوص في عالم الألعاب وتحويرها كما يشاء، وهو لا يبالي بما نقوله في هذا المؤتمر أو غيره. وحديثي عن ذلك المصور المبدع الذي يعيش عالمه الخاص من عدسات وأنواع الكاميرات والتقنيات الجديدة في التصوير، وقد يتخذها هواية أو تكون عمله اليومي، ومع ذلك تكون طاقته الإبداعية حكراً على عمله ونفسه فقط.
    حديثي عن كل هؤلاء وغيرهم، ممن يمتلكون الإبداع والموهبة والطاقة، إلا أنها متفرقة كالجزر، ولا يجمعها هدف أو يوحدها حلم ومهمة، وبالتالي تكون تلك الطاقات كمثل كرات الطاقة المتناثرة، دون أن يكون بمقدور المجتمع توجيهها للحصول على الطاقة الكافية للتغيير، وذلك حسب منهجية ودعم مالي مدروس من أجل التغيير ومن أجل رسم ملامح جديدة لمجتمع محلي بات كحبات السبحة المتناثرة.
    وللوصول إلى تلك الطاقات، لا بد من عرض القطع المتناثرة، والتي تمثل أساساً مهماً في معرفة القوى أولاً، وإزالة العقبات ثانياً، وتطويرها ثالثاً. فأين هي تلك القطع؟

    «الحاجة أم الاختراع»
    قد تكون الحاجة مادية كزيادة في الدخل أو حل لمشكلة تُعيق راحتك، وقد تكون الحاجة نفسية من أجل إرضاء الذات من ناحية معنوية، وقد تكون الحاجة متمثلة في إزالة ما يعكر صفو المجتمع وإقراره.
    وبالتالي يكون الإبداع لازماً للإنسان في كل تحركاته، وليس ”زيادة” أو ”ترفاً” يتجمل به الإنسان. وما نعيشه من تقنية وتطوير في المجال المادي هو نتيجة حاجة قام برفعها الإبداع.
    ومن الضروري مراجعة العقلية الحاصلة في مجتمعنا المحلي تجاه الإبداع في الفن، فهو ليس ”زينة” أو ”مضيعة وقت” كما يسميها البعض. فبوجود العقليات المثبطة، والتي تأتي من الشخص نفسه أو من الوالدين أو الأصدقاء أو حتى عالم الدين، فضلاً عن الدولة بمؤسساتها وخطابها، يتحول دافع الرضا الذاتي من الإبداع إلى إبداع من نوع آخر، إبداع سلبي في النقد والتحبيط والسوداوية. ليكون بمثابة ”الفيروس” الذي يصيب الأب فينهر ابنه عن العمل مع أصدقائه في مشروع إبداعي، وهو الفيروس الذي يصيب الأم لتضع على عيني ابنتها- كتلك الذي يضعونها على الحصان الذي يجر العربة- حجاباً، ولتقول لها ”ما شأنك وتلك الأنشطة؟ عليك أن تدرسي فقط”. وليس ببعض علماء الدين بمحصنين عن الإصابة بذلك الفيروس ليكون ”عقبة” في أنشطة يقوم بها البعض في المجتمع من أجل ترفيه مباح لإيصال رسالة مبدئية، وليكون هو ”الآمر الناهي” بعيداً عن القراءة المتأنية والواقعية لرأي الشرع الحنيف في مثل تلك الأمور. وهكذا ينتشر ”فيروس التحبيط” ليحد الإبداع من النمو، وليُبدله بنظرة تشاؤمية ساهمت فيها كل من الدولة والوالدين والأصدقاء ومؤسسات المجتمع وعالم الدين والمثقف-أو مدعيها- كل بنسبة معينة، لتتحول إلى عقلية سلبية لا تنتج وإذا أنتجت تم الحد من إنتاجها، وإذا أنتج غيرها انتقدت وثارت. وهكذا يتحول الإبداع من حل لحاجة إلى هم لا حاجة لنا فيه، وبالتالي يتحول المجتمع إلى ”مجتر” للأفكار والأشياء دون نتاج ذاتي أو تغيير في عملية الإنتاج الفنية، والتي تمثل إحدى أهم صور التغيير في المجتمع، عبر المسرح والفيلم واللباس والشعر والتصميم والإنترنت و… والقائمة لا تنتهي.
    لذا، عندما يتحول تعاملنا مع الإبداع إلى كونه ”حاجة” ستتغير سلوكياتنا وتعاملنا مع أنفسنا والآخرين، ليكون الإبداع حلاً أساسياً لا هامشياً. هو حلٌ مادي وثقافي وفكري وديني وسياسي.
    وبالتالي يتغير خطابنا وسلوكياتنا ومنهجيتنا في التفكير. إن ما نقوم به الآن هو مثل ذلك الحطاب الذي أنهكه قطع الأشجار، فرآه أحدهم ونصحه بأن يأخذ وقتاً في سن أدواته ليقطع أسرع وبراحة أكثر، لكن صاحبنا الحطاب رد كلام الرجل بأن ليس لدي وقت لأسن أدواتي، فذلك مضيعة للوقت.

    فأيهما مضيعة للوقت؟
    وعندما يتعامل المجتمع مع الإبداع كحاجة، سيكون الاهتمام أكثر، عبر تخصيص وقت ومال وجهد له، لأن المنتج الإبداعي في آخر المطاف من فنان أو مخرج، ومن مصور أو مصمم، أو من كاتب أو خبير إضاءة، سيكون له مردودٌ مالاً ووقتاً وجهداً يشكل المجتمع بسلوكيات جديدة وبتعامل جديد مع المتغيرات.
    ما نريده كلمة مشجعة من عالم دين تعبر عن التزامه وانفتاحه في الوقت نفسه، وما نريده هو تفكير استثماري في الموارد البشرية المبدعة من قبل تاجر أو صاحب عمل أو وجيه، وما نريده هو دعم عملي من قبل مؤسسات المجتمع المدني، وما نريده قبل كل ذلك هو أن يؤمن المبدع بأن ما لديه أكثر من مجرد موهبة، هي مسؤولية يجب عليه أن يدرك أنها لا يمكن أن تتوقف بمجرد أن يسمع كلمة من يائس هنا أو من محبّط هناك، أو من تجاهل حكومي أو من تهميش مجتمعي. لأنه لا يمكن للإبداع أن ينمو إن لم تكن للنبتة قابلية للنمو أصلاً.
    لقد حولت الحاجة العدسة الإيرانية إلى فن إنساني ملتزم وجعلها مدرسة عالمية في السينما، وحولت الحاجة شركات الرسوم الثري دي بماليزيا إلى فن إسلامي وجعلتها منتجة لأفلام الأنيميشن، وباتت تنافس كبرى الشركات العالمية في هذه الصناعة.

    فأي حاجة نريد لنكون؟
    من سيصنع الخبز؟
    من الجيد أن ترفع راية تُعلن فيها عن اهتمامك الأولي بالخبز-أقصد الإبداع-، ولكن الأمر غير كافٍ. إذ من سيقوم بصناعة الخبز-الإبداع-؟ وعلينا هنا أن تأتي بالقطعة الثانية..
    فبعد أن يتحول الإبداع إلى حاجة، لتكون الأخيرة صانعة له، علينا تحويل تلك الحاجة إلى الخطاب الذي يعيشه المجتمع، وذلك عبر التالي:

    أولاً: تشجيع الكوادر الموهوبة بشقيها المُعلن والمخفي لضرورة إخراج نفسها من دائرة ”الخوف” أو ”العيش في جزيرتهم الخاصة”، دون النزول للمجتمع وتسخير إبداعهم لأجل رفع العديد من المشاكل والعقبات وإيجاد الحلول الإبداعية। عبر تشجيعهم مادياً ومعنوياً، وإفساح المجال لهم لتقديم إبداعهم بما يخدم المجتمع وقبله أنفسهم مادياً ومجتمعياً।

    ثانياً: عندما يكون المخبز مغلقاً فلا فائدة في الخبز الموجود داخله، وكذا الأمر بالنسبة للمبدعين، فإن وُجودوا ينبغي أن يكونوا في مواقع التغيير، وأن لا يتم تحجيم تحركاتهم بـ”تابوات” يصنعها البعض، مرة بغطاء ديني وآخر بغطاء سياسي، وهكذا تتعدد الأغطية ليتم حجب ”المخبز” عن الناس। وهنا تحتاج شجاعة دينية من لدن العلماء ونزولهم من ”مكانتهم” إلى المبدعين الذين تمثل لهم موقف العالم لهم دعماً وقوة। وتحتاج شجاعة سياسية من لدن السياسيين عندما يتم توجيه الدفة للمبدعين لينتجوا।
    ثالثاً: اقتناص المواهب الموجودة، والتي لها القابلية للاحتراف، وتطويرها لتكون منتجة مغيرة في المجتمع، ويمكن ذلك عبر ابتعاث موهوبين في مجال الإخراج التلفزيوني أو التصميم أو الرسم أو البرمجة، وغيرها من مجالات الفن والإعلام والإعلان المتعددة إلى أماكن ستزيد من رصيد إبداعهم، وبالتالي يمكن الحصول على مبدع محترف بعد أن كان مبدعاً هاوياً، فالأول يُنتج على نطاق ضيق وقد يكون على نطاق شخصي وينقصه الاحتراف، في حين ينتج الآخر على نطاق مجتمع وتكون نظرته أوسع. وشتان بين الاثنين.
    رابعاً: تزويد المجتمع بمعاهد متخصصة في مجالات الإبداع المختلفة، وتغيير أسلوب البذل المجتمعي، والذي بات حكراً على اتجاهات عبادية بحتة، ولم يعِ بعد قيمة الإبداع في التغيير الإيجابي، والذي يمثل الترجمة الحقيقية للعبادة، وهي الخلافة في الأرض لإعمارها. فالدعم الحقيقي للإبداع لن يأتي من خلال ”تعليق” الحجج على الدولة وإن كانت ساحتها ليست ببريئة عن التقصير الكبير في هذا المجال. إلا أننا نؤمن بأن قدرة المجتمع على التغيير هي أكبر من قدرة الدولة. وما دام المجتمع لا يؤمن بأهمية الإبداع في الفن من جهة، وتتجاهل الدولة بطريقة أو بأخرى المبدعين من جهة أخرى، فسيكون نمط التصدي للأفكار الجديدة والغريبة عن المجتمع ضعيفاً، وبالتالي وإن كان اللوم جاهزاً والخطب العصماء معدة مسبقاً، عندها لن ينفع البكاء على اللبن المسكوب. ويمكن أن تكون المعاهد المذكورة متعاونة مع أخرى متخصصة خارج البلاد أو الاستعانة بالمحترفين في البلد، منها على سبيل المثال لا الحصر: في مجال الرسوم ثلاثية الأبعاد، التصميم المحترف، كتابة السيناريو، الإخراج السينمائي، تصميم الملابس، والقائمة تطول.
    خامساً: تعزيز الاتجاه في الاستثمار البشري للأفراد المبدعين، حيث سيكون ذلك بمثابة التعاون الثنائي بين المستثمر ”جهة أو مؤسسة” والكادر المبدع، إذ يدعم المستثمر المبدع مادياً، ويقوم الأخير بتقديم إبداعه من أجل المستثمر ضمن اتفاقية لا يتم احتكار المبدع فيها، ولا يتم صرف مال المستثمر فيها دون عائد.
    سادساً: القيام بخطوة تقاربية أكثر تقوم على مبدأ الحوار والتوجيه بدلاً من منطق الأمر والنهي، وتلك العلاقة تتمثل بين المبدعين في المجال الفني وعلماء الدين.
    فلو وجد عذر يخرج من عالم الدين، فإن الحكم على الإبداع سيكون ”التحجيم” و”التهميش” إن لم تكن المواجهة والنقد اللاذع. لذا، لا بد من تقارب بين المبدع وعالم الدين. والتجربة السينمائية الإيرانية شاهدة على مدى التقارب الإيجابي في مجال السينما.

    قبل أن تأكل الخبز. فكر قليلاً
    إذا أردت أن تواجه مداً عاتياً، فهناك طريقتين لا ثالث لهما، إما بتحوير مسار المد أو التخفيف منه عبر بناء سدود أو حفر خنادق، وإما بتوظيف المد وتحويله إلى طاقة للاستفادة منه، وبالتالي تحويل ”التهديد” إلى ”طاقة” بشرط توافر الآليات والمعدات اللازمة لذلك. ؟؟وفيما يتعلق ببعض المبادرات الفردية أو من قبل جهات، والتي يمكن أن تزرع أو ترعى الإبداع بأشكاله المختلفة، فالأمر متعلق بتوفير ”العدة” اللازمة لذلك، وإلا فلا داعي للسؤال، وسيبقى حال الإبداع أمر فردي بحت لا يمكن له السير في المجتمع واستحصال الفائدة منه.
    لذا لا بد من مراجعة جريئة لخطابنا المسيس والديني بما يتعلق بواقع الإبداع بعد مفهومه:
    أولاً: لا يكفي طرح مشروع هنا ومشروع هناك تحت الإطار التثقيفي فحسب، فالبطن الجائع لا يهمه فكر، والعين التي ترى ”الزخارف” وحلو الحياة من على الشاشة، لا يهمها ما تقدمه إن لم يكن من القوة لتوقفه وتجعله يتفاعل مع ما تطرح। واعتقد أن ما يُطرح من مشاريع ما هي إلا بمثابة ”إكمال حجة نفسية” على الذات، بأنها قامت وفعلت ونظمت، هو تخدير موضعي وحلم مؤقت بدعوى ”تقديم البديل” و”المواجهة”، لا أكثر ولا أقل। وليس هذا بتقليل للجهود، فنحن نملك من الطاقات ما يجعلنا نؤسس لإبداع مُنتج وفاعل -إن أحسنا استخدام الأدوات المناسبة لذلك-। وعوداً إلى أحد ”أدوات العدّة” اللازمة للخطاب الإبداعي، وهو النظر إلى الإبداع كونه حاجة وليست زيادة। فليس وضع ”فعاليات ثقافية” بمشروع يدعم الإبداع، وليس وجود قنوات شيعية بالصورة المطروحة في أغلبها بمشروع يخدم الإبداع، وليس إنتاج مسرحيات أو أفلام قصيرة متفرقة هنا أو هناك بمشروع يخدم الإبداع، وليس إصدار مجلات ونشرات بمشروع يخدم الإبداع। فهي كلها جزر متفرقة أو ”فتات طعام” لا يُسمن ولا يغني من جوع। وإذا أردت الدليل فانظر إلى ما يشاهده الناس وما يلبسون وما يأكلون وما يسلكون، فإذا لم تستطع أن تصيغ سلوك الفرد، فما تقوم به إلا تقديم ”حبة بندول” لإرضاء ضميرك، وتعتقد بأنها ”إكمال حجة” على الآخر।
    وإذا أردت العلاج، ففي دعوة نبينا المصطفى (ص) مرجعاً عملياً. إذ كانت دعوته ”ممنهجة” ولديها خطة زمنية موضوعة، وكذلك الأئمة (ع) من أهل بيت النبوة، لم تكن منهجيتهم في ”التنظير” والدعوة لمواجهة خطابات الطرف الآخر المشوه للإسلام بالأساليب التقليدية، بل كانت دعوتهم مخططة ومرسومة، وفي الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مثالان يستحقان الدراسة المعمقة لمعرفة آليات المواجهة وأساسياتها من منظور قرآني ونبوي. وبأساليب إبداعية جديدة. وقصة الشاعر دعبل الخزاعي مع الإمام الرضا (ع) بعد أن ألقى قصيدته المشهورة ”أفاطم لو خلت الحسين مجدلا” مثال واضح لتشجيع الإبداع وتأسيسه. حيث أهدى الإمام إليه رداءه ومبلغاً غير يسير من المال. ولم ذلك؟ لتشجيع الإعلام المبدع والملتزم في الوقت نفسه، إذ كان يكفي الإمام الدعاء له دون الجائزة التي منحها لدعبل.

    ثانياً: بعد وضع المشروع والتزود من مصادره الطبيعية، لابد من تحويل تلك الطاقة إلى مفردات وسلوكيات يومية يتفاعل معها الفرد، فإذا أردت أن تحرق ورقة على سبيل المثال، لا بد من توافر (المادة القابلة للاشتعال (الوقود)، والحرارة، والهواء). ويتمثل الوقود في القابلية الموجودة في المجتمع من وجود مبدعين يمكنهم أن يؤثروا إن تمت المزاوجة مع المرجعية لفكرية للمجتمع، يمكنهم أن يحدثوا تغييراً إيجابياً في المجتمع.
    فإذاٍ القابلية موجودة، وأما الحرارة فهي تأتي من المشاريع نفسها، إن كانت لها القوة الكافية للتفاعل مع الناس. وأما الهواء فيمكن القول بأنه الدعم بنوعيه المادي والاستراتيجي الذي يمد تلك الحرارة باستمرارها في المادة القابلة للاشتعال[1].

    الخبز نعمة فلتشكر ربك
    لم أشأ أن أكون واضعاً للحلول، لأنها ببساطة تأتي منك أنت المبدع ومنك أنت المبدعة، عندما تفكر وتسخر طاقتك الإبداعية لنفسك أولاً عبر تحصيل مردود مالي من إبداعك إن أمكن، وعبر توسيع دائرة نشاطك لتخدم وطنك وأهلك، وتتسع دائرة مسؤوليتك كلما كبر إبداعك، لتكون مخرجاً سينمائياً مثل ”محسن مخملباف أو ميل غيبسون”تحمل الرسالة وتنشرها حول العالم، ولتكون ممثلاً مثل ”دريد لحام” تترك بصمتك على سلوك الناس وأقوالهم، ولتكون المصمم مثل ”خالد المحرقي” الذي يُبهر الناظرين في فنه وإبداعه.
    إن العائق الأول والأخير في المجال الفني في البحرين هو نحن، أنا وأنت قبل أن يكون العائق مادياً أو حكومياً، فالمال يأتي عندما يؤمن الناس بضرورة إنتاج فيلم سينمائي عالمي يحكي واقعة الطف، بمقدار الإيمان العميق الذي يدفعهم بسخاء للعطاء للمآتم. وهكذا تترابط الأمور ببعضها لتنتهي عندي وعندك، وهو مصداق واقعي للآية الكريمة ”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

    – بتصرف من مقال تم نشره في صحيفة الوقت وعلى موقع سعوديات.نت. يمكن الاطلاع على المقال بالكامل حول الغزو الثقافي على العنوان التالي:http://jaafarhamza.blogspot.com

    – مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

  • محمد وعلي


    جعفر حمزة*

    التجارية ٢٤ ديسمبر ٢٠٠٨م

    كانا يأكلان الطعام ويمشيان في الأسواق، ويعملان بشغف لم يغب عنهما للحظة، كانا وما زالا يحبان اهتمامهما المشترك، والذي جمعهما من على صفحات الإنترنت. فتولدت تلك الصداقة التي ما فتأت حتى كبرت وكبر حلمهما معاً، فصار محمد وعلي أكثر من صديقين بل أخوين يشاركان الطعام والأفكار والعمل، فما الجديد في علاقة محمد وعلي؟

    قد لا يكون في الأمر جديد بالنسبة لهما، إلا أن كلاً من محمد وعلي من بيئتين مختلفتين، بكل ما للكلمة من معنى، فمحمد يعمل في جهة حكومية ويسكن إحدى المدن، في حين يعمل علي في إحدى الشركات الصغيرة، ويقطن قرية صغيرة. هذا فضلاً عن اختلاف في مذهبهما، والذي لم يكن عائقاً البتة في عملهما وتواصلهما الأخوي المتين أبداً.

    ما جمع محمد وعلي هو الإبداع والاهتمام والشغف في العمل المحترف، وكفرا بكل الحواجز التي بينهما، كفرا بوهم الفرق بينهما، وكفرا بوهم المسافة والتقاطيع المبرمجة للسكن، وكفرا بكلام الناس، واستمرا في المضي عملاً وإبداعاً من ٧ سنوات سمان بينهما، وتركا عجل السامري الطائفي والعُرفي وحيداً بعيداً عنهما।

    وما إن كفرا بكل ذلك حتى آمنا بما لديهما من قدرة تتزاوج بينهما، ليكون “العالم الافتراضي” وتوابعه من برامج الأبعاد الثلاثية هو “البُعد” الجامع بينهما وبقوة، فاحترفا تلك المهارة في “صناعة” العالم الافتراضي للعديد من الشركات والجهات، فأصبحت لمساتهما بارزة كشابين يافعين اعتمدا على نفسيهما في شحذ تلك المهارة لتكون احترافاً، وتركا بصمتهما في إحدى المسلسلات الخليجية، وغيرها من الدعايات والفواصل الإعلانية، ولم تخل المنتديات المتخصصة في برامج الثلاثية الأبعاد من مشاركتهما والإدلاء بدلوهما فيها.
    يعملان بجد وضمن خطة للقيام بمشاريع متعددة مشتركة.

    هما مصداق عملي بعيداً عن أي تنظير يتم طرحه هنا أو هناك في مجال نبذ الطائفية والتي تخمت قاعات المؤتمرات والصفحات من الكلمات والخطب والمقالات، هما -ومن على شاكلتهما- أنموذج وطني يستحق الافتخار بهما، لأنهما آمنا بأن تخصصهما وعملهما المحترف فوق كل اعتبار مناطقي وطائفي وعرقي، فتولّد من بينهما إبداع مشترك مميز.

    هما مثالان يضربان عرض الحائط واقعين سوداويين، واقع تمارسه بعض الجهات الحكومية من خلال تمييزها الوظيفي وواقع يرسمه العُرف يُبعد من كان في “الفئة” الأخرى في المجتمع عن أي عمل مشترك بغض النظر عن إبداعه .
    وبين نار التمييز الحكومي والإبعاد الشعبي قد يموت الإبداع أو ينكمش، وذلك بعد أن ضاقت بهذه النماذج الوزارات التي بدأت تُصنف مثل الكانتونات لتكون هذه الوزارة للفئة الفلانية وأخرى لتلك الفئة، وبعد أن انسحب فيروس التمييز إلى القطاع الخاص، والذي يجب أن يكون الأبعد عن مثل هذا الداء العضال، أصبحت المساحة المشتركة الممكنة والتي لم يقترب منها ذلك التمييز بعد هو في مجال العمل الحر
    “Free lancing”

    أنموذج محمد وعلي المصغر يمكن أن ينتشر ويكسر طوق بدأ البعض بشد لفه حول عنق المجتمع، ليبدأ بالإنتاج المستند على الموهبة والكفاءة بعيداً عن انتماء هذا أو ذاك.

    وهذه هي الرؤية الحقيقية التي ينبغي السير عليها، رؤية الكفاءة والعمل الوطني الموحد، رؤية نموذج يجب أن يُحتذى به في العيد الوطني للوصول إلى إنتاج حقيقي وتقدم ملموس في المجالات التي تنشدها المملكة في خضم التحديات الاقتصادية والسياسية القائمة في المنطقة والعالم، عليها أن تهيأ الجو وتشجعه لمحمد وعلي معاً، وكل محمد وعلي آخرين.

    فلا مجال للتمييز إن أردنا التقدم وتحقيق رؤية اقتصادية فاعلة. فمحمد وعلي أنموذج حي يعيش بيننا، في ظل ترهلات في النظرة الاقتصادية الفاعلة والمنتجة، وتحت ظل اصطفافات عقائدية انسحبت على الجانب المعيشي بصورة لا يخطأها ناظر أو فاحص بسيط.
    فاتركوا العقال الذي يربط كل محمد وفكوا قيد كل علي لترو أن محمداً وعلياً هما أنموذج وطني وبجدارة ينبغي أن يُحتفى بهما، تزامناً مع كل فرحة للوطن، ومع كل رفة علم للبحرين।

    هذه هي صورة حقيقية للبحرين مجتمعاً واقتصاداً وعملاً، صورة ينبغي أن لا تتحول إلى أنموذج يُذكر وكأنه الاستثناء بدل أن يكون القاعدة، صورة نخشى أن تتحول إلى المتحف، بدل أن تكون واقعاً نلمسه، نريد أن تكون تلك الصورة لمحمد وعلي نعرفهما ونشاهدهما كل يوم.

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

    ملاحظة: فضل كل من محمد وعلي علي عدم الكشف عن اسميهما ليبقيا رمزا صافيا بعيدا عن كل حسابات السياسة النازعة لللرحمة والمزيلة للصداقة.