الرئيسية
-
-
جعفر حمزة*
كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.
تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.
ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)
ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
“مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman
-
عرفني ففكر وسبقني فابتكر
جعفر حمزة*
كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.
تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.
ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)
ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
“مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman
-
عرفني ففكر وسبقني فابتكر
جعفر حمزة*
كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.
تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.
ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)
ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
“مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman
-
عرفني ففكر وسبقني فابتكر
جعفر حمزة*
كانت ملازمة للشهر الكريم لقرون مضت، حتى أصبحت جزءً ملازماً لشهر الصيام، بل تحولت إلى أيقونة ما زالت باقية ترمي بظلالها عند ذكر الشهر الكريم في كل عام عند المسلمين حول العالم.
تلك هي “الفوانيس” التي وُلدت في العصر الفاطمي بمصر، لتنتقل عبر الزمن من خلال حرفة صناعتها إلى الزمن الحاضر بألوانها الجميلة وحضورها المبهج عبر أنامل الأطفال الفرحين الذين يحملونها مبشرين ومعلنين استقبال شهر رمضان.إلا أن تلك الملازمة بين الفوانيس التي تصنعها الأيدي المصرية لقرون عديدة وشهر رمضان قطعها “ضيف” من الشرق الأقصى يُزيح تلك القرون ويضعها على الهامش، ليدخل بقوة في السوق المصرية مقدماً الفوانيس العملية والأسهل و”الأرخص”، حيث تتميز الفوانيس التي تتم صناعتها بالصين بخفتها؛ لأنها مصنوعة من البلاستيك في قبال الفوانيس التقليدية المصنوعة من المعدن، فضلاً عن استغنائها عن الشموع ببطارية ومصباح يضيء تلك الفوانيس التي يُقبل عليها المصريون ويفضلونها على تلك الفوانيس المعدنية. وتسبب ذلك في أزمة حقيقية للورش التي تقوم بتصنيع تلك الفوانيس لسنوات طوال.
تقول السيدة “لميس الحديدي” وهي مراسلة اقتصادية وقد حكت قصة تلك الفوانيس عبر شاشة “سي إن بي سي العربية”، تقول “الحديدي” بشأن الفوانيس الصينية واكتساحها للسوق المصرية: (إنهم يغزون ثقافتنا بطريقة إبداعية، وبدورنا فنحن لا نقوم بشيء حيال ذلك. تلك الفوانيس أتت من صلب ثقافتنا، وروحنا، ولكن النسخة الصينية للفوانيس أكثر إبداعاً وتقدماً من النسخة المحلية المصرية). (١)
ومن الجدير بالذكر أن الكثير من الأمهات المصريات يفضلن الفوانيس الصينية على تلك المحلية، لأنها آمنة في الاستخدام مقارنة بتلك المصنوعة من المعدن والحواف الحادة والزجاج الموضوع فيها، في حين تكون الفوانيس الصينية مصنوعة من البلاستيك وإضاءة داخلية تعتمد فيها على بطارية صغيرة بداخلها. ولم يكتف الصينيون بذلك، بل أضافوا إلى تلك الفوانيس “رقاقة دقيقة” تحمل نغمات رمضانية خاصة، فضلاً عن أغان معروفة لشخصية “بكّار” الكرتونية المصرية. وكل ذلك في هذا الفانوس الصيني.
ويذكر المؤلف “توماس فريدمان” بعد سرده لقصة الفوانيس، المقومات المخزونة في مصر لتكون بمثابة تايوان الشرق الأوسط، فهي -أي مصر- تتميز بانخفاض أجور الأيدي العاملة، مثل الصين. وهي قريبة من أوروبا. ويمكنها أن تكون بقوة تايوان في الصناعة بدلاً من فتح المجال للصين لتصنع بدلاً عنها رمزاً ثقافياً بارزاً كالفوانيس. (٢)
ونقول للسيد “فريدمان” ما الفوانيس إلا جزء صغير على بوابة من ورائها الكثير من الرموز الثقافية والمحلية، والتي إن تم “هضمها” بطريقة إبداعية عبر “معدة” محلية سيتم التقليل من هامش ما أسمته السيدة “لميس الحديدي” من الغزو لثقافة مصر المحلية.
لم تعد التجارة ترتبط بالحدود الجغرافية ولا يمكن وضعها بين جدران أي معبد لأي ديانة كانت، بل وليس هناك مجال لإيقافها عند مشارف هذه الثقافة أو تلك. لقد أصبحت التجارة العالمية بمثابة “الزئبق” الذي يتشكل حسب السوق الذي يتمتع بالقوة الشرائية اللازمة لحصد الأرباح، وما وجود الرموز الثقافية ضمن المعادلة في المثال المذكور إلا نتيجة وقوعها في مسار التجارة والربح، وليست هناك “نيّة مُبيتة” ولا مؤامرة ولا هم يحزنون.
دولة تعداد سكانها يبلغ العشرات من الملايين “مصر”، ونسبة المسلمين فيها كبيرة جداً، ويرتبط عندهم موسم ديني “شهر رمضان” بأداة يستخدمونها “الفانوس” سيشكل مربحاً جيداً لمن يفكر في الاستفادة منها. فما المانع من تقديمه بصورة عملية أكبر وإبداعية ملحوظة ليتفاعل الناس ويشترونها؟
وهكذا قامت الصين بدورها وبفعالية كبيرة.ونتيجة لتلاشي الحدود التجارية في العالم، لابد من الإلتفات إلى البيت الداخلي، لئلا يتم بيع “منتجات” ثقافية إلى أصحاب الثقافة نفسها يومياً وبطرق متعددة. كحال من يشتري تمراً من الصين وفي بلاده أجود أنواع التمور، إلا أن الفرق أن طريقة تعبئة ذلك التمر الصيني جذابة ومبتكرة.
ولا أدل على ذلك في صناعة الأغذية، حيث ازداد اهتمام كبرى الشركات المصنعة للأغذية حول العالم بالمنتجات “الحلال”، حيث لم تعد تقتصر على الدول الإسلامية فقط، بل هناك الكثير من المجتمعات المسلمة بل وحتى البعض من غير المسلمين يفضلون الطعام المذبوح وفق الشريعة الإسلامية، ولم يكن هذا الأمر وارداً للطرح أو المناقشة في سنوات خلت. بل أصبح لدى تلك المنتجات الغذائية “الحلال” معارضها السنوية وموردوها ومروجوها وزبائنها.
وما زالت الهويات المحلية تمثل عاملاً مهماً يصيغ للعلامة التجارية توجهها، حتى لو لم تختلف هوية تلك العلامة التجارية في الأساس، فعلى سبيل المثال، تدعّي “ماكدونالد” بوجود منتجات “حلال” ضمن منتجاتها، فضلاً عن تقديمها لمنتجات لها صبغتها المحلية، من قبيل طعام مقدم بالخبز العربي، وما إلى غير ذلك. في الوقت التي تحتفظ العلامة الأم بهويتها الأمريكية المنفتحة جداً.
فهل تبقى المجتمعات المسلمة والعربية، بل وحتى النامية في موقع “التفاعل” مع ما يتم تقديمه، لنتحول إلى مجتمعات نرى ما نطلب ونشتهي “على القياس” دون جهد أو إعمال فكر فيه؟
يذكر لي أحد الأخوة ملاحظته التي اتقدت في ذهنه أثناء الصلاة، حيث لاحظ خطأ موقع مقام إبراهيم (ع) المرسوم على سجادة الصلاة، فتبين أن “الصين” محل صناعتها!!
ويبدو أن الصينيون قد تحولوا بالفعل إلى تنين عملاق يضرب بأطنابه أسواق العالم دون هوادة، بل وبرغبة من الناس وإقبالاً عليه. وفي هذه الحال لا يمكن مقارعة التنين ففيه الهلاك، ولا يمكن السكوت عنه، إذ أصبح يدخل كل بيت، والحل؟
“مسايرته” بل والتعاون معه، حيث تمثل الصين أهم سوق في العالم للدول النامية. فبإمكانها القيام بصناعات عالية الجودة وبأسعار تنافسية كبيرة أفضل من أي دولة في العالم.(٣)ونعتقد بأن الحل الأمثل للاستفادة من ميزتين اثنتين هما الاحتفاظ بالهوية الثقافية على القياس الذي نريد، بالإضافة إلى تدوير المال داخل المجتمع نفسه، هو -أي الحل- التعاون مع “التنين” عبر القياسات التي نريدها وبالطريقة التي نُحب أن تُعرض فيه ثقافتنا، وبالتالي لا تذهب مردودات القوة الشرائية لخارج المجتمع، فضلاً عن تعزيزالهوية الثقافية كما نريد وبطرق إبداعية مختلفة تجعلها حية باقية على الدوام.
فالمساحات المفتوحة والفضاءات الواسعة لعالم اليوم، والتي “تحوّل” ثقافتك وهويتك إلى منتج ثقافي يمكن بيعه وشرائه، تُلزمك اللعب حسب قوانين جديدة عليك معرفتها بالتفاصيل لتحقق نتائج مُرضية على الأقل في هذه المرحلة.
ربما لا تتوافر العمالة ذات الأجر المنخفض، وربما لا تتوافر المصانع ذات السعة الاستيعابية المطلوبة، وقد تغيب التقنية التي تضمن الجودة والكفاءة المرتقبة في المنتج، ومع كل ذلك يمكن الاستفادة من “التنين الصيني” عبر ظهور المنتج من عقول أفراد المجتمع نفسه، وتتم الاستفادة من ذلك التنين في مراحل التصنيع فقط، وأما غير ذلك فعلى أصحاب الأفكار الإبداعية والتجار أن يشحذوا فكرهم ويبدأوا بالعمل، قبل أن “يعرف الآخرون ثقافتنا ف”يفكرون” كيف السبيل للاستفادة منها، وبالتالي “يسبقنا” الآخرون في “الابتكار” ، أو على وزن المثل القائل “ضربني فبكى وسبقني فاشتكى؛ ليصبح “عرفني ففكر، وسبقني فابتكر”.(١،٣ ،٢) The World id flat, Thomas L.Friedman
-
في لقاء خاص مع سعوديات نت، الغزو الثقافي أصبح فزاعة لمن لا قدرة له على المواجهة
لباحث البحريني جعفر حمزة في لقاء خاص مع سعوديات نت حولالغزو الثقافي، ترف فكري أم حقيقة واقعة؟أجرى الحوار: محمود النشيطhttp://www.saudiyatnet.net/wesima_articles/discussions-20080908-56393.html
سعوديات نت – أجرى الحوار/ محمود النشيط من مملكة البحرين
– في لقاء مع الباحث والمختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي الشاب البحريني جعفر حمزة، وحديث مفصل عن الغزو الثقافي، وهل هو ترف فكري أم حقيقة واقعة؟ ليجول من جانب إلى آخر، يبين نقاط القوة والضعف التي يمكن أن يتقبلها البعض ويرفضها الآخرين كلاً حسب وجهة نظره، ومفهومه لمعنى الغزو الثقافي، وهل يعتبرونه كما يعتبره الباحث بأنه ترف فكري أم حقيقة واقعية جسدتها بعض الواقعيات في زمن كثرت فيه التناقضات، حتى بات البعض لا يسمي الأسماء بأسمائها خشية الدخول في دهاليز لا يعرف الخروج منها।ويرى الباحث أن ما نطرحه من “رأي” لايمس “مسلمة” أو “مقدس” أو “خطوط حمراء”، رغم أن هذه المساحة الرمادية بدأت تكبر بسرعة، وضحكت على من يسأل عن “الغزو الثقافي” وهو يعد العدة لغزو آخر في عقول الناس بتوسيع دائرة “ممتلكاته” ووضع اليد عليها.
اللقاء مع الباحث البحريني يطول، ويطول إذا ما ترك في تحليله الموضوعي لقضية أختلف الكثيرون حولها، وجسدها الضيف الكريم في عدة نقاط، هي محاور لقاؤنا الأول معه في صحيفة سعوديات نت وفيما يلي تفاصيل الحوار.*هل هناك غزو ثقافي؟
– لا أعتقد بوجود غزو ثقافي. اُستخدمت هذه التسمية لغرضين؛ توصيف الثقافة الحاضرة بقوة في حقول الحياة، والتي تأخذ نمطاً فكرياً وسلوكياً معيناً، وقد يكون ذلك إيجابياً لإيجاد خطة مواجهة مدروسة وتقديم بدائل منافسة. أما الغرض الثاني فهو توصيف تستخدمه الثقافة الأضعف حضوراً، بغرض تسميم كل ما يأتي من الثقافة الأقوى حضوراً، وجعله محل نبذ وتخوف وتجنب، بدل أن يكون محل قبول وأخذ. تفعل ذلك خوفاً على أتباعها من تأثرهم بتلك الثقافة ذات الحضور القوي.
ونعتقد شخصياً بأن مفهوم الغزو الثقافي قد تم استخدامه في الأدبيات العربية عموماً ضمن الغرض الثاني، فمع وجود العديد من الكتب والبحوث والمنتديات التي رفعت أكثر من راية تحذير و”تهويل” من الثقافة الغربية عموماً والأمريكية خصوصاً، إلا أن وجود أطروحة ممنهجة وسلوك عملي كان غائباً، لذلك نرى أن الحديث عن مفهوم “الغزو الثقافي” سيكون محصوراً بين أفواه المثقفين وأشباههم، وبين طيات الكتب التي لا يقرأها الكثيرون، وإن قرأوا لا يعون، وإن وعوا لا يعملون. وهذه حقيقة لا يمكن إنكار وجودها، وليس هو توصيف سوداوي.
وأكبر دليل على ما نقول هو غياب مشروع بديل يواجه ما يسمى بالمد الثقافي الغربي، فيكون الحديث عن “الغزو الثقافي” أو أي مصطلح نصنعه مجرد سراب لا يُسمن ولا يُغني من جوع، فإن كان ابني وابنك وأختي وأختك يتنفسون الثقافة الغربية بسلبياتها الواضحة يومياً، لذا سنكون كمن يناقش دورة حياة الفراشة، في الوقت الذي تغرق فيه السفينة التي تُبحر بنا في ليل عاصف وموج هائج.
وأؤمن أن ما نسميه الغزو الثقافي ما هو إلا آية من آيات الله المذكورة في القرآن الكريم، والمشكلة هو في الاختلال الحاصل في تطبيق الآية لا أكثر ولا أقل.
الآية هي قول الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (البقرة: ٢٥١)، تبين الآيات أن الفساد المترتب على المدافعة والضرر المتوقع من الجهاد لا يُقارن مع نتائج ترك الجهاد. بمعنى آخر إنّ عملية “المدافعة” ضرورية لحفظ التوازن لصالح قوى الخير بتحفيزها بالطريقة الصحيحة والتي قدمها الباري عز وجل من خلال قاعدة واضحة الملامح، وهي تقديم كل مقومات القوة لوقف زحف “الفساد” في الأرض، ولا يمكن ذلك إلا بوجود قوة ممكنة الاستخدام، وما نسميه “الغزو الثقافي” ما هو إلا نتيجة الإنكفاء عن “الدفع”، وبالتالي تسيطر المناهج السلوكية والفكرية البعيدة عن روح الإسلام في الحياة اليومية، وما يستتبع ذلك من تفاعل يومي مع صور تلك الثقافة سلوكاً وفكراً وثقافةً.
لذا، لا وجود لغزو بالمعنى “الهجومي” المتناول في استخدام كلمة “غزو”، بل هو “مد” طبيعي قد يعقبه “جزر” أو تسونامي، وهذا يعتمد على موقعنا من تطبيق مبدأ آية التدافع المذكورة سابقاً.
وما يُقدم من أدبيات دون وضع أطروحات عملية ما هي -حسب وجهة نظرنا المتواضعة- إلا تبرير لضعفنا الذي نتوارى منه وراء مصطلحات تختزن في داخلها “القوة” و”السيطرة” و”الهيمنة” للطرف الآخر، وما هو حاصل لدينا من تمثّل للثقافة الغربية والأمريكية إلا واقع لما قاله ابن خلدون “المغلوب دائماً يتشبه بالغالب”.
ليس هناك غزواً ثقافياً بل مداً ثقافياً قد يطول أو يقصر اعتماداً على من يزود ذلك المد بالقوة والاستمرار، لتتشكل كل مفردات تلك الثقافة في نمط التفكير والسلوم والتفاعل مع الذات والآخر.
*هل لكل مجتمع الحق في التبشير بثقافته لباقي المجتمعات؟
– ليس من حق كل ثقافة إيصال أفكارها إلى بقية المجتمعات، بل من واجبها فعل ذلك، لتجسر الهوة مع بقية المجتمعات لتصل إلى “التعارف”، وهو الهدف من وجود الملل والنحل على وجه الأرض.
قال تعالى “وجلعناكم شعوباُ وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله اتقاكم” (الحجرات ١٣). ويبقى السؤال في طريقة وهدف طرح ثقافة أمة وشعب على الآخر،فهناك فرق بين أن تتحاور بصوت مسموع ليفهمك الآخر أو أن ترفع صوتك لتُرهب الطرف المقابل بحجة الحوار.
وما نراه من واقع طرح الثقافات في عالم اليوم، ليس “تعارفاً” بل “تنافساً” للثقافات القوية، وإما الضعيفة منها فهي تكون “تابعة” لا “متعارفة” ولا “متنافسة”. والثقافة الإسلامية “مترنحة” بين “التنافس” و”التعارف” بدرجات متفاوتة؛ نتيجة غياب مشروع نهضوي ممنهج في خطاب الداخل الإسلامي ومن هو بالخارج. وذلك بالرغم من وجود مقومات ذلك الخطاب والمشروع، إلا أنه غائب عن التطبيق لأمور يعرفها الكثير، ويطول مقام شرحها في حال طرحها الآن.
* ما السبل التي يتبعها الغرب لإيصال أفكاره للغير؟
– للغرب قوتان صلبة وناعمة، كما يطرحها “جوزيف س.ناي” في كتابه “القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، والذي يطرح فيها نظريته للتفوق الأمريكي المستديم من خلال ثقافتها وصورتها التي يريد لها أن تعيش في كل عين وفكر عبر “سبايدر مان وأفلام هوليوود”، وفي كل “معدة” عبر “ماكدونالد”، وعلى كل جسم من خلال “كالفن كلاين” و” قوتشي” وغيرها من ماركات الثياب الأمريكية وتوابعها.
ونعتقد بأنها وسائل مباحة في “تدافع” الأمم الذي ذكرناها سابقاً.ولا يمكن مصادرة تلك الوسائل، وما ملاحظتنا كمسلمين إلا في محتوى تلك الوسائل لا في نفسها، وهو أمر طبيعي حسب خلفيتنا الثقافية والفكرية والدينية. لذا فواجبنا هو “إشباع” تلك الوسائل بالمحتوى الذي نريده، لتقديمه للآخر. لقد أصبحت الهوّة بين الأمم في المجال التقني متقارب نوعاً ما، وما الاختلاف إلا في وضع المنهج العملي للاستفادة منها متمثلة في السياسة الداخلية والاقتصادية، فضلاً عن “العقلية الجماعية” للمجتمع، والتي تزرع “البذرة” الأساس للتغيير من الداخل.
* لماذا نجح الغرب؟
– نجح الغرب عندما أخذ بأسباب القوة في تنظيم أمورهم، وجعل رؤيتهم للحياة جزء يومياً يعيشونه ويتفسونه ويشربونه ويرونه. ولم يقتصر تقدمهم في المجال الصناعي فحسب، وإن كان الأخير مهماً في تصدير منهجهم للحياة عبر تلك التقنيات والبضائع. حيث أصبحت الرسائل الموجهة من قبل المجتمع الغربي مدروسة وفي قالب “بضائعهم” التي يستهلكونها، وفي تلك المصدرة للعالم، حتى بات كحصان “طروادة”، ولكنه مصنوع من تقنيات عالية ومحشو بداخله أفلام هوليوود، وأطعمة الوجبات السريعة والتقنيات الحديثة وكل تلك الصور التي ترسم طريق “الحصان” وهدفه.
لقد نجح الغرب في ميادين متعددة وأخفق في أخرى، نجح في تقدمه وتسويقه لنفسه كل يوم كرافع لراية الحرية والتقدم، وبذينك العنوانين اللذين زودهم الغرب بالأدوات العملية أصبح حاضراً بقوة، ولا يمكن إنكاره. وأخفق في زاويته الأخلاقية والنفسية ليصبح ويبيت على كل أنماط السلوك العائمة دون هداية، لتصبح النتيجة “هجوم خفي” من زاويتهم المظلمة في الجانبين الأخلاقي والنفسي على “الزاوية المضيئة” في جانبهم العملي والعلمي.
لقد تعدّى الغرب مسألة التنظير، ليجعل ما على الورق سلوكاً يتعامل به الفرد ويعيشه. في حين بقي الآخرون ممن لديهم مدارس مختلفة ومناهج وديانات -ومن ضمنهم المسلمون-يحتفظون بأوراقهم ويتناقشون فيها وعليها ومنها ولها. وذلك دون الحراك الفعلي لتقديم أنموذج “ملموس” ليصبح تجربة تنافس تجربة الغرب، ليكونا في موقع خيار للعالم، بدلاً من أُحادية مفرطة الجانب عن الغرب.
وإن كانت تجربتي إيران وماليزيا حاضرة إلا أنهما لم تخرجا من حدود تلك الدولتين لتشكلا منهجاً أو خطاً أو مشروعاً يمكن الاستدلال به والعمل عليه.
* كيف نستفيد من تجربة الغرب في الترويج لأفكارهم وثقافتههم؟
– لقد اعتمد الغرب في “نشر” ثقافته على ثلاثية مهمة، وهي النشر والنشر والنشر، بمعنى أنهم لم يقدموا نموذجهم إلا من خلال وجود منهج أولاً، وابتكار الأساليب لتقديمها ثانياً، ومتابعتها لتكون مستمرة ثانية، وبالتالي فإن تلك الثلاثية ستركز في الذهن،وعندما يكون ذلك، فيمكنك الإطمئنان بأن رسالتك قد وصلت ولصقت، والنتيجة بقاءك في سلوك الآخر.
وإن حصل ذلك، فإنك ستبقى معه وتكون جزءً منه، ومعنى ذلك أنك ستكون في كل مكان مع كل منتج وفكرة وموسيقى وفيلم وكتاب.
* ما السبيل لصد تلك الهجمات الغربية على مجتمعاتنا؟
– إذا إردت أن تواجه مداً عاتياً، فهناك طريقتين لا ثالث لهما، إما بتحوير مسار المد أو التخفيف منه عبر بناء سدود أو حفر خنادق، وإما بتوظيف المد وتحويله إلى طاقة للاستفادة منه، وبالتالي تحويل “التهديد” إلى “طاقة” بشرط توافر الآليات والمعدات اللازمة لذلك.وفيما يتعلق بالمشاريع الإسلامية التي يمكن أن “تحور” و”تخفف” أو “تحول” المد الغربي، فالأمر متعلق بتوفير “العدة” اللازمة لذلك، وإلا فلا داعي للسؤال، وسيبقى المد وأمواج منه مستمرة لا تتوقف، وليس لديك خيار ثالث إما السباحة ضد التيار وستتعب وتهلك، وإما السباحة معه، ولا تدري إلى أين سيوصلك.
أولاً: لا يكفي طرح مشروع هنا ومشروع هناك تحت الإطار التثقيفي فحسب، فالبطن الجائع لا يهمه فكر، والعين التي ترى “الزخارف” وحلو الحياة من على الشاشة، لا يهمها ما تقدمه إن لم يكن من القوة لتوقفه وتجعله يتفاعل مع ما تطرح.
واعتقد أن ما يُطرح من مشاريع ما هي إلا بمثابة “إكمال حجة نفسية” على الذات، بأنها قامت وفعلت ونظمت، هو تخدير موضعي وحلم مؤقت بدعوى “تقديم البديل” و”المواجهة”، لا أكثر ولا أقل.
وليس هذا بتقليل للجهود، فنحن نملك من الطاقات ما يجعلنا نتعدّى دائرتنا المحلية لتصل إلى الغرب في قعر داره -إن أحسنا استخدام الأدوات المناسبة لذلك-. وعوداً إلى أحد “أدوات العدّة” اللازمة للخطاب الإسلامي، وهو وجود منهج واقعي متكامل يخاطب الذات في الداخل الإسلامي، ويحاور الآخر الغربي، ونعتقد بأن دائرة مخاطبة الذات لم تأخذ حقها بعد.
فليس وضع “فعاليات ثقافية” بمشروع، وليس وجود قنوات شيعية بالصورة المطروحة في أغلبها بمشروع، وليس إنتاج مسرحيات أو أفلام قصيرة متفرقة هنا أو هناك بمشروع، وليس إصدار مجلات ونشرات بمشروع، كلها جزر متفرقة أو “فتات طعام” لا يُسمن ولا يغني من جوع.
وإذا أردت الدليل فانظر إلى ما يشاهده الناس وما يلبسون وما يأكلون وما يسلكون، فإذا لم تستطع أن تصيغ سلوك الفرد، فما تقوم به إلا تقديم “حبة بندول” لإرضاء ضميرك، وتعتقد بأنها “إكمال حجة” على الآخر.
وإذا أردت العلاج، فالقرآن يقدمه من خلال منهجية الخطاب الدائم والمستمر للأنبياء، ومنها قصة سيدنا نوح (ع)، حيث يوصف حالة الدعوة لديه “قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً،….ثم إني دعوتهم جهاراً، ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً”.”نوح”.
وبالمثل كانت دعوة نبينا المصطفى (ص)، كانت دعوة “ممنهجة” ولديها خطة زمنية موضوعة، وكذلك الأئمة (ع) من أهل بيت النبوة، لم تكن منهجيتهم في “التنظير” والدعوة لمواجهة خطابات الطرف الآخر المشوه للإسلام، بل كانت دعوتهم مخططة ومرسومة، وفي الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مثالين يستحقان الدراسة المعمقة لمعرفة آليات المواجهة وأساسياتها من منظور قرآني ونبوي.
لا يكفي الإدعاء بغنانا بإسلامنا إن لم تستفد من جواهره وكنوزه، فأين نهج البلاغة دراسة وتطبيقاً وبحثاً وتحليلاً في حياتنا، أين الصحيفة السجادية كدروس في تربية النفس والجيل الحركي في مجتمعاتنا، بل أين قبلهم القرآن الذي جعلناه “قراطيس” عبر حفظ وتجويد وترتيل-وإن كان جيداً- بدلاً من أولوية طرح منهجه في التغيير والمواجهة وبناء المجتمع.
ثانياً: بعد وضع المشروع والتزود من مصارده الطبيعية، لابد من تحويل تلك الطاقة إلى مفردات وسلوكيات يومية يتفاعل معها الفرد، فإذا أردت أن تحرق ورقة على سبيل المثال، لا بد من توافر (المادة القابلة للاشتعال (الوقود)، والحرارة، والهواء ).
ويتمثل الوقود في القابلية الموجودة في المجتمع ومدى تقبله للأطروحات المقدمة له من خلال العناوين العامة لمشروع الإسلامي، فإذاٍ القابلية موجودة، وأما الحرارة فهي تأتي من المشاريع نفسها، إن كانت لها القوة الكافية للتفاعل مع الناس، وأما الهواء فيمكن القول بأنه الدعم بنوعيه المادي والاستراتيجي الذي يمد تلك الحرارة باستمرارها في المادة القابلة للاشتعال.
إن البحث في “الغزو الثقافي” يستدعي أولاً “فهماً ثقافياً” لما هو موجود بيننا، وإذا كان الحديث جول هذا الموضوع بدافع الدراسة والتجليل والبدء بدفع ذواتنا للعمل، فلا بأس، وإما إن كان تقديماً لكواد مخدرة للفكر وتنظيراً عن مساوىء الثقافة الغربية ونحن “نجترها” يومياً بدون نية التغيير، فلا داعي لطرح الموضوع أصلاً. فشتان بين من يريد أن يغير ومن يريد أن ينظر.
* جعفر حمزة – باحث ومختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
-
ملعقة وحقيبة
جعفر حمزة*التجارية ٣ سبتمبر ٢٠٠٨م
يبدو أن الحكمة من وجود جيبين في الثياب هو دفع المال بكلتا اليدين، لو كان للإنسان ثلاثة أيدٍ لكان الجيب الثالث موجوداً। وقد تراءى لي استخدام آخر لذلك الجيبين في الموسم الذي نعيشه الآن، حيث أصبح جيب لمستلزمات شهر رمضان “كما يحب البعض أن يسميها” وجيب آخر للأدوات المدرسية، وكأن تزامن شهر رمضان والمدارس يقدمان “حكمة” جديدة لوجود الجيبين।
فما يراه المرء من “احتفالية” في عرض البضائع من أطعمة بألوان قوس قزح وأكثر و”تهافت” موسمي عليها لدرجة أن يُخيّل للمرء بأن حرباً على الأبواب، وما ذلك إلا استعداداً لتخزين “المؤونة” والاعتماد عليها في فترة “القحط أو الضرب في الحرب”، تلك الصورة التي تقدم سلوكاً لا ينبغي “الفلسفة” فيه لبداهته وبساطته المعروضة، يستدعي التأمل وقراءته بإنصاف قد لا يعجب البعض إن لم يكن الكثيرين।
هل السلوك الدافع لتشكيل نمط الشراء لحاجيات رمضان أو للمعدة يمثل أمراً طبيعياً ولا داعي للخوض فيه أم أن الحديث حوله بات ضرورياً لإعادة قراءة ما صار مُعتاداً وأمراً ثابتاً لا يتغير، لمعرفة تداعياته إن وُجدت؟
وبعبارة أخرى هل أصبح السلوك الشرائي ما قبل وأثناء وبعد شهر رمضان (العيد) “ملعقة” لا يمكن الاستغناء عنها في تناولنا للطعام؟ أم أن استخدام اليد يبدو خياراً عملياً آخر؟وفي الجانب الآخر، نرى أن شراء مستلزمات المدارس ذات مواصفات من جهتين “المدرسة والطالب”، حيث أصبح للطالب مواصفاه الخاصة لشراء ما سيكون له لصيقاً له طوال الفصل الدراسي. فهل أصبحت لل”الحقيبة” مواصفات معينة من لون ورسم وشخصية كرتونية أو بطل فيلم لتتم الموافقة على اقتنائها من قبل الطالب؟ حيث لا يمكن تجاهل تلك “الموضات” والاكتفاء بحقيبة لا وجه لها ولا شخصية؟
وبين “الملعقة” (شراء حاجيات رمضان) و”الحقيبة” (شراء المتسلزمات المدرسية)، لا بد من وقفة لمعرفة بذور ظهورهما (الأسباب) وثمارهما (النتيجة).
بذرة الملعقة
كنتُ في محادثة مع إحدى النساء الكبيرات في السن حول شهر رمضان، ولم تكن تتخيل أن يغيب عن “سفرة” الإفطار بعض أصناف الأطعمة، والتي باتت لصيقة بشهر رمضان حضوراً في المائدة. وذلك بالرغم من إخباري لها بعدم أهمية الأمر، فهو مجرد طعام يفطر عليه الإنسان المسلم بعد صيام نهار يوم كامل، فما الذي سيضيفه هذا الصنف أو ذاك إلى معدته بعد الشبع؟
لم يكن كلامي معقولاً أو مقبولاً لها، ولها حق في ذلك، فالارتباط الشرطي والصورة “التزاوجية” بين شهر رمضان والعديد من أصناف المأكولات، لا يمكنك أن تفكه بكلام أو مناقشة ولا حتى بتحليل علمي واقتصادي.
ويكمن سر بقاء “الملعقة” معززة مكرمة هو “انتقال” ذلك الشعور الذي بات “عرفاً” لدى الناس عبر الزمن ليحتفظ بإطاره الذي لا يتغير بالرغم من تغير الظروف المحيطة وتبدل الأوضاع الاقتصادية، ونتيجة لذلك “الإطار المتعارف عليه” الذي لا يمكن نزعه أو تغييره أو حتى مجرد النقاش فيه، لكونه أصبح “جزءً” من سلوك ذلك المقتدر مالياً وذلك المغلوب على أمره، أي بعبارة أخرى تحول إلى “عقلية ممارسة موسمية” في كل سنة.
ويدفع الكثير من الناس أنفسهم لبقائهم ضمن ذلك الإطار ليعيشوا-حسب تصورهم- أجواء شهر رمضان وأساسياته الأولية.
وقد لعب الإعلام إلى جانب العرف الإجتماعي دوراً بارزاً في تضخيم ذلك الإطار وتثبيته، بتقديمه للدعايات التلفزيونية والصور البصرية المتعلقة بشهر رمضان، والتي تعزز بقوة وجود ذلك الإطار في السلوك الشرائي للفرد، لتنتقل من صندوق العرض “التلفزيون” إلى صندوق المنتج الغذائي، عبر ربط لا ينقطع.ويدخل عبر بوابة شهر رمضان بند مخفي للصرف اليومي طوال ثلاثين يوماً، متمثلاً في عناوين الربح والظفر بالجوائز عبر برامج ومسابقات تضع لك الشمس في يد والقمر في اليد الأخرى لتمنّي نفسك بالظفر بأحدهما أو كلاهما.
وبالتالي تكتمل الصورة ويشتد الإطار متانة وقوة، سلوك شرائي لا يتوقف لحاجات الشهر وآخر تفاعلي لا يمكنك مقاومته، عندما تُعرض لك الجوائز والأموال بين ناظريك، فلا قيمة لدينار أو نصفه تصرفه على المكالمة أو الانتظار، وكأنّ بنا مسحة ساحر أو حلم شاعر.ثمار الملعقة
تحول السلوك الشرائي إلى جزء من سلوك جماعي من الصعب الابتعاد عنه بل حتى التعليق عليه بنقد أو ملاحظة.
ونتيجة لذلك يصبح الفرد “ماكينة صرف” موسمية، يستفيد منها المعلنون والمروجون و”القطط” -بعد الإفطار-، ويتحول شهر رمضان إلى “غنيمة سمينة” لا يمكن تفويتها، فمن يفوت “بقرة حلوب” تدر عليه الأرباح ويعزز الكثير من القيم والسلوكيات السلبية في إطار زمني معروف ومحسوب، ويمكن الإعداد له مسبقاً.
وتتحول “الملعقة” إلى “هواء” لا يمكن الاستغناء عنه، لتكبر تلك الملعقة لتصبح “مُعلَّقة” على جدار كل بيت.
وارجاع تلك الملعقة إلى حجمها المعقول، لا يبدو ممكناً في ظل تصاعد الصور وتراكم الأعراف التي تحولت إلى شيء من “الطقوس” التي لا يمكن الحديث عنها، فضلاًَ عن المطالبة بإنزال الملعقة إلى مكانها الطبيعي.
ويتطلب الأمر تقوية في الجبهة الداخلية لكل بيت، لينتشر “مضاد الفيروس”، ولا نعتقد بأن المهمة مستحيلة، مع وجود العنصر الديني في المعادلة، والذي لم يتم توظيفه بالطريقة الصحيحة بالتزامن مع منهج عملي ملموس في المجتمع، ليتم تصغير حجم “الملعقة” والتعامل مع شهر رمضان بواقعية أكثر وإنتاجية أكبر، بدلاً من الصورة النمطية المقدمة من إنتاجية قليلة في النهار وأكل وسهر ولهو في الليل.
وعند الحد من تلك العقلية سيتم “تقليم” أظافر بعبع الاستهلاك للشهر الفضيل.
ولا يمكن إغفال جانب “الغلاء” من ضمن عناصر تشكيل السلوك. والذي بات “صداعاً” يمكن للحكومة الإسهام في التخفيف منه، ليس عبر توزيع “بندول” بل من خلال معالجة أساس المشكلة. ولا يمكن ذلك من خلال توزيع الأسماك، بل توزيع السنارات.بذرة الحقيبة
لكل زمان أهله، كما لكل زمان ماركاته أيضاً. كنا أيام الدراسة نمنّي نفسنا بالحصول على الدفاتر السوداء ذات الخط الأحمر على طرفها، والتي كان يستعملها صاحب الدكان أو البقالة في القرية لجرد حسابته البسيطة.
أما اليوم فقد تحولت تلك المساحة ذات اللون الواحد إلى “ساحة” لعرض الهويات المختلفة من أبطال أفلام إلى شخصيات كرتونية، ومن الصعب منع تلك الموجة من “كسر اللون الواحد” في المستلزمات المدرسية، من القلم إلى الحقيبة.
لقد تحولت “الحقيبة” إلى جزء من ضمن باقة يختارها الطالب لتعكس نمط ذوقه الذي يميل إليه ويعيشه تلفزيوناً ورسوماً ودراسة!
ونتيجة لذلك تحول شراء الأدوات المدرسية إلى مهمة أخرى يجب فهمها والعناية بها، ليتشكل لنا إطاراً جديداً سنعيشه لسنوات قادمة.
إطار من الصعب أن تبتعد عنه، لأنك ستكون مختلفاً ووحيداً عن البقية، وسيشعر ابنك أو ابنتك بانعزال الصورة عن الطلبة الآخرين. لذا لا بد من “حشر مع الناس عيد”، ومن الذي أسس السلوك الأولي، أي من الذي نشر ذلك الفيروس في السلوك الشرائي؟ لا أحد يدري..
ذلك الفيروس الذي حول الأفراد إلى وحدات استهلاكية ترسمها الماركات والموضات، بدل أن يكون الفرد هو المركز، تحول إلى الأطراف ليبحث بل ويدفع من جيبه ليكون في هذا المركز الذي تحتله الماركات.
ولتكون هذه الشخصية الكرتونية محور الإهتمام، ليتطلع الطفل إلى كل زاوية من سلوكه ليجدها فيها، مأكله، مشربه، ملبسه ودراسته.ثمار الحقيبة
دخول طرف ثالث في العلاقة المباشرة بين الطالب والسبورة، لتكون “الحقيبة” بينهما، فبدلاً من أن تكون حاوية للكتب والكراسات، أصبجت حاوية لأدمغة الطلبة والطالبات ضمن جوقة موسيقية أبطالها الشخصيات الكرتونية والممثلين والممثلات، ليقتحموا الأقلام والكراسات والمساطر والحقائب وكل الأدوات المدرسية، لتكتمل الحفلة الموسيقية اليومية التي ستثمر عن صرف مضاعف من الجيب وتشتيت مضاعف من العقل للطالب.
ولا يمكن الاستناد على هذا التحليل كرأي علمي بقدر ما هو ملاحظة سلوكية تحتاج إلى دراسة وتعزيز، وعندها ينبغي اتخاذ الخطوات اللازمة من كل بيت، والذي يمكن أن يغير “الحقيبة” ليجعلها سلوكاً اجتماعياً إيجابياً جديداً، بدل أن يساير الموجود ويصرف ما عنده ويجود.وبين “الملعقة” و”الحقيبة” مساحات شاسعة تفصلنا عنهما كعقلية ينبغي مراجعهتا وتوجيهها بالطريقة الصحيحة. فبداية التغيير تتمثل في إرجاع الأمور إلى نصابها الواقعي، فالملعقة يجب أن تكون في مكانها وحجمها صغير، والحقيبة يجب أن تكون حاملة للكتب لا مشتتة لها.
وإن كان لا بد من تلك السلوكيات إلا أن تفرض وجودها، يمكن من خلال الحكومة تأجيل الدراسة كما قامت به السعودية لما بعد شهر رمضان، على الأقل يمكن الصرف من جيب واحد بدلاً من كليهما.
مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
-
دبابيس
جعفر حمزة*
التجارية ٢٧ أغسطس ٢٠٠٨م
كان بانتظار مكالمة تهمه من أحد الأخوة، وإذا بصوت الهاتف النقال يعلن وصول رسالة “مسج”، فأسرع بفتحها ظاناً بأنها متعلقة بما ينتظره، وكانت “المسج” تتغنّج له وتُغريه بدخول في مزاد علني للظفر بهاتف نقال جديد “آخر موديل”، ولم يكن منه إلا حذفها على الفور، وقد اغتاظ من ذلك، فمن لديه الحق بأن يأخذ رقم هاتفي ويضعه في يد هذه الجهة أو تلك الجهة لتكون مثل “السبيل” لكل من هب ودب ليرسل ما يريد
كان ذلك لسان حال صاحبنا الذي ما زال منتظراً لخبر هاتفي قادم يهمه، وما هي إلا دقائق معدودات فإذا برسالة ثانية أعلنت وصولها، فأسرع بفتحها مستبشراً أو وجلاً فإذا هي تعلن عن “طبق عشاء خاص” من إحدى المطاعم وبأسعار تفضيلية، فإذا شكه تحول إلى يقين فيما يتعلق ب”استغلال” منظم لخصوصية فردية تقوم بها بعض الجهات، حيث أصبح هاتفه “لوحة إعلانات” تستقبل هذا الإعلان وذاك دون “دق باب” صاحب الهاتف। فكم واحد منا يتلقّى هاتفه العديد من الرسائل النصية الترويجية في اليوم الواحد؟ وهل تم أخذ أذنه في استقبال ذلك أصلاً؟ بالطبع لا।
لقد أخذ التطور في المجتمعات في الجانب الرقمي بتشكيل العديد من العلاقات بين الأفراد فيما بينهم من جهة، وما بينهم والشركات من جهة ثانية، وبينهم والحكومات من جهة ثالثة، ليصبح ذلك الجانب المتمثل في وسائل الاتصال والتفاعل المختلفة وسيطاً يتم تقديم من خلاله العديد من الرسائل -بغض النظر عن محتواها وهدفها-، وكانت من أولويات تلك العلاقة تقنينها ووضعها في أطر عملية حيث لا يكون هناك تداخل بين موضوع الحصوصية الفردية وبين حق الوصول للمعلومات
। (ومنذ مطلع السبعينيات بدأت دول العالم تتبنى قوانين حماية الخصوصية إما عن طريق القوانين الشمولية التي تعترف بالحق وتقر المبادىء الأساسية وتقدم الإطار القانوني الموضوعي والإجرائي لحماية خصوصية المعلومات أو حماية البيانات التي تتصل بالأفراد وحياتهم الخاصة (البيانات الشخصية)، أو عن طريق حزمة قوانين قطاعية تتعلق بالبيانات في قطاعات معينة، كالبيانات الصحية أو المالية أو بيانات الأحوال المدنية أو غيرها)। (١)
إنّ مفهوم الخصوصية يتعدى التعريف المتداول والمتمثل في الخصوصية المادية أو المعنوية، حيث تتمثل الأولى في الأشياء المادية التي يمتلكها الفرد ويحميها عنها القانون بحكم ملكيته لها، وأما الجانب النعنوي فيتمثل في حماية القيم والعناصر المعنوية للشخص، ومع تطور وسائل الاتصال المختلفة أصبح مفهوم الخصوصية ملحاً في إبعاد الفرد وحمايته من استغلال جهات وشركات ومؤسسات لمعلوماته الشخصية من أجل الترويج ونشر ما تريد من قيم ورسائل وخدمات ومنتجات وإلى غير ذلك. لقد تم تحويل الفرد بطريقة أو بأخرى عبر وسائل الاتصال الحديثة إلى ما يشبه “لوحة الإعلانات” ولكي يثبت أي إعلان لا بد من وضع “دبوس” عليه ليركز في الذاكرة أو السلوك اليومي، ولكي نثبت ما ندعيه إليكم “الدبابيس” التالية، أقصد الأمثلة التالية :الدبوس الأول: الرسائل النصية القصيرة “المسجات”: أصبح الهاتف النقال للفرد “مرتعاً خصباً” للإعلانات والترويج للبضائع والخدمات، وذلك دون إذن من صاحبه، فهل يحق لشركات الاتصال “وضع” أرقام مشتركيها في يد شركات أو مؤسسات أو جهات أخرى لتقوم الأخيرة بإرسال ما تشاء إلى الأفراد دون أذن منهم؟ وهو سؤال جوهري يدخل في صميم انتهاك حق أصيل للفرد بالخصوصية وعدم الإزعاج، فما الفرق بين من يزعجك بدق جرس منزلك كل مرة وبين من يرسل “مسجات” إليك لا تريدها أصلاً؟ ولا أذكر عندما اشتريت رقم هاتفي أن من ضمن بنود الاتفاقية بيني وبين شركة الاتصال أن يكون رقم هاتفي “سبيلاً” لمن أراد أن يعرض بضاعته وخدماته علي. حالها كحال ذلك البائع لذي يدخل في وسط بيتك ليعرض بضاعته عليك، ليقول لك إذا لم ترد سأخرج من البيت حالاً. والأمر سيان حيث يرد أولئك “المروجون” بأن ما يلزمك هو “ضغطة زر الإلغاء” للرسالة وكفى، ولا داعي لتكبير الموضوع।
فإذا دخل بيتك بائع جوال دون إذنك وعرض بضاعته هل ستكتفي بعدم رغبتك في الشراء؟
تلك هي عين الخصوصية التي تتمثل في بيتي، سجلي الصحي، بياناتي الوظيفية، سجلي الأمني، ورقم هاتفي أيضاً، لا يحق لأحد أن يستعملها دون إذن مني، إلا في حالة أمنية طبعاً على سبيل المثال لا الحصر. واعتقد أن من حق أي مواطن أن يرفع قضية على شركة الاتصال التي اشترى منها رقم هاتفه، حيث تعدّت على خصوصيتك الرقمية، والتي تم إقرارها في العالم منذ الستينيات وتأصلت بعد عقد من الزمن، في حين يتم تداولها كأوراق اليانصيب بين شركات الاتصال وشركات ومؤسسات مختلفة.وسؤال “برىء” لهيئة تنظيم الاتصالات في البحرين، أين موقعها من الإعراب من هذه القضية؟ ألا يمثل ذلك “استغلالاً” لقاعدة بيانات شخصية ومعلومات فردية ووضعها في يد الغير دون موافقة الزبون “صاحب الرقم”؟
الدبوس الثاني: إعلانات الطرق يكفيك أن ترى بعض شوارع البحرين، لتظن أنها معرضٌ للإعلانات -بغض النظر عن مستواها الإبداعي-، حيث أصبحت مصدراً لتزاحم بصري غير مريح، فبعضها يفتقد التثبيت الآمن لها، لتسقط إن هبّت رياح عليها، وقد تسبب في أضرار مادية أو حوادث مرورية، والبعض الآخر يتم وضعها لتحجب الرؤية في دوار أو منعطف. لقد أصبح الكثير من إعلانات الطرق تفتقد لعنصر السلامة، فأين وزارة البلديات عن هذا الموضوع؟ أصبحت تلك الإعلانات تزاحم المدى البصري للأفراد في السياقة والانتباه، وتحولت الشوارع إلى “دبوس” آخر ليتم تركيز هذه الماركة أو تلك الرسالة للفرد، وقليل ما هو مريح للبصر। وباتت الطرق سبيلاً آخر للتعدي على خصوصية الفرد في التحرك البصري الحر، بل تكالبت عليه تلك الصور واللافتات لتصغر من مداه البصري المريح।
وإن كانت تلك دلالة على التطور في السوق ودخول سوق إعلانات الطرق بقوة في إيصال الرسائل للفرد، إلا أنه ما زالت هناك العديد من الفرص والأفكار التي يمكن أن “يتفاعل” معها الفرد عوض أن “تزاحمه”. وتلك مهمة ثلاث جهات” الشركات المعلنة ووكالات الإعلان ووزارة البلديات”.الدبوس الثالث: القصاصات وهذا الدبوس آتٍ من رحم المجتمع نفسه।حيث بات البعض يضع إعلانات “الحملات الدينية” على الواجهة الأمامية للسيارة، وتوزع بالمئات إن لم تكن بالآلاف في مناسبات معينة “كصلاة الجمعة” أو الاحتفالات الدينية، ويتم وضع تلك القصاصات الإعلانية على السيارات دون إذن من أصحابها، وهذا تعدٍ على خصوصية لا يمكن إنكارها، و النتيجة مئات القصاصات تُرمى في الشارع।ويمكن وضع تلك القصاصات في مكان معين بحيث يمكن للفرد أخذها إذا أراد. فليضع أصحاب الحملات ذلك في عين الاعتبار، ومن أراد الترويج لحملته، فهناك أكثر من طريقة ليس من بينها وضع الإعلانات على السيارات دون إذن من أصحابها.
الدبوس الرابع:صناديق البريد وهذه التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، فدفع الشخص لرسوم سنوية أو نصف سنوية لاستئجار صندوق بريد، لا يعني أن يكون صندوقاً للترويج ووضع الإعلانات والعروض فيه. ولا أعتقد بوجود بند في الاستئجار يعطي الأحقية لمن أراد الترويج في وضع إعلاناته في صندوقي البريدي. تلك خصوصية لا يمكن التفاوض فيها وتأويلها على “المزاج”، فأين وزارة المواصلات عن ذلك؟ إلا إذا ظن القائمون على ذلك بأن صندوق البريد حاله كحال صندوق البريد الإلكتروني “الإيميل”، حيث يمكن إرسال الإعلانات إليه كما يشاء المعلنون!!
وهناك الكثير من “الدبابيس” التي لا يسعنا “وضعها”، إلا أنه من المهم هو منح الخصوصية الفردية حقها الطبيعي في ظل ظروف تصاعدية ترسمها التطورات العمرانية والتحديات التقنية، فضلاً عن “التصارع” في السوق والمنافسة الشديدة والتي أفضت إلى أساليب تتعدى على “الخصوصية الفردية” وكأنها تضرب “تحت الحزام” في الكثير من المجتمعات، وتغض الطرف عن مكون أساسي في المجتمعات الديمقراطية وهي (خصوصية الاتصالات، والتي تغطي في تطورها الراهن سرية وخصوصية المراسلات الإلكترونية والبريد الإلكتروني وغيرها من وسائل الاتصال والتحادث في البيئة الرقمية الى جانب ما تغطيه وفق مفهومها التقليدي من خصوصية كافة أنواع المراسلات والاتصالات العادية ، كالبريد والهاتف وغيرها ।( )٢(
يقول “آلان ويستن” مؤلف كتاب “الخصوصية والحرية” عام ١٩٦٧م بشأن خصوصية المعلومات بأنها تعني ” حق الافراد في تحديد متى وكيف والى أي مدى تصل المعلومات عنهم للآخرين”، ويقول “ميلر” مؤلف كتاب “الإعتداء على الخصوصية”، بشأن تعريفه خصوصية المعلومات بأنها “قدرة الأفراد على التحكم بدورة المعلومات التي تتعلق بهم”. وفضلاً عن كل تلك التعريفات، يبدو الأمر منطقياً عندما نتحدث عن الخصوصية وهي حق طبيعي للأفراد، فهل تستمر تلك الدبابيس في “الغرز” اليومي، حيث يتم استغلال المعلومات الخاصة للفرد للترويج واستهدافه أينما كان “الهاتف، صندوق البريد، السيارة، الطريق، المنزل”؟ أم أن الدائرة الشخصية الصغيرة والتي بدأت تتقلص شيئاً فشيئاً أصبحت بمثابة “منتجاً” يمكن بيعه لأطراف أخرى؟
مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
( ٢،١)
دور حماية الخصوصية في تشجيع الاندماج بالمجتمع الرقمي، المحامي يونس عرب. -
المبرمج وصاحب الذرة
جعفر حمزة*
التجارية ٢٠ أغسطس ٢٠٠٨م
كنتُ أفكر في طريقة أسهل لوصف عنوان منزلي للمطعم الذي طلبت منه العشاء في تلك الليلة، ولم يكن بالأمر العسير على المطعم। سألني المطعم “نريد رقم المنزل والطريق فقط لا غير”، فذكرت له العنوان، وتوقعت أن تصل الطلبية بعد وقت طويل، إلا أن المفاجئة هي أن الطلبية أتت في دقائق معدودات عند باب البيت। ودفعني فضولي لسؤال موصل الطلبية عن كيفية معرفته لعنوان المنزل بهذه السرعة دون وصف تفصيلي، والذي أقدمه كالعادة. فقال “سيارة الطلبية مركب فيها نظام الجي بي إس”.
ويمثل ذلك دلالة على تحرك سريع وملحوظ في العديد من الأعمال التي تنطوي تحت مسمى “المؤسسات الصغيرة والمتوسطة” “إس إم إي”، والتي تحاول أن تكون في موقع متقدم للزبائن، نتيجة اشتداد المنافسة وتوسع الأعمال وتداخل الفئات المستهدفة من المنتج أو الخدمة، وبالتالي لا يكون الحديث حول إمكانية فتح مشروع ما بقدر استمراره وتوسعه. وما ذكري لهذه الملاحظة إلا تلميح إلى تلك المشاريع الصغيرة والمتوسطة في مجتمعنا والتي “تنبت” من قلب المجتمع -حيث طلبت العشاء من مطعم محلي-। والذي يُعتبر وجودها أمراً ضرورياً، بل لا بد منه في خضم التوسع الاقتصادي والمنافسة في السوق، ونرى أهمية متصاعدة للتطرق إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودورها في رفد الاقتصاد الوطني بطاقة متجددة। وعند الخوض في هذا الموضوع لا بد من طرح الحقائق والتحديات، وخصوصاً في اقتصاد “فتي” يمتلك الكثير من المؤهلات للنهوض بنموذج متميز إن تعدّى الأمر سن القوانين إلى تنفيذها والانتقال من دائرة “التصريح” إلى دائرة “التفعيل”، والتي نعتقد أنه بالإمكان فعل ذلك بوجود إرادة سياسية وخطة اقتصادية وعمل جماعي.
فما هي المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟ تعتبر المؤسسة صغيرة إذا كان عدد العاملين فيها يتراوح بين 5-19 موظفاً، وتعتبر متوسطة إذا كان عدد العاملين فيها يتراوح بين 20-99 موظفاً[١]।
ويُعد العامل الرئيسي في تصنيف المؤسسات في حجمها هي أدوات كمية كعدد العاملين، وأصول المؤسسة وحجم المبيعات ، وذلك أمر واقعي نوعاً ما، بالرغم من تجاهل الأصول الكيفية المتمثلة في الملكية الفكرية (براءات الاختراع، التصميم الصناعي، الأسرار التجارية).ما الذي يجنيه المجتمع من وجود تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة؟
تواجد ذلك التنوع من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في أي مجتمع، يمثل “رئة صحية” للواقع الاقتصادي، فهي بمثابة الأشجار التي تنظف الجو وتمده بالأكسجين اللازم من أجل بيئة صحية معافاة।
فما الذي تقدمه تلك “الرئة” للواقع الاقتصادي للمجتمعات؟أولاً: مع تعدد تلكا لمؤسسات في شتى المجالات، تكبر مساحة الخيارات لدى المستهلك في الإنتقاء والاختيار من بينها، وتنجح المشاريع التي تفهم ما يريده المستهلك وتمازجه مع هامش الربح التي تنشده
।
ثانياً: تمثل تلك المؤسسات مرفداً عملياً و”ورشة عمل” لفئتين، هما أصحاب المؤهلات وغيرهم। وذلك عبر تطوير مهاراتهم واكتساب الخبرات، ومن ثم الانتقال إلى المستوى الاحترافي الأكبر في المؤسسات الكبيرة। أو البقاء في تلك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة والنمو فيها والتوسع مستقبلاً।ثالثاً: كلما زادت عدد تلك المشاريع والمؤسسات زادت مساحة المنافسة، وبالتالي يتم الرهان على الإبداع والابتكار في المشاريع لضمان التفوق في المنافسة، وهو ما يندرج تحت “الملكية الفكرية”، والتي تتضمن “براءات الاختراع، العلامات التجارية، التصميم الصناعي، حقوق المؤلف، الأسرار التجارية”
।
هل هناك ميزات معينة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في البحرين؟ عند الحديث عن تلك الموسسات، يجب الأخذ بعين الاعتبار “خصوصية” كل مجتمع “حاضن” لتلك المؤسسات، فما الميزات التي تتمتع بها تلك المؤسسات في المجتمع البحريني؟أولاً: نتيجة لصغر المساحة الجغرافية للبحرين، فهي تعتبر ميزة لخلق “شبكة اجتماعية” تمثل قاعدة معلومات للزبائن، وذلك عبر الأقارب والأصحاب والجيران والمعارف، واللذين بدورهم ينقلون “تجربتهم الخاصة” لتلك المؤسسات إلى الآخرين، وهكذا تتشعب العلاقات وتكبر نتيجة التجارب الشخصية المعتمدة على الشبكات الاجتماعية।
ثانياً: ميزة جغرافية أخرى تتمثل في إمكانية توسيع وتلبية الطلبات وتغطيتها।
ثالثاً: توافر التقنية يمثل ميزة إن تم استخدامها بالطريقة الصحيحة، فهي موجودة، لكن يبقى السؤال في استخدامها في تطوير العمل وتوسعته وبقاءه بقوة (كحال صاحب المطعم مع “جي بي إس”)।
رابعاً: ما يزيد من عدد المؤسسات هو تنامي الحركة الاقتصادية في البلد، ومن ضمنها العقارات والتي شكلت نوعاً من “الهَوَس” المبالغ فيه في هذه الجزيرة الصغيرة، وبالرغم من التحفظات الكثيرة على ذلك النوع من الحركة العمرانية ، إلا أنها شكلت مصدراً غنياً لتنامي عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في المجالات ذات العلاقة. فضلاً عن تزايد عدد السكان وزيادة حركة السياح. بالإضافة إلى تغير السلوكيات الشرائية للناس، حيث تشكل “حافزاً” للبدء بمشاريع صغيرة ومتوسطة تلبي وتُشبع رغبة تلك السلوكيات.
ومع وجود تلك الميزات، إلا أن التحديات ما زالت ماثلة أمام من “ينوي” أو “يعمل” أو “يطور” مشروعه। وما تلك التحديات بجديده في أي مجتمع في دولة نامية، ومع ذلك تمثل بعضها “خصوصية” للبحرين دون غيرها، فما هي التحديات التي “تقلّم” أجنحة تلك المؤسسات وتمنعها عن الطيران؟أولاً: قابلت الكثير من الأخوة والأخوات ممن لديهم الفكرة “الجهنمية” كما يقولون، للدلالة على الفكرة الناجحة والمميزة، حتى أن بعضهم قد درس السوق المنافسة وتعب على المشروع من ناحة نظرية على الورق، إلا أن العامل المادي “الميزانية” تقف ك”فزّاعة” تطرد كل طيور الأمل لدى صاحب الفكرة. ومن هنا ينبغي الوصول إلى حل عملي لهذه المشكلة، وذلك من خلال الاستفادة من المتوفر من خيارات والخروج بأقل الخسائر الممكنة. ويمثل بنك البحرين للتنمية وصندوق العمل خيارين جيدين، إلا أنهما وحيدين في الساحة، حيث يلزم توافر خيارات تمويلية أخرى من البنوك ليكون “مشروعاً وطنياً” يرفد أصحاب المشاريع بقروض تنافسية جيدة وواقعية. وستكون النتيجة النهائية لصالح الجميع دون استثناء من ضمنهم البنك الممول، حيث سيحصل بالإضافة إلى رأس المال المدفوع على هيئة قرض ميسر على زبائن جدد “الموظفين في المؤسسة التي تم تمويلها وتقديم القرض لها”.
ثانياً: قد يُسعف البعض بوجود رأس مال “محترم” ونية للبدء بمشروع صغير أو متوسط، إلا أن ما ينقصه ضمن مثلث المشروع (المال، الخطة، التطوير)، هو غياب الضلعين الآخرين (الخطة والتطوير)، وبالتالي ضياع الضلع الأول أيضاً (رأس المال)। وذلك الضعف في الاستراتيجية التسويقية والإدارية يجعل الكثير من المشاريع تأفل بسرعة.
ولعلاج هذا التحدي يلزم الاستفادة من الخبرات المحلية المتوفرة، فضلاً عن الخدمات التي يمكن أن تقدمها بعض الجهات (غرفة تجارة وصناعة البحرين، وزارة الصناعة والتجارة، بنك البحرين للتنمية، صندوق العمل)।ثالثاً: بما أن هناك العديد من المشاريع تنطلق من دائرة المجتمع الصغير “العائلة أو القرية” ، فإنها ترتبط بصورة كبيرة بالتشجيع أو التحبيط من تلك الدائرة। ويتم الحديث هنا عن العقل الجمعي للمحيط، ولا يمكن طرح حلول لها هنا، فهي نتاج تراكمات وتربية وعقلية يمارسها المجتمع ويتخذها سلوكاً له،، وتتحكم فيها الكثير من العوامل، وعلى الأقل يمكن التطرق إلى فهم المحيط ومتطلباته وتحويل التحبيط إلى عامل حفاز لنجاح المشروع
।
رابعاً: عدم الأخذ بالأدوات الجديدة في التسويق، فضلاً عن إغفال الجانب التقني في تسيير الأعمال مع وجود منافسة لن تبقي للمتخلف عن الركب الظفر بنسبة واحد في المئة من الربح في السوق.خامساً: غياب ثقافة الملكية الفكرية، والتي تحفظ مرتبة كل مشروع وتجعله متميزاً عن غيره، سواء من قبيل ابتكار أدوات جديدة في الخدمة أو ما يدخل ضمن حقوق الاختراع أو العلامات التجارية والابتكار। وضرورة معرفة جوانب الملكية الفكرية تطبيقاً واستفادة، وخصوصاً مع تزايد المنافسة، ودخول الشركات الأجنبية وخصوصاً الأمريكية على خط المنافسة، بعد اتفاقية التجارة الحرة “إف تي أيه”।
ويمكن توجيه السؤال هنا إلى وزارة الصناعة والتجارة والدور الذي تقوم بعه في توعية وإشراك أصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لإدراك أهمية الملكية الفكرية في تطوير وحفظ مشروعاتهم، خصوصاً مع وجود هذه الثقافة أو الأداة في يد كبريات الشركات المحلية، وتواجدها منذ البداية في استراتيجية الشركات الأجنبية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة على حد سواء।
فهل هناك وعي عملي ملموس بمثل هذه الحقوق والآليات لدى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ومن هو داخل في هذه المهمة؟
ومع كل الذي قلناه من مزايا وتحديات تبقى البيئة الاقتصادية البحرينية المحلية مهيأة لظهور مشاريع ناجحة، مع وجود حركة استثمارية عامة نشطة في البلاد، وتوسع في خدمات شبكات الإنترنت، والتي ستكوت رافداً مهماً وعصباً رئيسياً للكثير من تلك المؤسسات في المستقبل القريب جداً، فضلاً عن توافر التقنيات الحديثة في متناول اليد، والتي تجعلها “بذرة” جيدة للزراعة في سوق مكتظة، يمكن لبائع “الذرة” أن يجد له مكاناً يبيع فيه، كما يمكن لبائع البرمجيات أن يجد له زبائن أيضاً.
(١)
Information International 2001*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
-
صلاة “غوتشي”
جعفر حمزة*
التجارية ١٣ أغسطس ٢٠٠٨م
شدتنّي بالرسم الموضوع عليها، فكانت بيضاء وما زاد بياضها وشمٌ أسود، فلا عتب على الناظر إن تأمل فيها ونظر، وكانت من بين أخريات “عاديات”، فهي “المُلفتة” -على الأقل بالنسبة لي-، فاقتربت بُغية “التعرّف” عليها، فصافحتها بيدي، فكانت رقيقة وخفيفة، فطمعت أكثر، فنظرت إلى ذلك الرسم، وتعجبت، أنّى لها بذلك الرسم لماركة معروفة، وتضعه عليها وتُعلنه؟
قلبتُ تلك “الشيلات” الموجودة على الرف في سوق “شعبية” بالسالمية في الكويت، تراءى لي العديد من تلك “الموديلات”، بين “شيلات” و”حجاب” و”ثياب نسوية محتشمة”
، فما الرسالة من وراء ذلك؟ وهل “تلتفت” تلك الماركات العالمية إلى السوق المحلية، سواء المسلمة أو غيرها لتقدم “المنتج الثقافي المحلي” بعلامة جودة ماركة عالمية؟ وهل يمثل “التقرب” الذي تقوم به تلك الماركات خطوة سُتضيف لها الكثير في ميزانيتها التي تُعد بالملايين بل أكثر؟
غني عن القول أن الماركات العالمية لا تصل إلى صورتها الحالية، إلا بعد تثبيت مكانتها في العقول عبر تثبيتها البصري، والذي يصل في الأخير إلى مرحلة السلوك المندفع للشراء، والحصول على “الصورة المرتبطة بالماركة”، وما يتم دفعه للماركة هما عنصرين أساسين، قيمة المنتج وصورته المقدمة।
وعوداً إلى مكانة الماركات العالمية في المجتمعات المحلية ومكوناتها الثقافية المختلفة، فإن العنصر الثاني هو الذي يتحرك ليقدّم صورة “مقربّة” من المجتمع فيما يؤمن وفيما “يسلك”، وبالتالي يكون دخول الماركات العالمية بنكهات محلية شيء طبيعي، بل ومطلوب في كثير من الأحيان، وخصوصاً إذا تعلق الأمر بمجتمع له تمثيلات ثقافية متعددة. كالإلتزام بالحجاب -بصورة عامة، لا بالمعنى المحافظ- والبحث عن الطعام “الحلال”، وتلك السلوكيات في المجتمعات العربية والمسلمة يسري أمر الأخذ بها بطريقة مختلفة في مجتمعات مختلفة، فالمجتمع الذي لا يأكل اللحوم-على سبيل المثال- تكون ماركات الطعام النباتي خياره الأول، وبالتالي تكون فرص بقاء تلك الماركات وتميزها وحساب الأرباح أوفر حظاً من مثيلاتها من اللحوم أو المأكولات البحرية.
وبعبارة أخرى، فإن الماركات العالمية تبحث عن “حضور” في كل مجتمع يمكن لها أن تتحدث بلغته، لتكون قريبة منه، وبالتالي تتحول إلى جزء من حياتهم اليومية، والوصول إلى تلك المرحلة هو نجاح مستمر، ما دامت الناس تؤمن وتسلك ما تعتبره هوية كامنة فيه، ولا تنفك عنه।
والسؤال الأهم، هل هناك ماركات تبحث عن هوية المجتمعات و”تراعي” لها؟ ربما نعم، وربما لا، فهناك ماركات تبحث في أسواق المجتمعات ذات الطبيعة الثقافية المعينة، والتي -بشرط- تشكل سلوكياتهم الشرائية، فتدخل تلك الماركات لتحجز “مساحتها” عبر يافطات متعددة، منها:أولاً: المعروض مباشرة والذي لا “تلاعب فيه”، كأن يكون الطعام المقدم مذبوحاً وفق الشريعة الإسلامية، أي أن يكون “حلالاً”، وتنظر الكثير من سلاسل مطاعم الوجبات السريعة “فاست فود”إلى هذا الأمر بجدية وبخطة متكاملة في مراحل متقدمة، ليس في البلدان المسلمة فقط، بل في المجتمعات المسلمة في الغرب أيضاً. فهم قوة شرائية قبل كل شيء.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، قدّمت “ماكدونالد”الكثير من الأطعمة مع وجود كلمة الجذب “حلال” على منتجاتها والعديد من أطباقها في الدول العربية।
ثانياً: تتسع دائرة المظلة الثقافية، لتصل إلى “المذاق المحلي” عبر تقديم منتجات وأطعمة بنكهة عربية، كالذي فعلته “ماكدونالد” وبعض سلسلة المطاعم السريعة العالمية، بتقديم بعض منتجاتها بالخبز العربي مثلاً.ثالثاً: هي خطوة متقدمة عندما تقدم الماركة “نمطاً” ثقافياً جديداً يتواءم مع الشخصية المحلية للمجتمع। من خلال صياغة “كلام محكي” تستأثره لنفسها، أو من خلال صورة ثقافية محلية يتم تقديمها مع الصورة الأم للماركة. ولم نرَ ذلك الثقل لأي ماركة عالمية وصلت لهذا الحد إلى الآن في الوطن العربي.
وما ذكرناه آنفاً، يسري على تلك الماركات العالمية التي تريد حضوراً يومياً وتسعى إليه. وليست كل تلك الماركات تقدم “تمثيلاتها الثقافية المحلية” وهي تقصد ذلك، فهناك ماركات تظهر على الصور الثقافية المحلية دون أن تدري هي أصلاً، حيث يقوم طرف ثالث بـ”استغلال” قوة الماركة ويتم طرح بضائع باسمها في الأسواق، وما على البائع إلا انتظار “الانجذاب” الطبيعي لتلك الماركة متمثلة في “حجاب، شيلة، حقيبة، إلخ”.لقد رأيت الكثير من “الشيلات” التي تحتضن ماركات مشهورة في الحقائب “غوتشي”، بل ووصل الأمر إلى أن تتحول ماركة “كاديلاك” للسيارة الأمريكية إلى “موضة” في الكويت للفتيات، حيث بات موضوعاً على ثياب نسائية مختلفة، و”شيلات “وحقائب يدوية وغيرها، ليصل سعر إحدى قطع الثياب إلى ٤٥ ديناراً كويتياً فقط! وعند سؤالي للبائعة عن السبب في هذا “الاندفاع” إلى ماركة سيارات موجودة على مستلزمات نسائية، قالت وبثقة، لأن ” كاديلاك” معروفة بفخامتها واسمها، وتحب النساء أن يلبسن شيئاً يرمز إلى ذلك، فهو يعكس “مقامهم” وقبل كل شىء، فهي “موضة”، ولا يحتاج الأمر إلى سؤال أو تحليل.
ونرى أن هناك حركتين تُشكل حضور الماركات العالمية في الكثير من المجتمعات ذات الطابع الثقافي السلوكي عندها، كالمجتعمات العربية والمسلمة، وكل تلك المجتمعات ذات السلوك الثقافي المميز لها يومياً في هويتها من أقاصي شرق الصين مروراً بالهند وأفريقا وأوروبا وانتهاءً إلى مدن أمريكا اللاتينية. وتلكم الحركتين هما:
الأولى: من المجتمع إلى الماركة: متمثلاً في قوة الشراء الحاضرة في ذهن المستهلك، والنتيجة تقديم الماركة لنماذج تتناسب مع “مجموعات شرائية” لم يشملها الخطاب العام، لذا تقدم “دعوة خاصة” لتلك المجموعات عبر التحدث بلغتها، لتشملهم دائرة الاستهلاك، وتلك هي الطريقة الرأسية، فهي من الماركة إلى المجتمع مباشرة।
الثانية: من الماركة إلى المجتمع: حيث يبدأ “خطاب الود” بين الطرفين من الماركة عبر تقديمها لنماذج متعددة ومتنوعة ليقترب منها المجتمع، ومن بعدها تتوسع “اجتماعياً” أي بالطريقة الأفقية. وفي كلتا الحركتين، يكون مقياس النجاح ليس في انتهاء البضاعة من على الرفوف أو الصحون، إذ يكون الربح “مؤقتاً”، بل النجاح يكمن في بقاء صورة الماركة في ذهن المستهلك لينجذب إليها الآن وغداً وما بعد غد.
وذلك الأسلوب في الخطاب أي التحدث بلغة المخاطب ثقافة وصورة، هو مكمن سر العلامات التجارية المعولمة-كما يسميها “جوزيف س। ناي”وهو رئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع في إدارة “كلينتون”، حيث يذكر في كتابه “القوة الناعمة، وسيلة النجاح في السياسة الدولية”، بأن تغيرات السوق (ومن بينها ما ذكرناه بالأنماط الثقافية في المجتمعات) قد أنتجت تجزئة متزايدة للعلامات التجارة المعولمة للشركات الأمريكية. فقبل عقد من الزمن ومع سقوط الحواجز المعيقة للتجارة فإن العلامات التجارية ذاتالنطاق العالمي سوف تطرد العلامات المحلية. والواقع أنه عندما تقاطعت حالات القلق على الاستقلال الذاتي المحلي مع التقنيات التي تتيح تحقيق اقتصاديات ذات منتجات كبيرة وواسعة النطاق في تميزها وتخصصها، راح توحيد مقاييس العلامات التجارية يتعرّض للتحدي. فلشركة الكوكا كولا أكثر من ٢٠٠ علامة تجارية (كثيراً ما تكون غير مرتبطة مع الشركة الأم بشكل مكشوف)، بينما تغير “ماكدونالد” قوائم أطعمتها بحسب المناطق.واستجابات شبكة “إم تي في” ببرامج مختلفة للبلدان المختلفة.
وإن بدا من الأمر الحضور الفاعل والقوي للثقافة المحلية، إلا أن التعويل عليها لن تكون نتيجة ما نود قوله، فهي “عامل حفّاز” وفي بعض الأحيان هي “المادة الخام” وفي أحيان أخرى هي “كماليات”، لذا تقوم الماركات العالمية بضبط استراتيجيتها واستخدام كل الصور المتاحة بما يتناسب مع رفع علاقة الجذب بين الماركة والفرد. ونعتقد أن من الأمثلة الحية في استخدام الأنساق الثقافية المحلية وتوظيفها عبر تقديمها بمستويات احترافية هو الدمية “فلة”. وستستمر عملية الخطاب والتقديم للمجتمعات المختلفة ذات الهوية الثقافية السلوكية ما دام ذلك يشكل “تقرباً” من الفرد المستهلك ويحعله يمد يده لجيبه ويدفع ما يراه “مناسباً و”ملائماً” مع ثقافته في أكل وشرب وملبس، في الوقت ذاته الذي يكون جزءً من العالم في صوررته المعولمة. وهذا ما يبحث عنه الكثيرون، مسك العصا من النصف، الاحتفاظ بالهوية والظهور بالعالمية. فهل نرى الفورمولا ون على حجاب المرأة، أو “غوتشي” لغطاء الصلاة؟ ربما॥