الرئيسية

  • الكرة أم الرقاقة؟


    جعفر حمزة*
    التجارية ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨م

    لم تبدأ المباراة حتى تبيّن لي أن الفريق الذي اخترته للعب به في “البلاي ستيشن ٣” قد كان يحمل شعار طيران الإمارات على قمصانه، وانتشيت فرحاً، فطيران الإمارات أصبحت من أشهر الماركات العالمية، وامتد إنتشار حركتها لتكون داعمة لإحدى الأندية الأوروبية، وانسحب الأمر إلى كل التغطيات الإعلامية والإعلانية،لتكون إحدى صورها وجود شعارها في لعبة يتمتع بها الملايين حول العالم، وبطريقة تفاعلية مباشرة أيضاً عن طريق الإنترنت.

    وقد أنعش ما رأيته خبر شراء بعض الأندية الإنكليزية من قبل بعض المستثمرين الخليجيين، فهل أصبح دعم أو شراء الأندية الشهيرة كحصان طروادة للترويج أو الربح والاستثمار الذي يستحق ضخ الملايين فيه؟ وهل شراء بعض المستثمرين العرب الخليجيين لبعض الأندية الإنكليزية الشهيرة يمثل خطوة مهمة في الاستثمار المطلوب؟ وخصوصاً في ظل تغيرات وتقلبات وتحديات اقتصادية قد ترسم سياسة الاقتصاد العالمي من جديد، وخصوصاً بعد الأزمة المالية التي ضربت أرض العم سام وكل العالم؟
    وفي قبال ذلك يحصل الآسيويون على جرعة قوية من أولويات الأبحاث التي تقودها السوق جراء تدفق الشركات الأمريكية। ففي السنوات الخمس الماضية أقامت أكثر من ١٠٠ شركة، بما فيها “جنرال موتورز”، و”بوينغ”و”موبيل”، مراكز أبحاث وتطوير في الهند. وقد وضعت “جنرال إلكتريك” أكبر مختبر لها خارج الولايات المتحدة في” بانغلور”، حيث توظف الشركة ١٦٠٠ باحث معظمهم من الهنود.
    كما أن “جونسون آند جونسون” و”دوبونت” و”بروكتر آند غامبل” وغيرها من الشركات تعكف على النظر في أمر إقامة مختبرات خاصة بها. ويقول “آر آيه ماشلكار” رئيس مجلس الأبحاث العلمية والصناعية: (لقد أدرك العالم أنه إن لم يكن لديك عنوان في الهند -في مجال الأبحاث والتطوير-، فإنك غارق في مشاكل). (١)
    وبين ضخ الأموال لدحرجة الكرة وهتافات جمهور الملعب الأخضر، وبين جذب الأموال لتصنيع رقاقة، لابد من التوقف عن اللعب والبدء في فتح اللعبة ومعرفة ما بداخلها.

    فأين الكرة؟

    يقول نجم فرنسا السابق ورئيس الاتحاد الأوروبي كرة القدم “ميشيل بلاتيني”، تعليقاً على ظاهرة إقدام الأثرياء والممولين الأجانب على شراء نوادي الدور الإنكليزي 🙁 إذا جلبت أناساً من قطر إلى نادي ليفربول أو مانشستر على سبيل المثال دون أن يبقى فيهما أحد من المدينتين। ماذا تبقى من ليفربول أو مانشستر؟ لا أعتقد أن ذلك شيء جيد. فعلى القطريين استثمار أموالهم في قطر).وأضاف :(عليهم تطوير كرة القدم في بلدانهم). وهل هناك أوضح من هكذا رد قوي وواقعي؟
    ويبدو أن هناك توجهاً لوقف المد الأجنبي عموماً والعربي منه خصوصاً في استملاكهم للأندية الإنكليزية. حيث يمثل ذلك تشويهاً لهوية كرة القدم، كما يشير إليها “بلاتيني” بالقول :(ما هي كرة القدم؟ كرة القدم مجرد لعبة اكتسبت شعبيتها من قضية الهوية، فالهوية أساس شعبية كرة القدم، إذا فقدتها فقدت شعبيتها). (٢)

    وتدفع مثل هذه الصورة من الإنفاق كما يسميه البعض أو الاستثمار، سمّه ما شئت، إلى التفكير في السلوك الاستثمارأو الإنفاقي على مستوى الفرد والمؤسسات والحكومات في دول الخليج العربية خصوصاً، نتيجة ما تعيش عليه من نعمة نفط بدت الدوائر الاقتصادية الغربية والشرقية بالتفكير الجاد في التخفيف من الإعتماد عليها شيئاً فشيئاً.

    فعلى مستوى الأفراد يطرق سمعنا إنفاق مبالغ طائلة من أجل لوحة سيارة ذات رقم “مميز” في الإمارات، وحجز البعض لرحلات فضائية سياحية من السعودية، وطلبية خاصة لسيارة مرسيدس مرصعة بالألماس من أجل “زبون” إماراتي। هذا فضلاً عن السلوكيات الفردية في الإنفاق والإنجذاب “الجمعي” نحو المسابقات والحفلات التي تدر الأموال الطائلة।

    وأما على مستوى المؤسسات والشركات، فقد أصبح الإندفاع نحو الاستثمار العقاري “موضة” الكثير منها، فمن تدشين المشاريع على البر، إلى غزو البحر، بل وحتى تحت البحر أصبح “هوساً” مبرمجاً لدى الكثير من المؤسسات والشركات الاستثمارية، والتي يبدو أنها “تنفخ” في فقاعة قد تكون مشابهة لتلك التي انفجرت في الولايات المتحدة إثر أزمة الرهن العقاري. وأما على مستوى الحكومات، فالملاحظ في معظم توجهاتها النية عبر الإعلان عن الرغبة في تنوع مصادر الدخل والسير نحو ذلك، وإن كان بخطوات بطيئة في أغلبها، وعبر تصريحات إعلامية، في حين نرى الخطط الاستثمارية في الموارد البشرية والاقتصاد المعرفي شبه مغيبة، ولا تفرد لها مساحة من الاستثمار، في قبال التغني بتنوع الاستثمارات، وفتح المجال للاستثمار الأجنبي المباشر “إف دي آي”.

    وأين الرقاقة؟

    هناك العديد من الفرص، والتي تجعل من دول الخليج العربية أكثر من مجرد مشاريع “الأكبر، والأطول والأضخم” في قبال استثمارات بعيدة المدى تسعى لتنوع مصادر الدخل القومي، وتجعل من أراضيها ساحة لاحتضان استثمارات تعود بالفائدة على مواطنيها وحكومات تلك الدول، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الهند وتايوان وسنغافورة، حيث تمثل “بنغلور” في الهند أنموذج متقدم ومتطور في مجال الأبحاث العلمية والصناعات المستقبلية من أدوية بالخصوص وغيرها من الصناعات الذكية।
    والحديث عن الاستثمار في المجال التقني مهم وضروري، بلحاظ حجم الإنفاق الذي تحتضنه أسواق منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً للمنتجات التكنولوجية. وذلك ما ذكره ولي العهد عند زيارته لليابان، حيث ذكر ما قاله وزير التجارة الخارجية الإماراتي قبل حوالي شهر أن سوق دول مجلس التعاون الخليجية المستهلكة للإلكترونيات نمت بمعدل ٣٠٪ هذا العام، لا سيما أن سكان هذه المنطقة في نمو مستمر. (٣)

    وبالرغم من وجود ثلاثي الاستثمار الممتاز، وهي الوفرة المالية والقوانين الحكيمة المشجعة والأيدي العاملة الماهرة، وكلها متوفرة في دول الخليج العربية، إلا أن التوجه الحاصل عملياً هو النفخ في فقاعات تزداد حجماً، تُنذر بفراغات لا يمكن ملؤها عندئذً। فمن الإفراط في الاستثمار العقاري الموجه نحو فئات مُتخمة أصلاً إلى فتح الباب على مصراعيه فيما يتعلق بالشركات الأجنبية دون وجود خطة في إدماج العمالة الوطنية فيها، ومن “تطرف” في الإنفاق على لوحة سيارة بالملايين أو مئات آلاف لرحلة فضائية إلى شراء أندية أجنبية وكأنها الحصان الرابح والذي يمكن المراهنة عليه।

    تأتي تلك العقلية ضمن بيئة خصبة يغذيها بطء في إصلاح السوق المحلية، ويتمثل ذلك في أبسط صوره عبر غلق الأبواب لأخذ وكالات للسيارات بدلاً من “وقفها” على اسم واحد.ومن جانب آخر هناك تعثر لا يمكن تبريره في مجال تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في بعض المجالات، والتي يعتبرها البعض ممن لديه حضور “هاموري” في السوق، بأنها “زيادة” لا داعي لها، وبالتالي ينتفي وجود تعزيز للتنافسية في السوق. فضلاً عن تواجد لا يمكن إغفاله للفساد، بدليل حلول البحرين في المرتبة ٤٣ على مستوى العالم في مؤشر مدركات الفساد للعام ٢٠٠٨، متخلفة عن كل من قطر والإمارات وعُمان بين شقيقاتها في دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي “. (٤)

    وللوصول إلى مستوى مقارب لمدينة “بانغلور” أو “تايوان” في الاقتصاد المعرفي، والذي سيوصلنا وأجيالنا إلى اقتصاد مستقر ومتطور ومنافس، علينا وقف الخطابات ووضع الخطط وتنفيذها، والشفافية والمصارحة للخروج من عقلية نفخ الفقاعات المتتالية، وترك الكرة قبل أن يتم حجر الاستثمار فيها في الدول الأجنبية من جهة، ووقف سكب أموال النفط هنا وهناك وتوجيهها نحو توظيف ذكي وبعيد المدى।

    فهل يستمر السعي نحو شراء الأندية وترك الأندية المحلية من جهة، في حين تسعى دول ليست ببعيدة عنا في الاستثمار المعرفي الذكي من إيران وتايوان والهند وسنغافورة؟

    *مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
    (١) نيوزويك، العدد ٢٢٨।
    (٢) الوقت، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٨م.
    (٣)الوقت، ١١ أكتوبر ٢٠٠٨م.
    (٤) الوقت، ٥ أكتوبر ٢٠٠٨م.

  • العنزة الطائرة


    التجارية ٨ أكتوبر ٢٠٠٨م

    جعفر حمزة*

    كان التخمين سبيلهما لتوقع ما يتحرك من وراء الشجيرات، فقال أحدهما هو “طير”، فرد الثاني بل هي “عنز”، واستمر تخمينهما مردداً صداه حتى قطع نزاعه جناحي الطير مرفرفاً منزعجاً من جدالهما، إلا أن صاحب “العنز” قد “نزع” – في ذهنه- جناحي الطير ووضعهما على”عنزته” ليثبت أنه على حق، فقال رده المعروف “عنزة وإن طارت”.

    وقد اُتخذ من هذا الموقف المتعنت أثراً ما زال سارياً على “عنزات” العصر الحديث في ميادين السياسة والاقتصاد والدين والفكر والثقافة، فما على صاحب الموقف الضعيف إلا “وضع” الأجنحة التي يريد على “عنزاته” لتطير محلقة، ولتثبت ما يقول، في موقف أقل ما يمكن وصفه بأنه بعيدٌ عن المنطق والواقع، وقريب من التشدد والتزمت.

    ويبدو أن البعض لديه “أجنحة” وبمقاسات مختلفة لتتناسب مع كل عنزاته الكبيرة منها والصغيرة، لتطير أي واحدة منها عند الحديث وطرح النقاش معه حول موضوعات المال العام. وما موقف “هيئة التأمينات الاجتماعية” من قرض الـ ١٠٠ مليون دولار والذي طلبته شركة “ممتلكات” إلا إحدى “العنزات” التي يُراد لها أن تطير بوجود “أجنحة” على المقاس المطلوب، وربما تكون لها “خيارات متكاملة.

    لقد وصل البعض إلى مرحلة “تطيير العنزات” في كل موقف وفي كل قضية، حتى خجل “العنز” منهم، وأصبحنا نقوم بتوضيح الواضحات وهو قبيح لدى أهل المنطق، ولا منطق للبعض عندما يرى أن تقديم “عرق” الناس وجهودهم لسنين طوال على طبق من ذهب لشركة “ممتلكات” دون وضوح للرؤية وغياب ضمانات لاسترجاعه، فضلاً عن عدم تخصص “هيئة التأمينات الاجتماعية” في الإقراض بصورة عامة، فعجيب أن يرى ذلك البعض بأن تقديم القرض ممكن وبكل سهولة.

    ويبدو أن علينا لإقناع صاحب “العنز الطائرة” أنه ليس هناك ما يتخيله من عنزة تطير، فعلينا “نتف” ريش الأجنحة الوهمية في رأسه، لنعرف كيف نتحاور معه ونتفاهم، فإلى “نتف” الريش:

    الريش الأول:
    هل من حق “التأمينات” إقراض “ممتلكات”؟ بمعنى آخر، هل يمكن للتأمينات أن تقوم مقام البنوك لتقديم القروض بغض النظر عن الجهة التي طلبت القرض؟ وهل هو مال خاص ليكون ذلك الإقراض مشروعاً، أم أنها أموال الشعب العامل؟ وهل يجوز الإقراض من أموال الشعب دون الرجوع إلى جهة تمثلهم، وهم النواب في مثل هه الحالة؟

    الريش الثاني:
    ما هو رأي البنك المركزي من دخول “التأمينات” على مساحة “الإقراض” والتي هي من مهام البنوك، وليست جهات حكومية ترعى المال العام؟

    الريش الثالث:
    ألا تستطيع “ممتلكات” أخذ القرض من البنوك، بدلاً من طلب ذلك من “التأمينات”؟، وهي التي ترغب البنوك بالإقتران بها قرضاً ومعاملة؟

    الريش الرابع:
    كيف يتأتى لوزير يشغل منصبين في وقت واحد، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بتقديم سيولة ضخمة من تعب الناس إلى جهة أخرى يترأس الوزير رئيس مجلس إدارتها؟ فأين ضمانة الحيادية في مثل هذه القضية؟
    وللعلم ، فإن وزير المالية هو رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للتأمين الاجتماعي، والذي يشغل أيضاً منصب رئيس مجلس إدارة شركة ممتلكات البحرين القابضة!

    الريش الخامس:
    لم هذا “الحماس” المُنزل على إدارة التأمينات عند الحديث عن إقراض ممتلكات، في حين كان “الفتور” ديدنهم عند تقديم بعض الكتل النيابية مقترحات لها بما يتعلق بحقوق المتقاعدين والاستفادة من أموال العاملين بطريقة استثمارية مربحة؟ وهناك من المشاريع الاستثمارية المضمونة التي يمكن للهيئة الدخول فيها عوضاً عن مشاريع “تبيع السمك في البحر” كما يقولون-أي بدون وجود ضمان للاسترجاع في حال عدم إمكانية السداد؟

    الريش السادس:
    “إنّ هذا القرض بهذه الشروط وبهذه المخاطر المحدودة يعد فرصة سانحة لاستثمار بعض فوائد الهيئة النقدية وتحقيق سياسة الهيئة التي أقرها مجلس إدارتها في تنويع الاستثمار وتوزيع المخاطر”(١)
    هذا ما قاله الرئيس التنفيذي للهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية. ولا ندري عن أي “محدودية” للمخاطر الموجودة في تقديم القرض، مع غياب تفاصيل القرض وأوجه الاستثمار فيه، فضلاً عن “غياب” أي ضمانة للاسترداد.
    فأي أجنحة يريدون وضعها على “عنزاتهم” ليصدق الناس بأن ما يقومون به هو الصواب، بعيداً عن القراءة القانونية وواقع الاقتصاد الحاصل؟

    الريش السابع:
    لم هذا “التطاير” السريع على الموافقة من قبل أعضاء مجلس إدارة الهيئة على القرض، دون التأني في قراءته قانونياً واستثمارياً؟
    مجلس الشيوخ الأمريكي، بالرغم من معرفة أن اقتصاد بلاده على الهاوية، إلا أنه لم يوافق على رصد تلك الميزانية من جيوب ضرائب المواطنين إلا بعد تعديلات وجولات من المفاوضات والأخذ والرد. في حين “يطير” البعض لدينا في الموافقة على “إعطاء” أموال الشعب دون “ضمانة” أو “وضوح” لشركة ليست بحاجة إلى “السلفة” من هيئة التأمينات الاجتماعية. فلا تدري أي نوع من “العنز” يودون أن تقوم بالطيران من أجلهم؟

    الريش الثامن:
    إن سلمنا جدلاً بأهمية تقديم القرض لشركة “ممتلكات”، فهنا يتقدم سؤالين مهمين في الواجهة، هما:

    أ- ما نوع المشروع الذي ستقدم عليه ممتلكات” ليستلزم هذا المبلغ الضخم من عرق الناس وتعبهم الطويل؟.
    ب- ما هي الضمانات التي ستقدمها “ممتلكات” لإرجاع المبلغ لمكانه، في حال تدهورت “ممتلكات” أو خسرت أو تفتت أو انقرضت؟ أو أفضل الاحتمالات أن المبلغ قد يذهب مع الريح في خضم الاضطرابات الاقتصادية التي لن تهدأ قريباً في العالم.
    ومع موجة “تسونامي” الاقتصادية الآتية من بلاد العم سام، لتغرق كل العالم، وخصوصاً الاقتصاديات المرتبطة عملة وتعاملاً وسياسة مع الاقتصاد الأمريكي. ولا نعلم على أي بقعة من الأرض سيتم استثمار هذا المبلغ الضخم؟ ربما في توظيفه لبناء مستوطنات على القمر؟ ربما!

    ولو عددنا وبسطنا و”نتفنا” كل ريش الطيور في العالم، لن يقتنع صاحب “العنزة الطائرة” بأن ما تخيله كان خطئاً، وهناك من هو مستعد لنتف الريش وبقوة، منها ما توعدته بعض الكتل النيابية من مسائلة للوزير المعني، فضلاً عن نقابة العمال وبعض الأعضاء المعنيين بالقضية في “التأمينات”، والذين وقفوا بشجاعة أمام قرار قد يُذهب جهود مئات الآلاف من المواطنين العاملين والموظفين أدراج الرياح.

    وإلى حين وقت “النتف” تحت قبة البرلمان، يبدو مستغرباً جداً مواصلة البعض في إقناع نفسه والآخرين بأن العنزة تطير، وليس ذلك بمستغرب إذ تم استنزاف أموال الهيئة سابقاً ليُعلن إفلاسها، ويتم التصريح بعجز إكتواري، لنرى فجأة بأن “بوابة علي بابا” قد فُتحت أمام “ممتلكات” لتقترض أو لتأخذ، وهي العبارة الأصح، بلحاظ غياب “ضمانات” و”صورة واضحة” لهدف القرض، حتى بتنا نناقش ماهية القرض وفائدته مع إغفال خطأ أصل الفعل نفسه من الهيئة وهو الإقراض.

    وفي حين تعاني اقتصاديات الدول الكبرى من اهتزازات كبيرة، يقوم البعض بالمجازفة في بحر لجي لا يمكنهم الإبحار فيه، لنستيقظ على تغريد “عنزة” ظننا -أو هكذا- أُريد لنا أن نتصور، ولتطير بعدها كل جهود الناس وتعبهم محلقة بعيدة عنهم، لأن البعض يمتلك “تركيب” الأجنحة المناسبة لتطير أموال الناس بتصويت عدد من الأعضاء، وذلك لسبب بسيط، وهو أن البعض يمتلك من الأجنحة أشكالاً وألواناً وأحجاماً مختلفة لكل قضية، وما عليه إلا وضعها على ما يريد لتطير. ويبدو أن حجم أجنحة النسور هذه المرة من تم انتقائها لتطير أموال الناس دون “ضمان” أو” وضوح”، ونحن بانتظار “النتف”.

    (١) الوسط، ١٤ سبتمبر ٢٠٠٨م

    *مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

  • المدونات الشخصية .. تنافس الإعلام الحر


    المدونات الشخصية .. تنافس الإعلام الحر

    تحقيق: محمود النشيط

    11بدأ في الآونة الأخيرة انتشار متصاعد في العالم العربي لما يعرف بالمدونات، وذلك بعد أن شاعت في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أوساط الشباب الذين باتوا يتنافسون ويتفاعلون مع نظرائهم على الأرض من خلال هذه الوسيلة حيث يعرفون باسم (بلوغرز)، وتعني باللغة الانجليزية (لوغ)، وهو السجل الذي تدون فيه الأشياء بالتسلسل، و(بيوغرافي) أي يعني كتابة المذكرات الشخصية. وباختصار تعني الكلمة تدوينا إلكترونيا عبر صفحات الانترنت للمذكرات الشخصية.هذه الظاهرة وجدت مكانها بين الشباب البحريني، وبين بعض المشاهير في المجالات المختلفة، وأخذت في التطور لتحمل بين طياتها العديد من الموضوعات المسموح بنشرها أو المرفوضة، وذلك بأسماء أصحابها الحقيقية أو الوهمية، فاتحين المجال للتعليق عليها بحرية مطلقة بعيدة كل البعد عن مقص الرقيب، والقوانين الإعلامية التي تحدد بعض الاحيان ما يسمح بنشره من عدمه وفق الاستراتيجية الخاصة لكل مؤسسة وسياسة البلد. ويسجل تاريخ المدونات رغم حداثة العهد به العديد من المصادمات الأمنية والقانونية لنشره بعض المحرمات في رأي الحكومات مما صدر في حقهم أحكام بغلق مدوناتهم ومن ثم السجن، ومطاردتهم في دول أخرى، بل ان البعض استغل الاجواء المفتوحة في عالم الانترنت للترويج لشتى أنواع المعرفة المفيدة والضارة في الوقت نفسه، التي يتلقفها كل من يبحث عن حاجته على الشبكة.

    وقد حملنا العديد من الأسئلة إلى العديد من مدوني البلوغرز على الشبكة العنكبوتية، فمنهم من تجاوب معنا على الفور في تعريف نفسه وصورته، ومنهم من فضل المشاركة متخفياً تحت أسماء مستعارة ومنهم من تجاهلنا كلياً من دون ذكر الأسباب، رغم أن الهدف من هذا التحقيق المساهمة في تعريف القراء على نوع من الوسائل الإعلامية الجديدة التي أخذت في الانتشار مؤخراً، بعد أن حول بعض الشباب في الولايات المتحدة الأمريكية مذكراتهم على الانترنت، إلى مكان لتبادل الآراء حول آخر المستجدات السياسية أو التكنولوجية أو الشخصية أو المعاناة الشخصية وغيرها.

    حرية المواطن

    121322مشاركنا الأول هو احمد رضي صاحب قلم واضح في التعبير الذي اتخذ المدونة لتوثيق الأعمال الفكرية والأدبية، حتى انتقلت مع أمواج التيار المختلفة لتطرح العديد من الموضوعات الاخرى، ويفتح صاحبها أحمد رضي المجال لكل الزوار بطرح آرائهم بكل حرية وشفافية من باب الحرص على التعرف على الرأي والرأي الآخر والذي يقول عن دافعه لإنشاء المدونة الشخصية: هو الرغبة في تسجيل وتوثيق الأعمال الفكرية والأدبية ونشر المقالات المتنوعة المنشورة هنا وهناك، والطابع العام للمدونة هو اجتماعي وسياسي وثقافي في نفس الوقت، ويميل إلى كشف الحقائق وطرح الملفات الساخنة ومناقشة القضايا المتعلقة بالحركة الإسلامية في البحرين بعين الناقد والباحث عن المعرفة.

    وحول مدى مصداقية المعلومات والآراء المقدمة، وهل هي شخصية، أم أنها تأخذ مساحة من الاقناع للآخر، ومدى اعتبارها مصدراً يمكن الاعتماد عليه، أجاب رضي: الآراء والمعلومات التي أطرحها للرأي العام أضعها موضع البحث والمساءلة والنقاش المفتوح، وبعض الآراء هي نتاج تجارب شخصية معبرة عن تعاطفي مع قضايا المجتمع والوطن. ولعل تجربتي المتواضعة مع الصحافة والإعلام علمتني أن أطرح المعلومة الصادقة والموضوعية قدر الإمكان، خصوصاً في ظل حساسية بعض الشخصيات والمؤسسات من الكلمة الحرة والمستقلة.

    ويضيف أحمد رضي: لقد سميت مدونتي اسم «سلاحي قلمي« كتعبير عن حرية المواطن في التعبير عن رأيه من دون خوف أو إرهاب من أية سلطة أو رقابة مسبقة، وبحكم اتهام المواطن العربي دائماً بالإرهاب وحمل السلاح في وجه العدو أو الأنظمة السياسية حتى لو كانت القضية مشروعة، فقررت أن أقول كلمتي وأرفع قلمي كسلاح سلمي في وجه الطغيان السياسي والفساد الاجتماعي، ومناصرة قضايا الشعوب الحرة وكل المصلحين وطلاب الحق.

    وفي رده على سؤال أليست المدونات مجرد محلات الكترونية على الهواء، وكل يعرض بضاعته من دون ضمان الجودة المقدمة للقارئ؟ قال أحمد: المدونات هي تعبير صارخ عن حرية المواطن في التعبير عن رأيه وسط أجهزة إعلامية رسمية تعمد إلى التحفظ عند نقل الحقائق بشكل لا يعكس تطلع الشعوب إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. وهناك بالطبع مدونات شخصية لا هدف من ورائها غير التعارف والثرثرة، والأمر في النهاية رهن إرادة القارئ الواعي.

    التعبير عن الذات

    أما صاحبة مدونة هذيان الحروف سعاد الخواجة فترى أن المدونات أتاحت إلى الأفراد التنفيس عن همومهم بصورة راقية يشاركهم فيها الآخرون بآرائهم، إلا أنها ترى أن إنشاء المدونات بقصد دوافع التدوين كثيرة وتختلف من مدون لآخر فهناك من يدون لأهداف واهتمامات سياسية وهناك من يدون ليحدث فارقا وتغييرا نحو الأفضل وهناك من يدون ليمد جسور التواصل بينه وبين العالم وهناك من يدون للتنفيس عن نفسه واكتشاف ذاته والحياة من حوله.

    599117وأيا كانت دوافع وأسباب التدوين فالدافع المشترك لدى جميع المدونين هو التعبير عن الذات، المدونات أتاحت للجميع الفرصة لإنشاء عالمهم الخاص والتنفيس عن همومهم وأفكارهم ومشاركة الآخرين آراءهم وإبداعاتهم خارج نطاق الحدود الجغرافية. هي نوع من أنواع الكتابة مع فارق أنها أقرب للكتابة التفاعلية منها للمقروءة، فما تكتبه اليوم وأنت تقبع خلف شاشة جهاز الحاسوب في منزلك أو في اي مكان آخر يصل بكبسة زر إلى شتى أنحاء العالم وقد يجد صدى للآخرين فتصل إليك تعليقات من بلدان بعيدة ونائية لم تكن لتصل إليها من خلال أي مطبوعة.

    وأضافت الخواجة: أفضل ما يميز التدوين هو تلبيته لنزوات وحالات الكاتب النفسية والمزاجية فأنت تكتب متى ما داهمتك الرغبة في الكتابة من دون التقيد بوقت أو نمط أو شروط معينة للكتابة، فالمدونة تعكس ملامح شخصيتك وتبقى صديقا وفيا يشاركك لحظات فرحك واستيائك كما أنها تحررك من قيود أي وسيلة إعلامية أخرى فالمدون هو الكاتب والمحرر ورئيس التحرير والناشر في الوقت ذاته. لا يوجد قوانين للمدون فان المدون هو من يسن ويضع القوانين ولا توجد جهة رسمية أو رقابة تملي عليك ما يجب أن تقوله أو تكتبه والرقابة الوحيدة التي تتحكم فيما تكتب هي الرقابة الذاتية. كل هذه الأسباب وغيرها جعلت المدونات تحظى بالانتشار والشهرة الحالية.

    هي ملاذي الآمن

    بالنسبة لي فقد كانت الكتابة ومازالت ملاذي الآمن الذي الجأ إليه لأنفس من خلالها عما يدور بداخلي وأفرغ ما في جعبتي من أفكار. المدونات هي مساحتنا الشخصية التي نعبر فيها ببساطة وعفوية عن أنفسنا، الواحة التي نستريح فيها لحظات لنضع جانبا كل ما يثقل كاهلنا من هموم وشجون، تتحرر الكلمات فندرك أننا أحياء ومازلنا نتنفس.

    أما الذي ينتظره المدوّن من قراء مدونته فقالت سعاد: حينما بدأت التدوين قبل عام لم أفكر في القراءة ولم يكن مؤشر الزوار يعني لي شيئا فقد كان الهدف من إنشاء المدونة هو الفضفضة وإيجاد مساحة لاحتواء مشاعري وانفعالاتي الشخصية لذلك كانت تدويناتي أقرب للخاصة منها للعامة. ولكن مع مرور الوقت ومع ازدياد عدد الزوار والمعلقين بدأت أشعر بنوع من المسئولية تجاه من يتجشمون عناء المرور بالمدونة والتواصل معي للتعبير عن ارائهم حول ما أطرحه في المدونة من أفكار وموضوعات. لذلك صرت اليوم أكثر حرصا على انتقاء موضوعاتي، على احترام وتقدير الرأي الآخر حتى إن كان مخالفا لرأيي، فكثير من التعليقات والرسائل الالكترونية التي وردتني ساعدتني على إعادة تقييم كتاباتي وألهمتني أفكارا ومشاريع لم أكن لأفكر بها من قبل. قد لا أكتب دوما ما يتوقعه قراء المدونة مني ولكني كذلك لا أخيب ظنهم بالكتابة في أمور سطحية أو هامشية.

    لقد لمست شخصيا ومن خلال إحصائيات الزوار ازدياد عدد الزوار من الدول العربية الأخرى وانتظامهم في قراءة المدونة مقارنة بالزوار من البحرين على الرغم من أن معظم المقالات والقضايا التي أتناولها في مدونتي تعنى بالشأن المحلي والثقافة والهوية البحرينيتين. وهذا ما يثبت أن المدونات تحظى بشعبية ورواج أكبر من الوسائل الإعلامية الأخرى من حيث تمتعها بثقة القارئ العربي لأنها تعكس بشكل مباشر الهوية والبيئة التي يأتي منها المدون من خلال ارائه وأفكاره. هذه الملاحظة جعلتني الآن أكثر اهتماما واعتناء بتناول ونشر الثقافة والتاريخ البحرينيين من خلال المقالات والصور التي أقوم بنشرها بين الحين والآخر، محاولة قدر الإمكان أن أنقل الواقع من دون رتوش أو تلميع. ما أنتظره من قراء مدونتي اليوم وغدا وبعد الغد هو المتابعة والتواصل فهما الترمومتر الحقيقي الذي أستند إليه لتحديد وجهة المدونة.

    القدرات والإبداعات

    ما هي الإضافة التي يمكن للمدوّن أن يسجلها في عالم القراءة الإلكترونية؟ قالت الخواجة: لم تعد المدونات حكرا على الناس العاديين أو تسجيل المذكرات الشخصية كما كانت في السابق فقد اتسعت رقعة المدونات لتشمل الصحفيين والأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين كما أن بعض رؤساء الدول قد أسسوا مدوناتهم الخاصة. حتى أصحاب الشركات والمؤسسات العملاقة أدركوا اليوم أهمية المدونات فأسسوا بالإضافة إلى مواقعهم الرسمية مدونات يشارك في التدوين فيها أعلى سلطة في هذه المؤسسات كوسيلة للتواصل المباشر مع العملاء الذين يعتبرون المصدر الأول والأساسي لديمومة هذه المؤسسات.

    هناك الكثير من الإضافات القيمة التي يمكن أن يسجلها المدون في الفضاء الالكتروني من بينها تنمية القدرات والإبداعات ومد جسور التواصل بين الشعوب والأديان والثقافات الأمر الذي قد يؤدي للمزيد من التفاهم والتسامح من بينها. وبسبب سهولة إنشاء المدونات وسرعة النشر وتوافر التقنيات التكنولوجية الحديثة من نقل الصوت والصورة أصبح المدونون قادرين على نقل الخبر والصورة بشكل أسرع من وسائل الإعلام التقليدية خصوصا عندما يكون المدون في نطاق المنطقة الجغرافية للحدث وبالتالي أصبح بعض المدونات المورد والمصدر الأساسي لاستقاء الخبر، لذلك من المتوقع جدا أن تحظى المدونات بأهمية أكبر خلال السنوات المقبلة بسبب هذه المنافسة وقدرة المدونات على التأثير في الرأي العام وصنع القرار. كما أن اكتساح المدونات الفضاء الالكتروني وتزايد أعدادها في السنوات الأخيرة أفسحا المجال للمزيد من حرية الرأي كما كسرا احتكار الحكومات وسيطرتها على الأجهزة الإعلامية ولن يمضي وقت طويل في اعتقادي قبل أن تصبح المدونات سلطة خامسة.

    الهايد بارك

    414

    من جانبه يرى الناشط جعفر حمزة أن الذي يُكسب المدونات حضورها هو خيار تغييب الكثير إن لم تكن كل الأطر القانونية والعرفية والأخلاقية والدينية التي تكون حاضرة في جانب آخر، وفي رده على سؤال هل تشكل المدونات الفضاء المسموح «الهايد بارك« الذي يغيب فيه القانون والأعراف والدين وكل شيء؟ قال حمزة: تمثّل المدونات إحدى النوافذ لعالم لم نصاحبه طويلاً منذ ظهوره وهو عالم الإنترنت، حيث مثّل ثورة في صياغة العلاقة بين الفرد ونفسه وعلاقته مع الآخر، حالنا مثل «أليس« التي دخلت «حفرة الأرنب« لتنتقل إلى عالم عجيب يغيب عنه القانون الفيزيائي والمجتمعي، وقبل الحديث عن «المدونات« وهي غرفة في مبنى عالم الإنترنت، لابد من التطرق إلى المبنى نفسه، فثورة الاتصالات لم تبدأ حين اُخترع الهاتف، بل بدأت حين تم إيجاد وصناعة عالم خاص لكل فرد بضغطة زر، لينتقل من شعور إلى منطق ومن هوى إلى غريزة، وهكذا أصبح الإنسان في هذا العصر، متنقلاً من حال إلى حال، فكيف تتصور إفساح المجال لمجموعة كبيرة من الناس بدخول محل للملابس وأخذ ما يريدون من دون مقابل؟ ستكون الفوضى والهَوَس بأخذ كل ما تطوله اليد حتى القدمان هو «الثيمة« المسيطرة في ذلك الوقت، وبعد فترة يتم اعلان إفساح المجال لدخول محل أطعمة وأخذ ما يودون من دون مقابل أيضاً، ستكون الفوضى بل قد يصل الأمر إلى الشجار في كثير من الأحيان ويكون سيد الموقف، وتستمر الحكاية، والحال هو نفس الحال في عالم الإنترنت الآن، حيث تبقى أعصاب المتصفحين مشدودة ومترقبة لكل «عرض« جديد يسمح لهم بدخول هذا المحل أو ذاك وأخذ ما يريدون بالمجان.

    وتلك الحالة من «الانتظار« و«الاندفاع« و«الصدام« و«الاستمتاع« ومن ثم تُعاد الكَرّة مرّة أخرى هي معادلة «الجذب« التي لا تتوقف في العالم الافتراضي. وتمثل المحلات التي ذكرناها حالات مادية كالبضائع والخدمات وحالات فكرية كالعقائد والتوجهات والسلوك، لذا يكون مرتادو الإنترنت في حالة «غازية« دائماً، أي أن ذرات «إثارتهم« لا تتوقف على الإطلاق، ولا يكون ذلك إلا من خلال «لهب« يضمن بقاء حالة المادة الموجودة عند الأفراد في وضع «مُثار« دائماً، نقصد بالمثار هنا هو أي حالة تترتب عليها علاقة تواصل مستمرة بين الفرد والإنترنت.

    ويواصل جعفر حديثه قائلاً: وتمثل المدونات إحدى صور ذلك «اللهب« المتقد، فبالرغم من وجود مثلث الاشتعال وهو الوقود والحرارة والأكسجين، فإن ذلك المثلث في الإنترنت لا وجود له، فليس هناك قانون أصلاً. وما يُكسب المدونات حضورها هو خيار تغييب الكثير إن لم يكن كل الأطر القانونية والعرفية والأخلاقية والدينية منها وهو ما يجعلها بمثابة «الهايد بارك« بل أكثر منه، فلا يجوز لك في «الهايد بارك« أن تشتم أو تتعرض للملكة، أما في المدونات بالإنترنت بصورة عامة، فليس هناك خط أحمر على الإطلاق، والفضاء مفتوح إلى أبعد الحدود، ونتيجة لذلك تظهر الكثير من الأفكار والسلوكات فضلاً عن نمو العديد من المرجعيات الفكرية الغريبة، وبعبارة أخرى فإن المدونات هي محلات مفتوحة على الهواء، ومقياس ربحها هو مقدار ما تقدم للفرد من قناعة أو فكرة أو سلوك أو خاطرة، ولا مجال لتلك المحلات بالخسارة، فلا أجر ولا انتظار لبضاعة، والدعاية لها بالمجان، وهو ما يشجع أصحاب المحلات «المدونات« على ابتكار الكثير من التوجهات فضلاً عن كونها «مرآة« لا تعكس بالضرورة حقيقة صاحب المحل، بقدر ما تعكس ما يود أن يكون عليه، وبالتالي فنحن نتعامل مع أطروحات متنوعة ومختلفة في مدونات لا يحكمها منطق بالضرورة، ومن هنا تكمن الصعوبة في التعامل مع المدونات بناءً على «منطق« أو «دين« أو… ولئن كانت المدونات للبعض تمثل «نافذة« شخصية للعالم، فإن البعض يجعلها نافذة من واقعه للعالم، وهو من أخطر المدونات وأشدها أثراً، لأنها ستكون نافذة في جدار ممنوع، وإذا رأيت جداراً كبيراً ولا نهاية له، وفيه فتحة صغيرة فإن الفضول يدفعك للنظر من خلاله، وخصوصا إذا تناهى إلى سمعك أصوات من خلف ذلك الجدار. وهو بالفعل ما يُزعج البعض ليستدعي قواته ليس «لغلق« الفتحة، بل «إبعاد« الناس عنها و«معاقبة« من فتحها.

    الخط والمساحة

    ومن الأمثلة على ذلك في عالمنا العربي هو المدون «أحمد محسن« صاحب مدونة «فتح عينيك« الذي تم اعتقاله في احدى الدول العربية بسبب كشفه لممارسات التعذيب لوزارة الداخلية بمحافظة الفيوم، فبالرغم من غياب كل القوانين الفيزيائية من الزمان والمكان، والقوانين العرفية والدينية، فإنه مازال هناك قانون لا يستطيع «مصادرة« المحل الإلكتروني لكن بإمكانه أن «يُوقف« صاحبه.

    هل تشكل المدونات الجدران التي يمكن لأي أحد أن «يخربط« عليها من دون أن تأتي قوات الشغب لمحوها؟ وما دلالات ذلك؟ أجاب حمزة: «الخط« و«المساحة« هما الأداتان الأوليان للفرد ليعبّر عن رأيه وتوجهاته «غضباً« «فرحاً« «كرهاً« والقائمة تطول. وما انتشار المدونات في العالم العربي إلا نتاج الغياب الحقيقي للخط والمساحة المعبرة عن الفرد تارة أو نتيجة «تطلع« الفرد إلى ما هو أبعد من الموجود تارة أخرى،أو تعبير عن الذات وهو مسألة إنسانية عامة تجدها في العالم العربي أو الغربي على حد سواء. وعند الحديث عن الفضاء المحلي، فإننا نعتبر المدونات هي بمثابة الجدران التي تستدعي المدونين للكتابة أو الرسم أو التعليق عليها، فقد أصبحت هي الفضاء المشاع التي لا يحددها عدد الكلمات أو مقص الرقيب أو الإخراج الفني، وبذا تصبح المدونات «الجدران« هي الخيار الأنسب والأفضل لـ «قيس« ليكتب عليها عبارات الحب لليلى، أو يخط ثائر كلمات المقاومة والكرامة، أو يتلثّم طائفي ليذبح الوطن باسم الدين، وهكذا تصبح الجدران بين «عاشقة« و«ثائرة« و«طائفية«.

    وأعطيت كل الحرية للصحافة لأن تكتب ما تشاء – على سبيل المثال – فإن الجدران «المدونات« مازالت الخيار المفضل، فالوقت والحدث والصياغة والصورة والتقديم كلها مُلك يمين من يحمل «الرش« أعني صاحب المدونة، ولا يمكن الاعتماد على قوات الشغب لمحو كل العبارات والرسوم، فالجدران لا تنتهي، ولا يمكن حراستها كلها، إذ تتطلب جيوش العالم لتحرس كل جدار لكي لا يُكتب عليه.

    أكسجين الحرية

    وعنها قالت المدونة حياة فخرو إن المدونات تنتشر بشكل سريع ولها تأثير لا يستهان به، وبدأت تنافس الوسائل الإعلامية الأخرى، أما أسباب إنشائها مدونة خاصة والآخرين كذلك لأن المدونة هي مساحة حرة من خلالها يطرح المدون افكاره وتجاربه الشخصية والحياتية ورؤيته لما يدور حوله ومن خلالها يطور مواهبه الذاتية وعلاقته مع الآخرين. كذلك هي ملاذ يلوذ إليه الإنسان بعيدا عن الواقع الخانق وبعيداً عن أسنان الوحوش التي تصادر حقه في التعبير عن آرائه ومواقفه وبعيداً عن الوصاية السياسية والدينية والفكرية التي يفرضها البعض على عقله.

    اما بالنسبة لجودة ما تطرحه المدونات ومدى مصداقيتها فقالت فخرو: هذه الأمور نسبية ومتفاوتة كما هو الحال مع الكتب وغيرها، وأرى أن المدونات تنتشر بشكل سريع ولها تأثير لا يستهان به، وبدأت تنافس الوسائل الإعلامية الأخرى وخصوصا المواقع والمنتديات والصحف الالكترونية وكذلك غير الالكترونية وهذا مؤشر يدل على وعي الإنسان وحاجته للتعبير عن نفسه وطرح ما يهمه ويهم مجتمعه.

    أتمنى النضج أكثر وأكثر لتجربة التدوين في البحرين الحبيبة، وأتمنى أيضا أن يتم استغلال هذه الوسيلة خير استغلال لخدمة الآخرين، وأتمنى على أعداء الحرية المسؤولة والإيجابية أن يتركوا لنا هذه المساحة الحرة لكي نتنفس من خلالها أكسجين الحرية.. الحرية التي كفلها لنا الدستور والقانون الدولي لحقوق الإنسان. وحول إخفاء بعض المدونين شخصياتهم قالت فخرو: ان المدون في الغالب يتجنب الكشف عن هويته بشكل علني وواضح لكي لا يتعرض لأي سوء ولكي لا تقيد حريته، فأنا في مدونتي أمارس وأتمتع بإنسانيتي وحقوقي التي يراها البعض جريمة يعاقب عليها.

    كذلك لا أعتقد أن القراء يهمهم أو يعنيهم التعرف على صورتي ومعلوماتي الشخصية، فأنا من خلال المدونة أهدف لعرض أفكاري ومواقفي، وليس من أهدافي، الشهرة أو البحث عن زوج أو ما شابه ذلك، لكي أعرض صورتي ومعلوماتي الشخصية. فأنا في المدونة مجرد صوت أود أن يسمعه الجميع ويهتم بمحتواه ويفهم رسالته. ومن يرد أن يعرف المزيد عن شخصيتي وأفكاري فبإمكانه التأكد من ذلك عندما يزور مدونتي، لأني سأنقل هذا التحقيق إلى مدونتي وسأكتب رأيي وسأثبت أني صاحبة المدونة والكلام المنشور باسمي.

    شخصيتي مجهولة

    من أصحاب المدونات الذين أرسلوا لنا باعتذارهم عن المشاركة مع طرح الأسباب صاحب مدونة (قاسي مشاعر) الذي يقول انه يفضل أن تكون شخصيته شبه مجهولة للذين لا يمتون له بصلة ومعرفة شخصية. ويضيف قاسي مشاعر: أتشرف باختيارك لي ضمن مجموعة المشاركين في التحقيق، وأنه لشرف لي الوجود على صفحات جريدة كـ «جريدة أخبار الخليج«. إلا أنني أتمنى أن تقبل اعتذاري عن عدم المشاركة والسبب وجود مواضيع وآراء خاصة وشخصية جداً مكتوبة في المدونة قد يفسرها البعض بالتفسير الخاطئ عند قراءتها وخصوصا مع وجود صورتي الشخصية والاسم وعنوان مدونتي في التحقيق ومعرفتهم صاحب المدونة ومن وراء هذه الكتابات والمواضيع. لذلك أفضل أن تكون شخصيتي شبه مجهولة للذين لا يمتون لي بصلة ومعرفة شخصيتين. وأتمنى أن تتقبل اعتذاري بصدر رحب وتقدر رغبتي على الرغم من شرف وجودي على صفحات جريدتكم.

    * صحيفة أخبار الخليج، العدد 11155- الثلاثاء، 8 شوال 1429 هـ، 7 أكتوبر 2008 م.

    http://www.aaknews.com/ArticlesFO.asp?Article=262514&Sn=INVS

    http://bahrain.maktoobblog.com

  • بين جبهتين


    التجارية ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٨م

    جعفر حمزة*

    كانت تلبس الكوفية الفلسطينية، ولم تكن تضع مساحيق التجميل وكل ألوان الطيف، فكانت بسيطة المحيا، متواضعة الصورة عفوية، مباشرة، فأخذتها بين يدي، لتكون لباساً لي। وكان المجمع التجاري هو موطن اللقاء، وذلك في إحدى المحلات، كانت “تي شيرت” بسيط التصميم، ويحمل فكرة واضحة من خلال طباعة صورة الكوفية الفلسطينية على جهة الصدر، وخياطة الجزء الباقي منها، وكأنها معلقة على لابس “التي شيرت”। شدني التصميم وأذهلني بلد التصنيع، فلم تكن دولة عربية ولا حتى إسلامية. بل كانت دولة أوروبية “البرتغال”.

    وما هي إلا خطوات من المحل ، حتى التقيت بأخرى، وهذه المرة ليست “تي شيرت”، بل تصميم لتزيين المحل، حيث تم وضع شكل نجمة في المحل بواجهته وداخله، وكان باستخدام الخط العربي، وهذا اللقاء لم يكن يلفت نظري لولا الكلمات المكتوبة فيها. وهي آية قرآنية كريمة، وقد تم وضعها معلقة داخل المحل، وعلى واجهته وبالخلف “موديلات” لمجسمات نساء يلبسن القصير من الثياب. وبعبارة أخرى تم وضع الآية في مكان لا يناسبها أولاً، وتمثل نوعاً من الاستخفاف -ربما غير المقصود- بها ثانياً.
    وبين صاحبة الكوفية، ونجمة الآية القرآنية، تتشكل جبهتان، ساحة حربهما العقول والجيوب، وخط المواجهة واجهات المحلات، وكل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة والمبتكرة مستقبلاً، والجنود في الصفوف الأمامية وكالات الإعلان، وفي الصفوف الخلفية أصحاب الماركات وموظفيها وصانعيها من جهة، والأعراف والتقاليد والسلوكيات المجتمعية وهوية المجتمعات والمقدسات والمحرمات من جهة أخرى।
    وتلكم الجبهتان هما جبهة الماركات، والأخرى جبهة المجتمعات. وقد ظهر هذا النوع من الطرح عندما توسعت الماركات لتصبح جزء من حياة الفرد اليومية، وكنتيجة طبيعية للترويج وصناعة الهوية الخاصة بالماركات وتقديمها للمجتمع، لا بد في وقت ومكان وظرف معين أن تتعارض تلك الماركة في هويتها مع الجو العام والهوية للمجتمع المستقبل لها، إذ لا يمكن الاعتماد على شهرة الماركة أو هويتها “المعولمة” دون الإلتفات إلى الجمهور المخاطب، وخصوصاً ذلك المعتز بثقافته وهويته المحلية.
    وبين شد وجذب بينهما “الماركات والمجتمعات” تبرز أهمية الحديث عن ملامح الجبهتين، مع التأكيد أن لا بوادر أكيدة لانتصار أحد الطرفين على الآخر، وما هو حاصل سوى انتصار في جولات فقط لا غير।
    وقد وصلت القوة بالماركات إلى درجة تقديم نماذج لسلوك جديد ورؤية جديدة للفرد في العديد من المجتمعات، بل واستنساخها بنكهات مختلفة، لتكون النتيجة تأثر بهوية الماركات، واتباع الأفراد لها في المجتمعات، ولتتحول إثر ذلك إلى جزء مهم من جسم المجتمع، بل ويبات عرفاً يتعايشه الناس كل يوم.
    فالعديد من موضات اللباس، الرجالي أو النسائي -على سبيل المثال- دخلت ضمن تركيبة السلوك اللباسي للرجل والمرأة، حتى أصبح غير ذلك النموذج “مهمشاً”، ولا قوة حضور له في المجتمع।
    تعمل الكثير من الماركات على خلق أجواء وبيئات يعيشها الأفراد، ليتحولوا إلى وحدات استهلاكية في ما يعيشونه، وفيما يتلقونه من رسائل مكثفة ومتواصلة. بل يصل الأمر إلى تشجيع السلوكيات الشاذة في المجتمع، ما دامت تشكل مورداً كقوة استهلاكية جيدة لها، وعلى سبيل المثال، ذكرت أبحاث من شركة الكحول الأمريكية “كورس بريوينغ كومباني” بأن مستهلك الكحول الشاذ جنسياً يشرب ضعفي المستهلك العادي من الكحول، ومثل هذا الأمر معناه لزوم توسعة قاعدة الشواذ في المجتمع الأمريكي، لتزداد أرباح شركات الكحول من حال الاستهلاك المضاعف من قبل الشواذ للكحول، ويتم ذلك من خلال استصدار قوانين لهذه الفئة في المجتمع، فضلاً عن إفساح الإعلام لهم للتعبير عن أنفسهم. وبالتالي تتحول ظاهرة سلوك اجتماعي شاذ إلى واقع يجب التعايش معهم، وذلك عبر عمل كبرى الشركات لإظهارهم ومنح الحضور الملموس لهم، بغية جني الأرباح من وراء ذلك. وعندما نتحدث عن وجود جبهتين هما الماركات، والمجتمعات، لابد من رسم مناطق الحركة بينهما. والتي يمكن تقسيمها على النحو التالي:

    المنطقة الحمراء: وهي تلك القيم والرسائل من ماركات تمس قيم ومقدسات وثوابت المجتمعات، لتتحول هذه المنطقة إلى مواجهة حدية بين الطرفين “الماركة والمجتمع”. وسواء كانت تلك الماركات في أصلها تواجه المجتمع كالمشروبات الكحولية أو الترويج لبضاعة معينة عبر الاستهانة بقيم المجتمع، أو من خلال بلد منشأها الذي يتخذ مواقف سلبية تجاه مقدسات مجتمع معين كالدنمارك، مثلاً، فالكثير من منتجات الأغذية تمت مقاطعتها-ولو نسبياً- نتيجة قضية الرسوم المسيئة للنبي الأكرم (ص).
    المنطقة الخضراء: وهي الماركات التي تقدم منتجاتها وخدماتها بما يتناسب مع المجتمع في مقدساته وثوابته وهويته، كالمنتجات الغذائية الإسلامية، والأجهزة الإلكترونية الخاصة بمجتمع معين. على سبيل المثال ساعات خاصة لتحديد اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.، فضلاً عن بقية المنتجات التي تتعلق باللباس للمرأة المسلمة، أو تلك التي تبيع ما يتوافق مع تراث وتقاليد المجتمع كالثوب العربي أو الساري الهندي.
    المنطقة الرمادية: هي المنطقة التي تتقرب فيها الماركات نحو المجتمع، عبر تقديمها لمنتجاتها بنكهة محلية، لتعطي الطابع الخاص للمجتمع. مثل الكثير من منتجات الأغذية لماركات غربية تقدم منتجاتها على أنها “حلال”، بالإضافة إلى تقديم بعض من منتجاتها بصيغة محلية، كمنتج لماكدونالدز بالخبز العربي. وغيرها الكثير.
    المنطقة الوردية:وهي التي تعلن فيها الماركات هويتها الحقيقة وبصورة مباشرة، عبر تقديم منتجاتها بالصور المبرمجة التي تود ترسيخها وإعلانها في المجتمع. وهو حال معظم الماركات الموجودة حالياً.
    المنطقة المحايدة: وهي تلك التي تقدم منتجاتها وخدماتها بعيداً عن أي هوية قد تمس المجتمع، وهي تأتي ضمن سياق تطور عام في البشرية من خلال استخدامها للتقنية الحديثة. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الاتصال الحديثة، والسيارات وبرامج الكمبيوتر العامة.
    ويمكن أن يكون جزء من المنطقة المحايدة ذو لون معين، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “إل جي” الكورية الجنوبية للإلكترونيات أنها طرحت تلفزيوناً جديداً في أسواق الشرق الأوسط مثبت عليه نصوص قرآنية رقمية.فهنا تحولت الماركة في جزء منها إلى المنطقة الخضراء. وأكثر المناطق اتساعاً هي المنطقة الوردية، لتشكل قوالب بصرية جاهزة للطرح في المجتمعات لكسب سلوك شرائي متواصل لها. وتمثل تلك القوالب بمثابة مغناطيس ضخم يجذب إليه كل من لديه معدن القابلية لاتخاذ نموذج له من الماركات (اللباس، الأكل، أسلوب المعيشة بصورة عامة).
    ويمكن للمجتمعات أن تقوم بتوسعة دائرة المنطقتين الخضراء والرمادية، وتحجيم الحمراء والوردية، وذلك لكي يكون المجتمع بأساساته وقيمة وهويته هو من يرسم ويقنن ويجعل من الماركات تتحرك نحو المنطقة الخضراء قدر الإمكان. وتسعى الكثير من الماركات لتوسعة المنطقة الوردية لكسب ولاء أكثر من الأفراد ، ليس لشراء منتجاتها فقط، بل والتفاعل معها والعيش معها بشخصيتها وهويتها، وما يتبع ذلك من ضخ للملايين إلى محفظة تلك الماركات. ويبقى الصراع بين الجبهتين مستمراً، بين شد وجذب، بين توسعة لمنطقة وتحجيم لأخرى، وأما مقولة تحويل الأفراد في المجتمعات البشرية إلى عناصر مستهلكة مكررة تحت راية العولمة، فهي ليست دقيقة البتة، فهناك الكثير من المجتمعات التي تشكل الماركة في ترويجها وهويتها نوعاً ما بالطريقة التي تناسبه، ولا ننسى أن الأمر يتعلق في الأخير بتقديم المنتج أو الخدمة لقضاء حاجة عند الفرد، لتكسب الماركة “مستهلكاً” يدفع قيمتها.
    وبين تلك الجبهتين، يمكن للعديد من الماركات المحلية الاستفادة من المنطقة الخضراء وتوسعتها، ويمكن للماركات العالمية الدخول في المنطقة الرمادية، وذلك للتقليل من حدة المواجهة بين المجتمعات والماركات।
    وما زال الوقت كافياً للمضي في توسعة المنطقتين الخضراء والرمادية، عبر الرجوع إلى المواد الأولية من المنطقة المحايدة لا لتغليب جبهة على أخرى، بقدر ما نصل إلى توازن معقول بينهما.

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

  • بين جبهتين

    التجارية ٢٩ سبتمبر ٢٠٠٨م

    جعفر حمزة*

    كانت تلبس الكوفية الفلسطينية، ولم تكن تضع مساحيق التجميل وكل ألوان الطيف، فكانت بسيطة المحيا، متواضعة الصورة
    عفوية، مباشرة، فأخذتها بين يدي، لتكون لباساً لي. وكان المجمع التجاري هو موطن اللقاء، وذلك في إحدى المحلات، كانت “تي شيرت” بسيط التصميم، ويحمل فكرة واضحة من خلال طباعة صورة الكوفية الفلسطينية على جهة الصدر، وخياطة الجزء الباقي منها، وكأنها معلقة على لابس “التي شيرت”. شدني التصميم وأذهلني بلد التصنيع، فلم تكن دولة عربية ولا حتى إسلامية. بل كانت دولة أوروبية “البرتغال”.
    وما هي إلا خطوات من المحل ، حتى التقيت بأخرى، وهذه المرة ليست “تي شيرت”، بل تصميم لتزيين المحل، حيث تم وضع شكل نجمة في المحل بواجهته وداخله، وكان باستخدام الخط العربي، وهذا اللقاء لم يكن يلفت نظري لولا الكلمات المكتوبة فيها. وهي آية قرآنية كريمة، وقد تم وضعها معلقة داخل المحل، وعلى واجهته وبالخلف “موديلات” لمجسمات نساء يلبسن القصير من الثياب. وبعبارة أخرى تم وضع الآية في مكان لا يناسبها أولاً، وتمثل نوعاً من الاستخفاف -ربما غير المقصود- بها ثانياً.

    وبين صاحبة الكوفية، ونجمة الآية القرآنية، تتشكل جبهتان، ساحة حربهما العقول والجيوب، وخط المواجهة واجهات المحلات، وكل وسائل الإعلام التقليدية والحديثة والمبتكرة مستقبلاً، والجنود في الصفوف الأمامية وكالات الإعلان، وفي الصفوف الخلفية أصحاب الماركات وموظفيها وصانعيها من جهة، والأعراف والتقاليد والسلوكيات المجتمعية وهوية المجتمعات والمقدسات والمحرمات من جهة أخرى.

    وتلكم الجبهتان هما جبهة الماركات، والأخرى جبهة المجتمعات. وقد ظهر هذا النوع من الطرح عندما توسعت الماركات لتصبح جزء من حياة الفرد اليومية، وكنتيجة طبيعية للترويج وصناعة الهوية الخاصة بالماركات وتقديمها للمجتمع، لا بد في وقت ومكان وظرف معين أن تتعارض تلك الماركة في هويتها مع الجو العام والهوية للمجتمع المستقبل لها، إذ لا يمكن الاعتماد على شهرة الماركة أو هويتها “المعولمة” دون الإلتفات إلى الجمهور المخاطب، وخصوصاً ذلك المعتز بثقافته وهويته المحلية.
    وبين شد وجذب بينهما “الماركات والمجتمعات” تبرز أهمية الحديث عن ملامح الجبهتين، مع التأكيد أن لا بوادر أكيدة لانتصار أحد الطرفين على الآخر، وما هو حاصل سوى انتصار في جولات فقط لا غير.

    وقد وصلت القوة بالماركات إلى درجة تقديم نماذج لسلوك جديد ورؤية جديدة للفرد في العديد من المجتمعات، بل واستنساخها بنكهات مختلفة، لتكون النتيجة تأثر بهوية الماركات، واتباع الأفراد لها في المجتمعات، ولتتحول إثر ذلك إلى جزء مهم من جسم المجتمع، بل ويبات عرفاً يتعايشه الناس كل يوم.
    فالعديد من موضات اللباس، الرجالي أو النسائي -على سبيل المثال- دخلت ضمن تركيبة السلوك اللباسي للرجل والمرأة، حتى أصبح غير ذلك النموذج “مهمشاً”، ولا قوة حضور له في المجتمع.

    تعمل الكثير من الماركات على خلق أجواء وبيئات يعيشها الأفراد، ليتحولوا إلى وحدات استهلاكية في ما يعيشونه، وفيما يتلقونه من رسائل مكثفة ومتواصلة. بل يصل الأمر إلى تشجيع السلوكيات الشاذة في المجتمع، ما دامت تشكل مورداً كقوة استهلاكية جيدة لها، وعلى سبيل المثال، ذكرت أبحاث من شركة الكحول الأمريكية “كورس بريوينغ كومباني” بأن مستهلك الكحول الشاذ جنسياً يشرب ضعفي المستهلك العادي من الكحول، ومثل هذا الأمر معناه لزوم توسعة قاعدة الشواذ في المجتمع الأمريكي، لتزداد أرباح شركات الكحول من حال الاستهلاك المضاعف من قبل الشواذ للكحول، ويتم ذلك من خلال استصدار قوانين لهذه الفئة في المجتمع، فضلاً عن إفساح الإعلام لهم للتعبير عن أنفسهم. وبالتالي تتحول ظاهرة سلوك اجتماعي شاذ إلى واقع يجب التعايش معهم، وذلك عبر عمل كبرى الشركات لإظهارهم ومنح الحضور الملموس لهم، بغية جني الأرباح من وراء ذلك.



    وعندما نتحدث عن وجود جبهتين هما الماركات، والمجتمعات، لابد من رسم مناطق الحركة بينهما. والتي يمكن تقسيمها على النحو التالي:
    المنطقة الحمراء: وهي تلك القيم والرسائل من ماركات تمس قيم ومقدسات وثوابت المجتمعات، لتتحول هذه المنطقة إلى مواجهة حدية بين الطرفين “الماركة والمجتمع”. وسواء كانت تلك الماركات في أصلها تواجه المجتمع كالمشروبات الكحولية أو الترويج لبضاعة معينة عبر الاستهانة بقيم المجتمع، أو من خلال بلد منشأها الذي يتخذ مواقف سلبية تجاه مقدسات مجتمع معين كالدنمارك، مثلاً، فالكثير من منتجات الأغذية تمت مقاطعتها-ولو نسبياً- نتيجة قضية الرسوم المسيئة للنبي الأكرم (ص).
    المنطقة الخضراء: وهي الماركات التي تقدم منتجاتها وخدماتها بما يتناسب مع المجتمع في مقدساته وثوابته وهويته، كالمنتجات الغذائية الإسلامية، والأجهزة الإلكترونية الخاصة بمجتمع معين. على سبيل المثال ساعات خاصة لتحديد اتجاه القبلة ومواقيت الصلاة.، فضلاً عن بقية المنتجات التي تتعلق باللباس للمرأة المسلمة، أو تلك التي تبيع ما يتوافق مع تراث وتقاليد المجتمع كالثوب العربي أو الساري الهندي.

    المنطقة الرمادية: هي المنطقة التي تتقرب فيها الماركات نحو المجتمع، عبر تقديمها لمنتجاتها بنكهة محلية، لتعطي الطابع الخاص للمجتمع. مثل الكثير من منتجات الأغذية لماركات غربية تقدم منتجاتها على أنها “حلال”، بالإضافة إلى تقديم بعض من منتجاتها بصيغة محلية، كمنتج لماكدونالدز بالخبز العربي. وغيرها الكثير.

    المنطقة الوردية:وهي التي تعلن فيها الماركات هويتها الحقيقة وبصورة مباشرة، عبر تقديم منتجاتها بالصور المبرمجة التي تود ترسيخها وإعلانها في المجتمع. وهو حال معظم الماركات الموجودة حالياً.

    المنطقة المحايدة: وهي تلك التي تقدم منتجاتها وخدماتها بعيداً عن أي هوية قد تمس المجتمع، وهي تأتي ضمن سياق تطور عام في البشرية من خلال استخدامها للتقنية الحديثة. ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر الأجهزة الإلكترونية، وأجهزة الاتصال الحديثة، والسيارات وبرامج الكمبيوتر العامة.

    ويمكن أن يكون جزء من المنطقة المحايدة ذو لون معين، فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “إل جي” الكورية الجنوبية للإلكترونيات أنها طرحت تلفزيوناً جديداً في أسواق الشرق الأوسط مثبت عليه نصوص قرآنية رقمية.فهنا تحولت الماركة في جزء منها إلى المنطقة الخضراء.

    وأكثر المناطق اتساعاً هي المنطقة الوردية، لتشكل قوالب بصرية جاهزة للطرح في المجتمعات لكسب سلوك شرائي متواصل لها.

    وتمثل تلك القوالب بمثابة مغناطيس ضخم يجذب إليه كل من لديه معدن القابلية لاتخاذ نموذج له من الماركات (اللباس، الأكل، أسلوب المعيشة بصورة عامة).

    ويمكن للمجتمعات أن تقوم بتوسعة دائرة المنطقتين الخضراء والرمادية، وتحجيم الحمراء والوردية، وذلك لكي يكون المجتمع بأساساته وقيمة وهويته هو من يرسم ويقنن ويجعل من الماركات تتحرك نحو المنطقة الخضراء قدر الإمكان.

    وتسعى الكثير من الماركات لتوسعة المنطقة الوردية لكسب ولاء أكثر من الأفراد ، ليس لشراء منتجاتها فقط، بل والتفاعل معها والعيش معها بشخصيتها وهويتها، وما يتبع ذلك من ضخ للملايين إلى محفظة تلك الماركات.

    ويبقى الصراع بين الجبهتين مستمراً، بين شد وجذب، بين توسعة لمنطقة وتحجيم لأخرى، وأما مقولة تحويل الأفراد في المجتمعات البشرية إلى عناصر مستهلكة مكررة تحت راية العولمة، فهي ليست دقيقة البتة، فهناك الكثير من المجتمعات التي تشكل الماركة في ترويجها وهويتها نوعاً ما بالطريقة التي تناسبه، ولا ننسى أن الأمر يتعلق في الأخير بتقديم المنتج أو الخدمة لقضاء حاجة عند الفرد، لتكسب الماركة “مستهلكاً” يدفع قيمتها.
    وبين تلك الجبهتين، يمكن للعديد من الماركات المحلية الاستفادة من المنطقة الخضراء وتوسعتها، ويمكن للماركات العالمية الدخول في المنطقة الرمادية، وذلك للتقليل من حدة المواجهة بين المجتمعات والماركات.
    وما زال الوقت كافياً للمضي في توسعة المنطقتين الخضراء والرمادية، عبر الرجوع إلى المواد الأولية من المنطقة المحايدة لا لتغليب جبهة على أخرى، بقدر ما نصل إلى توازن معقول بينهما.

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

  • مليارات بين الوجبات

    التجارية ٢٤ ستمبر ٢٠٠٨م

    جعفر حمزة*
    لم تكن للحيرة من سبيل إليه، فلم يكن يُطيق الإنتظار ليجهز الخبز مع الجبن من الخباز، مقارنة باصبعين من الشوكلاته الجاهزة والمغلفة في مكان بارد في الثلاجة। لذا قرر “قتل” الإنتظار و”دفع” مبلغ إضافي ليحصل على تلك “الوجيبة” التي ستسد جوعه لحين موعد وجبته التالية। ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الأطعمة الخفيفة المملحة (البطاطس، الكورن، المكسرات، بوب كورن)، الحلوى والسناك التي تحوي على الجبن، والسناك التي تصنع مع الخبز، بالإضافة إلى السناك المجمد. تغيرت العلاقة بين الإنسان والأشياء، فبالأمس المتوسط كان الإنسان “يذهب” للشيء ليأخذ حاجته منه، فإذا أراد مشاهدة فيلم أو برامج فعليه أن يجلس ويهيأ الجو للمشاهدة، أما اليوم فقد أصبح التلفزيون بين يديه وطوع أمره، حيث يمكنه وضع التلفزيون في سيارته بل وفي جيبه، والكمبيوتر الذي لم يكن يسع حجرة لاحتضانه أصبح بحجم كف اليد. وتحولت العلاقة إلى أن يكون الإنسان هو مركز الأشياء، ليصبح كل شيء إلكتروني أو طعام أو أي شيء “يخدمه” قريب منه، مع بذله لقليل من الجهد، ومن تلك الأشياء هي “وجبات الطعام”، والتي أصبحت “لصيقة” للإنسان أينما ذهب، فمع كثرة المحلات الكبيرة والصغيرة، فضلاً عن سهولة الاحتفاظ بها. أصبح بمقدور الفرد تناولها في أي وقت لإسكات جوعه. وبعبارة أخرى، إنّ التغير في أسلوب الحياة وعامل الوقت ساهما في تشكيل جديد في صناعة الأطعمة.ومن المتوقع أن تحظى صناعة الأطعمة الخفيفة “السناك” بنجاحات تجارية ملحوظة. وخصوصاً إذا علمنا بأن حجم استثماراتها في تصاعد ضخم، حيث يبلغ حجم صناعتها مليار دولار سنوياً، وهي في ازدياد، منذ أن تحولت إلى سوق يحوي الكثير من الفرص. وتتصارع الكثير من الشركات حول العالم على قلوب و”بطون” المستهلكين للحصول على نسبة أكبر منها أي “القلوب والبطون”. وحسب تقرير أوردته مؤسسة “جلوبال إنديستري أناليستس إنكوربوريشين”، فإنه من المتوقع أن يزداد حجم تصنيع الأطعمة الخفيفة “السناك فوود” بمقدار ٩.٨ مليون طن بين الفترة ٢٠٠٧ و ٢٠١٠م. وبزيادة في هذه الصناعة بمقدار ٢٦.٨٪ في نفس تلك الفترة. وستبلغ حجم الواردات من تلك الصناعة ما يساوي ٢٧٨.٧ مليار دولار حتى عام ٢٠١٠م. (١) ومن أكبر أوراق اللعب التي تملكها شركات “السناك فوود” هو الماكينة الإعلانية، حيث تتميز الإعلانات الخاصة بتلك المنتجات بمستوى رفيع من الجودة والحرفية في إيصال الرسالة الموجهة عن المنتج، في قبال غياب حضور إعلاني للمنتجات الغذائية الصحية الطبيعية الأخرى كالفواكه والخضروات ومنتجات الحليب واللحوم بصورة عامة. وقد شكل ذلك موضوعاً جدياً في العديد من الدول الغربية، حيث رفع المهتمون فيها بصحة المستهلك عقيرتهم لمواجهة الحضور القوي لمنتجات “السناك فوود” . وتقدم منتجات “السناك فوود” ماركاتها التجارية بطريقة احترافية كبيرة في التسويق والإعلان وتأسيس قاعدة قوية لهويتها، وذلك من خلال ربط المنتج بقيم تتناسب مع الفئات المستهدفة من التسويق، وعلى سبيل المثال لا الحصر، منتج “سنكرس” مع هويته “لا توقّف”، وتحوله إلى هوية عصرية لها القابلية في “التشكل” مع “الموضات البصرية”، حيث أصبح منتجاً مرافقاً لأحد الأفلام المشهورة “ترازنسفورمورز-المتحولون”على سبيل المثال لا الحصر. وكما أن المنتجات الغذائية عبر ماكينتها الإعلامية تُساهم في تشكيل سلوكيات المستهلكين، فإن وعي المستهلكين يؤثر بصورة مباشرة في تصنيع المنتج من المحتوى والقيمة معاً. فالناس أصبحت أكثر وعياً بصحتها، وما تحتويه تلك المنتجات الغذائية من مكونات، سواء كانت صحية أو معدلة وراثية لها أضرار صحية عليهم على المدى المتوسط أو الطويل. وتمثل السوق الإسلامية إحدى أهم الأسواق العالمية جذباً للعديد من منتجات أغذية “السناك فوود”، بل أن الكثير من الدول العربية تقوم بتصنيعها محلياً، ومن أشهر تلك الدول هي سلطنة عمان، والسعودية والكويت،ومصر وسوريا، وم الدول الإسلامية تركيا وإيران. ونتيجة لتنامي تلك الصناعات على المستوى المحلي في بعض الدول العربية تقوم كبرى الشركات العالمية بتعاونات ثنائية مع تلك الشركات المحلية، منها على سبيل المثال، اتفاق شركة بيبسيكو إنكوربوريشين مع شركة تسالي للأطعمة السعودية، وهي الشركة الرائدة في مجال الأطعمة الخفيفة “السناك فوود” في السوق السعودية، وستكون الشراكة تحت اسم الشركة السعودية والتي يقدر حجم استثماراتها في السوق المحلية بما يعادل ١٠٠ مليون دولار. (٢) وبالرغم من كل ذلك تبقى هناك خطوتين تنقص السوقين العربية والعاليمة الموجهة للسوق الإسلامية. فعلى المستوى العربي، هناك غياب خطوتين مهتمين، هما التسويق المبدع للمنتجات ومنافستها لتلك الأجنبية، وخصوصاً مع وجود كل مقومات التفوق، من ناحية التصنيع والميزانية للترويج وفهم ثقافة المستهلك و”أهل البيت أدرى بما فيه”. والخطوة الثانية هو “تقشف” في التعاون الثنائي العربي، سواء من ناحية الشراكة بين المؤسسات تحت مظلة واحدة، أو شراكة تعاونية من حيث تبادل قاعدة المعلومات، خصوصاً إذا كان المنتجين للشركتين يكمل أحدهما الآخر، أو يشكلان ثنائياً جذاباً للمستهلك، كرقاق البطاطس وقضبان الشوكلاته. وأما على المستوى العالمي، فهناك توجه من كبرى الشركات والماركات العالمية لمراعاة الخصوصية للمستهلك المسلم من ناحية المكونات التي يجوز لها تناولها، وخصوصاً إذا علمنا بأن حجم السوق العالمي للمنتجات الحلال يبلغ ٥٠٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠١٠م، وهو ما يستدعي طلباً متزايداً على المنتجات الأولية لصناعة الأغذية الحلال حول العالم. ومع ذلك تبقى العديد من الشركات الأجنبية التي لا تراعي هذه الخصوصية، وكأنها تضمن -بطريقة ما- بأن المستهلك سيشتري المنتج حتى لو لم يكن متوافقاً مع مبادئه وقيمه الغذائية فيما يتعلق بالمكونات الحلال، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أقدمت شركة ماستر فوودز البريطانية على استبدال المنفحات النباتية بأخرى حيوانية، وهو ما شكل ضجة لدى النباتيين في بريطانيا، ويذكر الخبر الذي أوردته وكالة “بي بي سي” البريطانية بأن الشركة الأم للكثير من المنتجات، مثل “سنكرس، مارس وتويكس، وباونتي، وملكي واي” ستسبدل الأنفحة النباتية التي يتم استخدامها في تصنيع تلك المنتجات بأخرى حيوانية. (٣) وتستخلص تلك الأنفحة من أمعاء بعض الحيوانات كالعجول والخنازير، لتشكل إحدى المواد الأساسية في التصنيع والذي يدخل فيه الحليب. ومع تنامي فرص الاستثمار والربح في مجال أغذية “السناك فوود” في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بصورة عامة، قد لا يكون المستهلك معنياً بالضرورة بشراكة مؤسات أو إندماجها أو باستثمارات مدورسة في هذا المجال من قبل شركات عربية أو إسلامية، إلا أنه سيوجه نظره-أي المستهلك- إلى تلك المنتجات إذا ما تمت مخاطبته بثلاث كلمات: الجودة في المنتج، والخطاب الإعلاني المبدع والمؤثر، ومراعاة الخصوصية الثقافية بطريقة عصرية وحديثة. وعندها يمكن الحديث عن بدائل ذات مستوى مرموق ومنافس في سوق تنتعش يوماً بعد يوم، وإذا لم يأخذ صاحبنا قطعة الخيز مع الجبن، والتي يمكن أن تكون منتجاً في المستقبل القريب، فلا أقلها أن يأخذ منتجاً عربياً أو إسلامياً يضمن مصدره ويتمتع بتناوله. لقد انعكس رتم الحياة السريع والمتغير في العمل والعلاقات الفردية، فضلاً عن تحول معظمنا إلى ما يشبه “الأسفنجة” بما نتلقاه من صور متتابعة عبر الإعلام بجميع وسائله، لقد انعكس ذلك في تشكيل سلوكنا اليومي اللغوي والبصري والغذائي الرئيسي منه “الوجبات الرئيسية” لتتحول إلى الوجبات السريعة “الفاست فوود” والفرعي” إلى طعام خفيف “السناك فوود” أو الوجبة الخفيفة، والتي يتم تناولها بين الوجبات بطريقة سهلة وسريعة، وتحوي الكثير من المُحليّات والمواد الحافظة.

    * مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي।

    (١)
    http://snack-foods.co.uk

    (٢)
    www.foodnavigator.com

    (٣)
    http://news.bbc.co.uk/1/hi/business/6653175.stm

  • السينما الإيرانية، إبداع بصري يرسم سينما الإنسان

    مقال تم نشره في مجلة الرمضانية البحرينية

    جعفر حمزة*

    “لا يولد الإبداع إلا من رحم الحاجة، ولا تتجسّد القوة في الصورة المرسلة إلا بعد معاناة وملامسة للواقع”.

    كان لا بد من التوقع أن التغيير لن يشمل نظاماً سياسياً فحسب، وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، بل انسحب التغيير ليشمل عقلية ومنهجية تفكير وسلوك تشكل قبل وأثناء وبعد الثورة الفكرية في المجتمع الإيراني.، وكان التحول الحقيقي هو في التعاطي مع الدين بطريقة جديدة ألقت بظلالها على ميادين مختلفة من الحياة الإيرانية، وكان من بينها “الفن والسينما”.
    إذ أن الفن لم يمثل ذلك “الشر المطلق” في ذاته ليُقصَى من الساحة بشكل عام، فقد حث الإمام الخميني على ضرورة الاستفادة من الفن والسينما لخدمة الإسلام، وقد كان هذا التوجه جديداً عندما نقرأ خطوط الساحة الدينية في العالم الإسلامي آنذاك.
    إن ما يميز السينما الإيرانية خطابها البسيط في عفويته الإنسانية التي لم تعتمد على الجنس، العنف، أو المغامرات لتقديم أصل الفكرة في الفيلم، ولقد نجحت السينما الإيرانية بامتياز من دون اللجوء إلى تلك السبل، وهي السينما التي قدمت معاني الإنسانية في عنوانها العام والخاص للعالم، ولقد كسبت ثناءً محموداً من لدن نقاد ومشاهدين من شتى أنحاء العالم.
    وللمرأة نصيب مشهود في السينما الإيرانية، فخلال السنوات التي أعقبت انتصار الثورة في إيران، لم تلعب المرأة الإيرانية دوراً مهماً في التمثيل فحسب، بل أخذت دورها المميز كمخرجة ومنتجة وكاتبة، ولم يكن حال سينما الأطفال بأقل شأناً وأهمية من سينما الكبار، فقد خصصت السينما الإيرانية بمؤسساتها المختلفة مهرجاناً دولياً لسينما الأطفال والناشئة، وقد قامت مؤسسة الفارابي التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي بتشجع العديد من المخرجين والمنتجين بالتركيز على الطفل في السينما الإيرانية .
    ومن المقومات الذاتية والخارجية لهذه السينما، والتي أصبحت قيد الدراسة لتفكيك “الحياكة البصرية” المميزة لها، خصوصاً بعدما سرقت الأضواء في المهرجانات العالمية.
    هي السماوات الخمس التالية:

    السماء الأولى:
    الألم الذي يحتضنه المجتمع يمثل جزءً كبيراً من وقود الإبداع في السينما الإنسانية، والتي تحتل إيران مساحة كبيرة منها، ومن ذلك الألم يتحرر الأمل. وذلك من خلال “المرايا العاكسة” لا النظرة المباشرة، وبمعنى آخر يتم استعراض الألم، ألم الطفولة والفراق والاشتياق عبر دلالات ورموز بسيطة لا يجهد المشاهد فكره في تحليلها والوصول إلى المغزى من ورائها، بل هي بسيطة في التحليل وعميقة في الطرح والتصوير، ما يجعل المشاهد منغمساً في المشهد بالرغم من بساطته في التركيب وسهولته في العرض، إلا أن القوة تتركز في المعنى الذي يحتويه من خلال قسمات وجه طفل، أو دمعة أم أو إنكسار على وجه صبية، وهو نفس المعنى الجاذب بلا شعوريته المباشرة للمشاهد، والذي يتفاعل بحرارة من الداخل مع الفيلم من خلال مشاعر حقيقية تتفاعل مع المشاهد ضمن توليفة ثنائية مُحكمة.

    السماء الثانية:
    اعتماد السينما الإيرانية على “اللاممثلين” في أفلامها، إذ تلحظ تفاعلاً غريباً، لا يمكن أن يقوم به ممثل إن لم يكن هو بالفعل صاحب القصة وصاحب الألم وصاحب الموقف لتتجسد فيه الشخصية ليكونا واحداً، والنتيجة هي مشاهدة “حقيقية” للقصة عبر أشخاص “حقيقين” لا ممثلين.
    ومن الأفلام التي يغيب عنها الممثلين -كما يقول أحد النقاد المصريين- هو فيلم “لون الجنة- رنك خدا”، والذي يبدع فيه الصبي “محمد” الضرير دوره لدرجة البكاء معه بل وقشعريرة لا يمكنك مقاومتها عندما ترى مواقفه التي تقطر شعوراً دفاقاً وألماً وأملاً وحياة ونظرة مختلفة للحياة.

    السماء الثالثة:
    على الرغم من وجود “السجادة السينمائية الإيرانية” في تركيبتها المعقدة، إلا أن الشكل العام لها يمثل “راحة بصرية” للمشاهد، لذا بالإمكان ملاحظة “قوة البساطة” في السينما الإيرانية من خلال استخدام التقنية البسيطة من جهة، واختيار زوايا التصوير من جهة أخرى، ويكأن الفيلم تم تصويره من دون كاميرا، بل بعين بشرية هي عين المشاهد نفسه،وتلك البساطة هي مكمن القوة الجاذبة للمشاهد.

    السماء الرابعة:
    الموسيقى الإيرانية التصويرية ذات “النغم الحي” الملىء بالأحاسيس، ومن المعروف أن الموسيقى الإيرانية تتمتع بميزة نقل “النَفَس” من النفس إلى الآلة عبر مقطوعات مؤثرة تُلهب الأحاسيس وترسم صورة سمعية تتفاعل مع المشهد البصري.

    السماء الخامسة:
    طرق الأبواب المثيرة للتوجس نتيجة طبيعة “العلاقة الموضوعية” للفكرة المطروحة، سواء كانت من ضمن “التابو-المحرّم” أو المسكوت عنه، أو من خلال تقديم “إضاءة” لزوايا لا يوجد فيها إنارة للنظر إليها، ويسري ذلك الأمر على الكثير من العناوين “المحرمة” اجتماعياً أو ثقافياً، مع وجود “مبررات” دينية لا يكون للدين يدٌ فيها أصلاً، وذلك الطرق “الإبداعي” ميزة أخرى للسينما الإيرانية.

    لقد باتت السينما الإيرانية ترسم سبيلاً سينمائياً عالمياً جديداً، وطريقاً يلامس الإنسان في إنسانيته بمفرداته المختلفة بعيداً عن صورة الجنس والعنف والخيال المفرط الذي يعزز الهّوة بين الإنسان وواقعه من جهة، ويُصنّع وحدات استهلاكية إعلامية من جهة أخرى، وتلك كانت الرسالة ببساطة إمكاناتها وصفاء رسالتها التي جسدتها السينما الإيرانية الماضية قدماً على الصعيد العالمي باعتراف جماهيري واحترافي في آن معاً.
    وهي درس عملي، يقدم الرطار العام لمفهوم السينما الإنسانية، والتي بإمكان أي مجتمع تقديم ألمه وأمله عـبر مقاسه الخاص باحتفاظ هويته دون المراهنة على استنساخ التجارب الغربية أو الشرقية، بل عليه أن يستنسخ تجربته الذاتية ويقدمها كما هي دون “مكياج” أو “قناع” لتصل إلى قلب المشاهد عبر عينه وسمعه، وتبقى السينما الإيرانية وبعض السينما من دول أوروبا كإيطاليا ومن الشرق كاليابان والصين وكوريا نماذج تقدم سينما الإنسان للإنسان.

  • الغزو الثقافي، ترف فكري أم حقيقة واقعة؟ لقاء مع سعوديات نت

    الباحث البحريني جعفر حمزة في لقاء خاص مع سعوديات نت حول الغزو الثقافي، ترف فكري أم حقيقة واقعة؟
    أجرى الحوار: محمود النشيط

    http://www.saudiyatnet.net/wesima_articles/discussions-20080908-56393.html

    سعوديات نت – أجرى الحوار/ محمود النشيط من مملكة البحرين

    في لقاء مع الباحث والمختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي الشاب البحريني جعفر حمزة، وحديث مفصل عن الغزو الثقافي، وهل هو ترف فكري أم حقيقة واقعة؟ ليجول من جانب إلى آخر، يبين نقاط القوة والضعف التي يمكن أن يتقبلها البعض ويرفضها الآخرين كلاً حسب وجهة نظره، ومفهومه لمعنى الغزو الثقافي، وهل يعتبرونه كما يعتبره الباحث بأنه ترف فكري أم حقيقة واقعية جسدتها بعض الواقعيات في زمن كثرت فيه التناقضات، حتى بات البعض لا يسمي الأسماء بأسمائها خشية الدخول في دهاليز لا يعرف الخروج منها.
    ويرى الباحث أن ما نطرحه من “رأي” لايمس “مسلمة” أو “مقدس” أو “خطوط حمراء”، رغم أن هذه المساحة الرمادية بدأت تكبر بسرعة، وضحكت على من يسأل عن “الغزو الثقافي” وهو يعد العدة لغزو آخر في عقول الناس بتوسيع دائرة “ممتلكاته” ووضع اليد عليها.
    اللقاء مع الباحث البحريني يطول، ويطول إذا ما ترك في تحليله الموضوعي لقضية أختلف الكثيرون حولها، وجسدها الضيف الكريم في عدة نقاط، هي محاور لقاؤنا الأول معه في صحيفة سعوديات نت وفيما يلي تفاصيل الحوار.

    *هل هناك غزو ثقافي؟

    – لا أعتقد بوجود غزو ثقافي. اُستخدمت هذه التسمية لغرضين؛ توصيف الثقافة الحاضرة بقوة في حقول الحياة، والتي تأخذ نمطاً فكرياً وسلوكياً معيناً، وقد يكون ذلك إيجابياً لإيجاد خطة مواجهة مدروسة وتقديم بدائل منافسة. أما الغرض الثاني فهو توصيف تستخدمه الثقافة الأضعف حضوراً، بغرض تسميم كل ما يأتي من الثقافة الأقوى حضوراً، وجعله محل نبذ وتخوف وتجنب، بدل أن يكون محل قبول وأخذ. تفعل ذلك خوفاً على أتباعها من تأثرهم بتلك الثقافة ذات الحضور القوي.

    ونعتقد شخصياً بأن مفهوم الغزو الثقافي قد تم استخدامه في الأدبيات العربية عموماً ضمن الغرض الثاني، فمع وجود العديد من الكتب والبحوث والمنتديات التي رفعت أكثر من راية تحذير و”تهويل” من الثقافة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، إلا أن وجود أطروحة ممنهجة وسلوك عملي كان غائباً، لذلك نرى أن الحديث عن مفهوم “الغزو الثقافي” سيكون محصوراً بين أفواه المثقفين وأشباههم، وبين طيات الكتب التي لا يقرأها الكثيرون، وإن قرأوا لا يعون، وإن وعوا لا يعملون. وهذه حقيقة لا يمكن إنكار وجودها، وليس هو توصيف سوداوي.

    وأكبر دليل على ما نقول هو غياب مشروع بديل يواجه ما يسمى بالمد الثقافي الغربي، فيكون الحديث عن “الغزو الثقافي” أو أي مصطلح نصنعه مجرد سراب لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فإن كان ابني وابنك وأختي وأختك يتنفسون الثقافة الغربية بسلبياتها الواضحة يومياً، لذا سنكون كمن يناقش دورة حياة الفراشة، في الوقت الذي تغرق فيه السفينة التي تُبحر بنا في ليل عاصف وموج هائج.

    وأؤمن أن ما نسميه الغزو الثقافي ما هو إلا آية من آيات الله المذكورة في القرآن الكريم، والمشكلة هو في الاختلال الحاصل في تطبيق الآية لا أكثر ولا أقل.

    الآية هي قول الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (البقرة: ٢٥١)، تبين الآيات أن الفساد المترتب على المدافعة والضرر المتوقع من الجهاد لا يُقارن مع نتائج ترك الجهاد. بمعنى آخر إنّ عملية “المدافعة” ضرورية لحفظ التوازن لصالح قوى الخير بتحفيزها بالطريقة الصحيحة والتي قدمها الباري عز وجل من خلال قاعدة واضحة الملامح، وهي تقديم كل مقومات القوة لوقف زحف “الفساد” في الأرض، ولا يمكن ذلك إلا بوجود قوة ممكنة الاستخدام، وما نسميه “الغزو الثقافي” ما هو إلا نتيجة الإنكفاء عن “الدفع”، وبالتالي تسيطر المناهج السلوكية والفكرية البعيدة عن روح الإسلام في الحياة اليومية، وما يستتبع ذلك من تفاعل يومي مع صور تلك الثقافة سلوكاً وفكراً وثقافةً.

    لذا، لا وجود لغزو بالمعنى “الهجومي” المتناول في استخدام كلمة “غزو”، بل هو “مد” طبيعي قد يعقبه “جزر” أو تسونامي، وهذا يعتمد على موقعنا من تطبيق مبدأ آية التدافع المذكورة سابقاً.

    وما يُقدم من أدبيات دون وضع أطروحات عملية ما هي -حسب وجهة نظرنا المتواضعة- إلا تبرير لضعفنا الذي نتوارى منه وراء مصطلحات تختزن في داخلها “القوة” و”السيطرة” و”الهيمنة” للطرف الآخر، وما هو حاصل لدينا من تمثّل للثقافة الغربية والأمريكية إلا واقع لما قاله ابن خلدون “المغلوب دائماً يتشبه بالغالب”.

    ليس هناك غزواً ثقافياً بل مداً ثقافياً قد يطول أو يقصر اعتماداً على من يزود ذلك المد بالقوة والاستمرار، لتتشكل كل مفردات تلك الثقافة في نمط التفكير والسلوم والتفاعل مع الذات والآخر.

    *هل لكل مجتمع الحق في التبشير بثقافته لباقي المجتمعات؟

    – ليس من حق كل ثقافة إيصال أفكارها إلى بقية المجتمعات، بل من واجبها فعل ذلك، لتجسر الهوة مع بقية المجتمعات لتصل إلى “التعارف”، وهو الهدف من وجود الملل والنحل على وجه الأرض.

    قال تعالى “وجلعناكم شعوباُ وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم” (الحجرات ١٣). ويبقى السؤال في طريقة وهدف طرح ثقافة أمة وشعب على الآخر،فهناك فرق بين أن تتحاور بصوت مسموع ليفهمك الآخر أو أن ترفع صوتك لتُرهب الطرف المقابل بحجة الحوار.

    وما نراه من واقع طرح الثقافات في عالم اليوم، ليس “تعارفاً” بل “تنافساً” للثقافات القوية، وإما الضعيفة منها فهي تكون “تابعة” لا “متعارفة” ولا “متنافسة”. والثقافة الإسلامية “مترنحة” بين “التنافس” و”التعارف” بدرجات متفاوتة؛ نتيجة غياب مشروع نهضوي ممنهج في خطاب الداخل الإسلامي ومن هو بالخارج. وذلك بالرغم من وجود مقومات ذلك الخطاب والمشروع، إلا أنه غائب عن التطبيق لأمور يعرفها الكثير، ويطول مقام شرحها في حال طرحها الآن.

    * ما السبل التي يتبعها الغرب لإيصال أفكاره للغير؟

    – للغرب قوتان صلبة وناعمة، كما يطرحها “جوزيف س.ناي” في كتابه “القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، والذي يطرح فيها نظريته للتفوق الأمريكي المستديم من خلال ثقافتها وصورتها التي يريد لها أن تعيش في كل عين وفكر عبر “سبايدر مان وأفلام هوليوود”، وفي كل “معدة” عبر “ماكدونالد”، وعلى كل جسم من خلال “كالفن كلاين” و” قوتشي” وغيرها من ماركات الثياب الأمريكية وتوابعها.

    ونعتقد بأنها وسائل مباحة في “تدافع” الأمم الذي ذكرناها سابقاً.ولا يمكن مصادرة تلك الوسائل، وما ملاحظتنا كمسلمين إلا في محتوى تلك الوسائل لا في نفسها، وهو أمر طبيعي حسب خلفيتنا الثقافية والفكرية والدينية. لذا فواجبنا هو “إشباع” تلك الوسائل بالمحتوى الذي نريده، لتقديمه للآخر. لقد أصبحت الهوّة بين الأمم في المجال التقني متقارب نوعاً ما، وما الاختلاف إلا في وضع المنهج العملي للاستفادة منها متمثلة في السياسة الداخلية والاقتصادية، فضلاً عن “العقلية الجماعية” للمجتمع، والتي تزرع “البذرة” الأساس للتغيير من الداخل.

    * لماذا نجح الغرب؟

    – نجح الغرب عندما أخذ بأسباب القوة في تنظيم أمورهم، وجعل رؤيتهم للحياة جزء يومياً يعيشونه ويتفسونه ويشربونه ويرونه. ولم يقتصر تقدمهم في المجال الصناعي فحسب، وإن كان الأخير مهماً في تصدير منهجهم للحياة عبر تلك التقنيات والبضائع. حيث أصبحت الرسائل الموجهة من قبل المجتمع الغربي مدروسة وفي قالب “بضائعهم” التي يستهلكونها، وفي تلك المصدرة للعالم، حتى بات كحصان “طروادة”، ولكنه مصنوع من تقنيات عالية ومحشو بداخله أفلام هوليوود، وأطعمة الوجبات السريعة والتقنيات الحديثة وكل تلك الصور التي ترسم طريق “الحصان” وهدفه.

    لقد نجح الغرب في ميادين متعددة وأخفق في أخرى، نجح في تقدمه وتسويقه لنفسه كل يوم كرافع لراية الحرية والتقدم، وبذينك العنوانين اللذين زودهم الغرب بالأدوات العملية أصبح حاضراً بقوة، ولا يمكن إنكاره. وأخفق في زاويته الأخلاقية والنفسية ليصبح ويبيت على كل أنماط السلوك العائمة دون هداية، لتصبح النتيجة “هجوم خفي” من زاويتهم المظلمة في الجانبين الأخلاقي والنفسي على “الزاوية المضيئة” في جانبهم العملي والعلمي.

    لقد تعدّى الغرب مسألة التنظير، ليجعل ما على الورق سلوكاً يتعامل به الفرد ويعيشه. في حين بقي الآخرون ممن لديهم مدارس مختلفة ومناهج وديانات -ومن ضمنهم المسلمون-يحتفظون بأوراقهم ويتناقشون فيها وعليها ومنها ولها. وذلك دون الحراك الفعلي لتقديم أنموذج “ملموس” ليصبح تجربة تنافس تجربة الغرب، ليكونا في موقع خيار للعالم، بدلاً من أُحادية مفرطة الجانب عن الغرب.

    وإن كانت تجربتي إيران وماليزيا حاضرة إلا أنهما لم تخرجا من حدود تلك الدولتين لتشكلا منهجاً أو خطاً أو مشروعاً يمكن الاستدلال به والعمل عليه.


    * كيف نستفيد من تجربة الغرب في الترويج لأفكارهم وثقافتههم؟

    – لقد اعتمد الغرب في “نشر” ثقافته على ثلاثية مهمة، وهي النشر والنشر والنشر، بمعنى أنهم لم يقدموا نموذجهم إلا من خلال وجود منهج أولاً، وابتكار الأساليب لتقديمها ثانياً، ومتابعتها لتكون مستمرة ثانية، وبالتالي فإن تلك الثلاثية ستركز في الذهن،وعندما يكون ذلك، فيمكنك الإطمئنان بأن رسالتك قد وصلت ولصقت، والنتيجة بقاءك في سلوك الآخر.

    وإن حصل ذلك، فإنك ستبقى معه وتكون جزءً منه، ومعنى ذلك أنك ستكون في كل مكان مع كل منتج وفكرة وموسيقى وفيلم وكتاب.

    * ما السبيل لصد تلك الهجمات الغربية على مجتمعاتنا؟
    – إذا إردت أن تواجه مداً عاتياً، فهناك طريقتين لا ثالث لهما، إما بتحوير مسار المد أو التخفيف منه عبر بناء سدود أو حفر خنادق، وإما بتوظيف المد وتحويله إلى طاقة للاستفادة منه، وبالتالي تحويل “التهديد” إلى “طاقة” بشرط توافر الآليات والمعدات اللازمة لذلك.

    وفيما يتعلق بالمشاريع الإسلامية التي يمكن أن “تحور” و”تخفف” أو “تحول” المد الغربي، فالأمر متعلق بتوفير “العدة” اللازمة لذلك، وإلا فلا داعي للسؤال، وسيبقى المد وأمواج منه مستمرة لا تتوقف، وليس لديك خيار ثالث إما السباحة ضد التيار وستتعب وتهلك، وإما السباحة معه، ولا تدري إلى أين سيوصلك.

    أولاً: لا يكفي طرح مشروع هنا ومشروع هناك تحت الإطار التثقيفي فحسب، فالبطن الجائع لا يهمه فكر، والعين التي ترى “الزخارف” وحلو الحياة من على الشاشة، لا يهمها ما تقدمه إن لم يكن من القوة لتوقفه وتجعله يتفاعل مع ما تطرح.

    واعتقد أن ما يُطرح من مشاريع ما هي إلا بمثابة “إكمال حجة نفسية” على الذات، بأنها قامت وفعلت ونظمت، هو تخدير موضعي وحلم مؤقت بدعوى “تقديم البديل” و”المواجهة”، لا أكثر ولا أقل.

    وليس هذا بتقليل للجهود، فنحن نملك من الطاقات ما يجعلنا نتعدّى دائرتنا المحلية لتصل إلى الغرب في قعر داره -إن أحسنا استخدام الأدوات المناسبة لذلك-. وعوداً إلى أحد “أدوات العدّة” اللازمة للخطاب الإسلامي، وهو وجود منهج واقعي متكامل يخاطب الذات في الداخل الإسلامي، ويحاور الآخر الغربي، ونعتقد بأن دائرة مخاطبة الذات لم تأخذ حقها بعد.

    فليس وضع “فعاليات ثقافية” بمشروع، وليس وجود قنوات شيعية بالصورة المطروحة في أغلبها بمشروع، وليس إنتاج مسرحيات أو أفلام قصيرة متفرقة هنا أو هناك بمشروع، وليس إصدار مجلات ونشرات بمشروع، كلها جزر متفرقة أو “فتات طعام” لا يُسمن ولا يغني من جوع.

    وإذا أردت الدليل فانظر إلى ما يشاهده الناس وما يلبسون وما يأكلون وما يسلكون، فإذا لم تستطع أن تصيغ سلوك الفرد، فما تقوم به إلا تقديم “حبة بندول” لإرضاء ضميرك، وتعتقد بأنها “إكمال حجة” على الآخر.

    وإذا أردت العلاج، فالقرآن يقدمه من خلال منهجية الخطاب الدائم والمستمر للأنبياء، ومنها قصة سيدنا نوح (ع)، حيث يوصف حالة الدعوة لديه “قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً،….ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً”.”نوح”.

    وبالمثل كانت دعوة نبينا المصطفى (ص)، كانت دعوة “ممنهجة” ولديها خطة زمنية موضوعة، وكذلك الأئمة (ع) من أهل بيت النبوة، لم تكن منهجيتهم في “التنظير” والدعوة لمواجهة خطابات الطرف الآخر المشوه للإسلام، بل كانت دعوتهم مخططة ومرسومة، وفي الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مثالين يستحقان الدراسة المعمقة لمعرفة آليات المواجهة وأساسياتها من منظور قرآني ونبوي.

    لا يكفي الإدعاء بغنانا بإسلامنا إن لم تستفد من جواهره وكنوزه، فأين نهج البلاغة دراسة وتطبيقاً وبحثاً وتحليلاً في حياتنا، أين الصحيفة السجادية كدروس في تربية النفس والجيل الحركي في مجتمعاتنا، بل أين قبلهم القرآن الذي جعلناه “قراطيس” عبر حفظ وتجويد وترتيل-وإن كان جيداً- بدلاً من أولوية طرح منهجه في التغيير والمواجهة وبناء المجتمع.

    ثانياً: بعد وضع المشروع والتزود من مصارده الطبيعية، لابد من تحويل تلك الطاقة إلى مفردات وسلوكيات يومية يتفاعل معها الفرد، فإذا أردت أن تحرق ورقة على سبيل المثال، لا بد من توافر (المادة القابلة للاشتعال (الوقود)، والحرارة، والهواء ).

    ويتمثل الوقود في القابلية الموجودة في المجتمع ومدى تقبله للأطروحات المقدمة له من خلال العناوين العامة لمشروع الإسلامي، فإذاٍ القابلية موجودة، وأما الحرارة فهي تأتي من المشاريع نفسها، إن كانت لها القوة الكافية للتفاعل مع الناس، وأما الهواء فيمكن القول بأنه الدعم بنوعيه المادي والاستراتيجي الذي يمد تلك الحرارة باستمرارها في المادة القابلة للاشتعال.

    إن البحث في “الغزو الثقافي” يستدعي أولاً “فهماً ثقافياً” لما هو موجود بيننا، وإذا كان الحديث جول هذا الموضوع بدافع الدراسة والتجليل والبدء بدفع ذواتنا للعمل، فلا بأس، وإما إن كان تقديماً لكواد مخدرة للفكر وتنظيراً عن مساوىء الثقافة الغربية ونحن “نجترها” يومياً بدون نية التغيير، فلا داعي لطرح الموضوع أصلاً. فشتان بين من يريد أن يغير ومن يريد أن ينظر.

    * جعفر حمزة – باحث ومختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

    ملاحظة: تم التصرف في الصور المتعلقة بالموضوع المنشور فقط لا غير

  • أسئلة القلوب الصغيرة

    جعفر حمزة*

    التجارية ١٧ سبتمبر ٢٠٠٨م

    كان مستعداً لقدوم المولود الجديد نفسيا ومالياً، وكانت كتب التربية أحد صور الاستعداد التي لازمته لفترة، ليعرف كيف يتعامل مع ابنه البكر، وقد أسعفته تلك الكتب لترسم له نهجاً عملياً في تربية ابنه، إلا أن الزمن كفيل بتغيير قناعته في جدوى تلك الكتب، فهي لا تحوي كل شيء، ولا تستطيع الإجابة عن كل سؤال.
    وعند عودة ابنه من المدرسة، كان السؤال الأول من الابن لأبيه -ويبدو أنه ليس الأخير-: بابا، زميلي في الصف يقول ان بيتهم قديم جداً وصغير، وهو ليس لهم بل مؤجر، وقد رأيت أراضي شاسعة مسورة ونحن في طريقنا بالباص الذي ليس فيه مكيف إلى المنزل. ألا يمكن لأصحاب تلك الأراضي أن يعطوا جزء صغيراً من أرضهم الكبيرة لعائلة صديقي؟

    توقف الأب للحظات في التفكير، وأراد أن يصرف الإنتباه عن هذا السؤال “المحرج”، والذي إن نطق به هو شخصياً في المجتمع لتم وضع علامة على باب بيته -كما فعلت عصابة الأربعين حرامي على باب بيت علي بابا-، وما زال الإبن ينتظر الإجابة الشافية و”المنطقية” لهذا السؤال، فكانت الإجابة: إذهب وغير ملابسك وتابع فروضك المدرسية.

    لم تكن تلك الكتب الذي وضعها في مكتبته تملك الإجابة، فهي تربوية وليست غير ذلك.
    ومضى السؤال الأول مع تغيير الابن لملابسه المدرسية.

    تجمعت العائلة حول مائدة الإفطار لتتناول الإفطار وتشاهد مسلسلها المفضل.
    “بابا، صديقي حسن يقول أن أخاه متخرج من الجامعة ولديه شهادة كبيرة، ولم يحصل على وظيفة لحد الآن. وكلما ذهب لتقديم وظيفة قالوا له أن ليس هناك شاغر. لماذا؟ أليس من لديه شهادة يمكنه العمل؟ هناك الكثير من الأجانب، لم لا يعطون أخ حسن الفرصة للعمل؟
    لم تصل قطعة “الثريد” إلى بلعوم الأب بعد، ليكون السؤال “الطلقة الثانية” بعد إطلاق مدفع الإفطار، وشتان بين الطلقتين، فالأولى ليفطر الصائمون، والثانية ليفكر ويعمل من عليه إصلاح الأمور، والمهمة صعبة، لا يستطيع القيام بها حتى “توم كروز”.
    وكانت الإجابة: بابا، عليك الإهتمام بدروسك، ولا تهتم بما يقوله غيرك.

    هل هذه هي الإجابة النموذجية أو على الأقل الواقعية؟. ربما نعم، وربما لا. من يدري.
    ولم ينتهِ طبق “الثريد” المفضل للأب حتى بادر الأب ليسبق أي سؤال “محرج” لا يود الخوض فيه: بابا، ما أخبار المدرسة في لأيام الأولى؟

    ليكون الجواب ضمن “عقد” يبدو أن الأبن يشكّه بعفوية افتقدناها وابتعدنا عنها عمداً أو قسراً: بابا، المواصلات غير كافية، وبعض الصفوف ليس فيها تكييف، وكثير من الطاولات غير صالحة لاستعمالها. ألا توجد عند الوزارة المال؟

    ويبدو أن الإجابة على هذا السؤال ممكنة، إلا أن الأب فضّل السكوت والإشاحة عن هذا السؤال، لكي لا تفتح له أبواب لا يعرف كيف يخرج منها، وخصوصاً أنه يتعامل مع ابنه ذو السنوات العشر. فهل يفتح له كتاب الاستملاك للأراضي من غير حساب، أم يتصفح فصل التمييز الوظيفي في سوق العمل، أم يقرأ له قبل النوم حكاية غياب التخطيط الأساسي في أهم وزارة في أي دولة بالعالم، وأقصد بها وزارة التربية والتعليم.

    لم يرد الأب أن يفتح أي كتاب من تلك الكتب أو حتى أن يلق نظرة على الفهرس أو بداية المقدمة، فكانت الأسئلة تمس صميم أساسيات المجتمع، ووقع الأب في حيرة هل يُجيب على تلك الأسئلة لينشغل الولد الصغير بملفات “معقدة” لم يستطع كبار القوم حلها، فضلاً عن الحديث عنها بصراحة تامة، أم يتغافل عن تلك الأسئلة التي لا تتوقف، وربما يدع غيره ليجيب ابنه عليها؟

    وبدل أن تكون هناك “حكاية قبل النوم”، كانت حكاية الابن القاسية على الأب، عندما قبله على جبينه قبل أن يخلد للنوم: بابا هل سيأويني بيت عندما أكبر وأتزوج. هل سأحصل على بيت؟، فسأله الأب: ولم تقول هذا؟
    فأجاب الابن: سمعت في الصف أن زميلي محمد لديه أخ انتظر عشرين سنة لم يحصل على بيت.
    فكم سنة سأنتظر أنا؟
    “حكاية قبل النوم” لم تعد بنهايات سعيدة كما كان معهوداً فيها.ومع الكثير من “الملفات الاقتصادية والسياسية” المتراكمة لم يعد هناك وقت للتفكير في الحكايات، ويبدو أن اسئلة الابن ستزداد يوماً بعد يوم، ولن تنفع معه كل كتب التربية وعلم النفس للإجابة على أسئلته “البديهية” التي تمثل “حكاية” على المعنيين بصناع القرار السياسي والاقتصادي الإجابة عليها بطريقة “بديهية”. وفي غير تلك الحالة فإن تلك الأسئلة ستكون جزء مهموماً في عقلية جيل يفترض به أن يمسك راية المستقبل لهذا البلد الغالي على الجميع، فعندما يتضوّر “الموظف” جوعاً ومديونية قاصمة للظهر، فهل سيفكر في تطوير العمل، فضلاً ْن أداء أساسيات العمل الملقى على عاتقه؟

    ونعتقد بأن من أهم أساسيات التطوير والتحديث في الدول، هو أخذ الأمور والملفات بشفافية، وهي “العفوية” التي سألها الابن لوالده، وفي غياب “العفوية” في السؤال، سيتبعها غياب مماثل في الإجابة والمعالجة، وبالتالي تتراكم الأسئلة والملفات لتتعقد وتتشابك لدرجة يصعب حلها من الأساس، لتتم معالجة الطبقة الخارجية منها دون معالجة اللب.

    وما تلك الأسئلة “العفوية” التي طرحها الابن إلا حقيقة بحاجة إلى معالجة “صريحة” في قطاع الإسكان وسوق العمل والتجنيس العشوائي، وغيرها من “الملفات” المسكوت عنها، والتي ستظهر إن عاجلاً أو آجلاً آثارها المتراكمة، ولا ينفع أسلوب معالجة الطرح الإعلامي الداخلي والخارجي لوضع يحتاج لدراسة جادة ومواجهة علمية وعملية، وفي غير ذلك سيكون “الاسم شائع والبطن جائع” كما يقول المثل. وعندها ما الذي سيجيبه الوالد لابنه على تلك الأسئلة إن سألها مرة أخرى، أو أسئلة جديدة قد تتناول التجنيس والسواحل والطفرة النفطية والمشاريع الضخمة دون الحصول على بعض “فتاتها” للمجتمع؟
    أعتقد بأنه سيشيح بنظره عن تلك الكتب وسيقرأ شيئاً آخر ليتعرف كيف يجيب على اسئلة ابنه الواقعية।

    * مختص في ثقافة الصورة، والاقتصاد المعرفي.

  • عرفني ففكر وسبقني فابتكر

    جعفر حمزة*

    التجارية ١٠ سبتمبر ٢٠٠٨م

    كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
    تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.

    إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.

    تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)

    ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.

    ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)

    ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
    لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
    دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
    وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.

    ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
    ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
    وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
    فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
    يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
    ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
    “مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)

    ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
    فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
    ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.

    (١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman