الرئيسية

  • النبيان موسى ويوسف في شركة “دريم ووركس”



    قراءة في الرسوم الدينية
    النبيان موسى ويوسف في شركة “دريم ووركس”

    جعفر حمزة

    ” ما زالت التقنية الحديثة في الإنتاج الكرتوني للأفلام تقدم أكثر من مجرد صورة، فهي تحاكي المشاعر وتنسج الأحلام، بل وتصيغ التاريخ وتعرضه من جديد”. لم يكن الحديث فضلاً عن التنويه بالحقائق التاريخية الدينية في تاريخ السينما الأمريكية بالخصوص بأمر يمكن الدخول فيه بسهولة، فمن خلال أشواط متعددة في “الجرأة الدينية السينمائية” في الطرح مثلّت بيئة خصبة لكسر “الطوق الديني” الذي كان منسوجاً من قبل التزام كان جزء من البيئة الأمريكية في فترة من الزمن. واستعراض التاريخ الديني كان كلاسيكياً في كثير من الأحيان عبر السرد المستند على الكتب المقدسة أو الروايات الدينية، وفي قليل من الأحيان كان إبداعياً في طرح الصورة والفكرة، إلا ن القاعدة المشتركة لكل تلك الأفلام هو عرض المقدس من خلال دور السينما، وانتقلت مرحلة الأفلام الدينية لتدخل عصراً جديداً لم يكن معهوداً من قبل لا من ناحية التقنية ولا من ناحية السرد القصصي المحكم، والذي دخل إلى عالم الأطفال وتعداه إلى الكبار من خلال أفلام “الأنيميشن”، فهل هي مرحلة جديدة ترسم ملامحها بعض شركات الإنتاج السينمائي العملاقة لتكون “الأب الروحي” لصناعة جديدة من التاريخ والدين عبر الصورة الكرتونية؟ “أعمال الأحلام” هي الأيقونة التي بدأت في تأسيس فعلي لمفردات السينما الدينية الكرتونية – إن صح التعبير-، فشركة “دريم ووركس” التي تأسست في عام 1994 بتعاون كل من المخرج الشهير “ستيفين سبيلبيرغ”، “جيفري كاتزينبيرغ” و”ديفيد كيفن”، تعدت عملها كشركة لتصنيع الأفلام ومنها أفلام “الأنيميشن” لتكون منتجة لأفلام التلفزيون، والشبكات التلفزيونية في أمريكا، بالإضافة إلى الفيديو المنزلية الترفيهية.
    “أمير مصر” بين الحقائق التاريخية والميول الدينية:
    رسمت شركة”دريم ووركس” منهجها الكرتوني في المساحة الدينية من خلال إنتاج أول فيلم ديني كارتوني يتمتع بقوة إبداعية تأخذ بالأبصار نتيجة التركيبة الممتازة والاستخدام الأمثل للون والإضاءة والصوت والسيناريو، حيث يُعتبر فيلم “أمير مصر –برينس أوف إيجيبت ” وهو من إنتاج سنة 1998م تُحفة فنية تأخذ ببصرك وسمعك وكل أحاسيسك بغض النظر بكل ما تعتقد حول نبي الله موسى (عليه السلام)، حيث أن ما تشاهده هي الصورة التي امتلكت القوة لتكون حاضرة بين يديك، والقصة مُصاغة بطريقة ممتازة وحبكة أحداث لا تستطيع أن تدير وجهك عنها حتى تُنهي الفيلم بأكمله (مدة الفيلم 93 دقيقة)، ونحن شخصياً شاهدناه أكثر من خمس إلى ست مرات لما فيه من إبداع لا يسعك إلا النظر إليه، وهناك الكثير مما ورد في القرآن الكريم فيما يخص المعجزات التي أجراها الله تعالى على يد نبيه موسى (عليه السلام) من الضفادع والقمل والدم والجراد والجفاف فضلاً عن انقلاب العصا إلى ثعبان عظيم وانشقاق البحر وهو أقوى المشاهد التي يقف معها شعر الإنسان. (تحكي قصة فيلم “أمير مصر” على إظهار سيدنا موسى كداعية للحرية لشعب بني إسرائيل ضد استغلال واضطهاد المصريين القدماء الذين هم “نازيو القرون الماضية”!. والفيلم يبدو في مظهره بريئًا، ولكنه مخادع أشد الخداع، بما يبثه في وعي المشاهد، من خلال الإبهار البصري اللوني والضوئي والسمعي الموسيقي والمرئي والحوار من خلال التشكيل الفني للحركة، واستخدام الشخصيات الكرتونية التي تضفي البراءة على الشخصيات الإسرائيلية، واستخدام الخطوط الحادة المقوَّسة، التي تبرز ملامح القسوة والعنف على الشخصيات المصرية!)، وهذه المقولة تعني بعبارة اخرى تزوير لحقائق تاريخية قدمها الفيلم بدون أدنى دليل، يقول الأستاذ عبد الحليم نور الدين الأمين العام الأسبق للمجلس الأعلى للآثار وعميد كلية الآثار جامعة القاهرة فرع الفيوم في كتابه “آثار وحضارة مصر القديمة”: ( أن السينما الأمريكية قد اسهمت بدور كبير في الافتراء على التاريخ المصري ضارباً المثل بالفيلم الذي دعمه “ستيفن سبيلبيرغ” (أمير مصر). ويقول نور الدين: ( إن كل من شاهد الفيلم الكرتوني “أمير من مصر” للمخرجين برندا شابمان، ستيف هكنر وسيمون ويلس، يعتقد أن المصريين كانوا يدبرون مؤامرة لبني إسرائيل، حيث حرص الفيلم على تصوير جداريات وهمية تسجل قتل أبناء اليهود، وهذا افتراء واضح فلا توجد لوحة أو بردية أو رسم يشير إلى ذلك إلا في خيال المخرج”.
    “ستيفن سبيلبيرغ” رسول يحمل الكاميرا
    ( وُلد ابني يحمل الكاميرا بيد والتوراة باليد الأخرى) تلك مقولة منسوبة لوالدة المخرج الأمريكي الشهير “ستيفن سبيلبيرغ” وهو أشهر من نار على علم، حيث أُشتهر بأفلامه الضخمة المتنوعة والإنسانية، منها فيلم “الفك المفترس” و “الحديقة الجوراسية” و”التيرمنال” وآخر أفلامه هي “حرب العالم”، ما يضع الكثير من علامات الاستفهام التي تتبدد عندما نقترب من الرؤية السينمائية الخاصة لهذا المخرج حول بعض القضايا الحساسة، ومنها القضية الصهيونية، وتعاطفه الملموس مع مدعيات المحرقة النازية لليهود، وذلك عبر إخراجه لفيلم “قائمة شليندر” التي تدور أحداث الفيلم حول تلك المدعيات، وترسم هذه التوجهات الرؤية العامة التي تنسج الحركة المميزة لسلوكه السينمائي في الإخراج. كان “سبيلبيرغ” من المؤسسين الأوائل لشركة “دريم ووركس” التي انتهجت سلوكاً تقنياً ميّزها عن غيرها، فهي من الشركات التي عملت وطورت تقنية (كمبيوتر جينيريتد- سي جي)، ويبدو أن ثنائية التقنية الحديثة والإبداع الإخراجي كانتا الذراعين التي مكنتا “سبيلبيرغ” في تقديم “رؤيته التوراتية” الخاصة بأسلوب “الأنيميشن” الذي لم توظفه بقية شركات الإنتاج الأمريكية كمثل الذي عملته “دريم ووركس”. ويبدو أن المقولة المنسوبة إلى والدة المخرج لن تكن اعتباطاً او لغواً، حيث تثبت تجربة هذا المخرج المخضرم صحة الرأي القائل بأن “سبيلبيرغ” ما كان إلا رسولاً يحمل كاميرته بين يديه، في إشارة إلى التوجه الفكري الديني في بعض أفلامه، فهل تتكرر نسخ “سبيلبيرغ” عبر الرسوم المتحركة كمنفذ أولي لسبيل بات خصباً لتقديم الحقائق التاريخية أو تحريفها!
    يوسف ملك الأحلام!
    إحدى الروائع التاريخية الدينية التي أنتجتها شركة “دريم ووركس”، تحكي قصة الفيلم الكارتوني قصة صبي امتلك موهبة رؤية المستقبل في منامه، وبسبب تفضيل والده له دون أحد عشر أخاً مما كان سبباً لأخوته بأن يتخلصوا منه ويدعوا بأن الذئب قد أكله، وتتوالى الأحداث لتوصل يوسف إلى مُلك مصر بعد أن قام بتأويل ما رآه الملك في منامه، وأنقذ شعب مصر من المجاعة.
    يتميز الفيلم بالبراعة اللونية في الإخراج، والتركيب المكاني الجميل بالإضافة إلى الاستعانة بالغناء كعنصر جذاب للأطفال، يقول المحلل السينمائي “ستيفين د.جريدانيوس” بشأن المقارنة بين فيلمي “أمير مصر” و” يوسف، ملك الأحلام”، بأن فيلم “أمير مصر” أكثر من مجرد فيلم كارتوني للأطفال، بل أنه يخاطب الكبار أيضاً، سواء من ناحية الشخصيات أو السرد القصصي.
    الكتاب المقدس بعيون كرتونية
    بالرغم من انقطاع التواصل الديني الكرتوني بعد تجربتي “أمير مصر” 1998 و “يوسف، ملك الأحلام” 2000، فإن تسليط الضوء على ما هو شرقي لم ينقطع من خلال إنتاج أفلام تتناول التاريخ العربي “سندباد” 2003، ونعتقد أن الحصيلة الدينية بصورة كرتونية ستكون على موعد معنا في قصص قد تلامس الخطوط الحمر لبعض الأديان والتاريخ لبعض لشعوب التي لم تسلم من تزوير تاريخها من قبل “هوليوود” فلا أقل من المساس بذلك التاريخ وإن كان دينياً بصورة كرتونية.

  • فراشة «شريعتي» النبيهة..

    فراشة «شريعتي» النبيهة..
    جعفر حمزة:
    ست سنوات ‘’سِمان’’ كان بمقدروها أن تفكك جزءاً لا بأس به من الرموز ‘’المقدسة’’ التي تشربتها وترعرعت عليها ‘’فكراً’’ و’’سلوكاً’’ في مجتمع ديني محافظ، ست سنوات كانت مفاتيح ‘’شريعتي’’ تتوالى عليّ تباعاً لأفتح باباً تلو باب، وهي ليست أبواب عجائب لـ’’أليس في بلاد العجائب’’، ولا أبواب ضياع وتشتت لـ’’نيو’’ في المصفوفة ‘’The Matrix’’، بل أبواب لفك الشيفرات ‘’المُبهمة’’، والتي يصعب الوصول إليها من مداخل طبيعية. فتح هذه الأبواب يتيح لي أن أقرأ ما يحيط بي قراءة بسيطة لا تعقيد فيها ولا ‘’تهويل’’، قراءة ‘’اقرأ’’ فقط. من ‘’سِمان’’ تلك السنوات بدأت قصتي مع شريعتي.
    بين خيار اللمس والفتح!
    كانت البداية في الفصول الأولى من دخولي جامعة البحرين، حيث العالم الجديد والمهمة الصعبة. كان السيناريو الطبيعي بالنسبة لي كطالب جامعي، هو التحصيل الأكاديمي فقط، لم يخطر ببالي أن الأنشطة الدينية والاجتماعية التي تمرنت عليها في قريتي المالكية، ستدخل معي إلى الجامعة، تلك التي يحك جلدها حساسية دائماً لدى سماعها ‘’أنشطة طلابية’’ خارجة عن فلك قبلتها ‘’الروتينية’’ التي لا شريك لها.
    لم يلقَ السيناريو الذي وضعته بداية، صدىً في نفسي، إذ كان المخرج هو غيري ‘’عرفت الله بفسخ العزائم’’ .( ثمة كتيب خجول استلمته من صديقي ‘’علي شمس’’، كان بداية لتبدل الحوار والأدوار ومواقع التصوير، في سيناريو الطالب الجامعي عندي.
    تغيير عقلية طلاب الجامعة، كانت المقدمة التي أعارني بها ‘’علي شمس’’ ذلك الكتيب. لم أدرك حينها أن الوريقات الصغيرة التي يضمها عنوان ملفت ‘’النباهة والاستحمار’’ كان المفتاح الأول للبحث عن المفاتيح الأخرى، للغوص عميقاً في الإنسان، والإنسان الشيعي بالخصوص لما لديه من قدرات فكرية غنية تحتاج تفعيلها بصورة أكبر.
    ففي كل معتقد سواء كان سماوياً أو أرضياً صحيحاً أو خاطئاً معتقدات وأفكار تضعك في حجرة قد تكون واسعة وقد تكون ضيقة، إلا أن المشترك بينهما هي أن الحجرة لديها أكثر من باب وعلى كل باب ‘’معتقد’’ أو ‘’مقدس’’ أو ‘’ثقافة’’ أو ‘’عُرف’’، ولا يمكنك سوى العيش داخل تلك الحجرة بوجود أبواب لا مفاتيح لها، ما عليك إلا العيش داخلها وكفى.
    تلك كانت العقلية ‘’الجامدة’’ لدى الأمم، والتي أرسل لها الله أنبياءه ليخرجوهم من تلك الحجرة إلى فضاء أوسع ‘’ليخرجهم من الظلمات إلى النور’’.
    كان الأنبياء وأوصياؤهم يرشدون الناس إلى المفاتيح الصحيحة ليخرجوهم من عتمة المكان الواحد، إلى ضياء الفضاء. أي ضياء ما وراء الأبواب المغلقة.
    وتأتي مهمة ناقصي الفهم والمندسين وحكام السلاطين والمثاقلين إلى الأرض ليعطلو عمل تلك المفاتيح من خلال ‘’التلاعب’’ في شفراتها في حياة الأنبياء وبعدها.
    لقد كان ‘’النباهة والاستحمار’’ المفتاح الأول الذي لم أدرك معناه جيداً، إلا أنه أشعل فيّ البحث عن المفاتيح الأخرى، فكانت بداية التغيير. لم يكن التغيير في أحلام اليقظة أو عبر أفكار ترسمها الكلمات أو عبر مقال هنا أو خاطرة هناك. بل عملت هذه البداية مع الصديق ‘’علي شمس’’، على غرس أرضية للتغيير انطلاقاً من العمل داخل الجمعيات الطلابية في الجامعة. فكانت صولاتنا عبر شتى القنوات التي استمرت حتى بعد تخرج ‘’علي’’ من الجامعة، فما دام المفتاح معك، فليس من الهم أن يكون معك ألف شخص أو بمفردك، لأن الهدف هو فتح الباب.
    عرفتُ كتب’’علي شريعتي’’ من ‘’علي’’، وعرفت ‘’شريعتي’’ من زوايا الضعف التي انتابتني، وعرفته من خلال سلوكيات اجتماعية وعرفية دفعتني أكثر لأعرف من هو ‘’شريعتي’’، الذي زجرني أحد الاخوة في بدايات قرائتي لكتبه، باعتبارها كتب ‘’ضلال’’، ولم أدرك ما وراء الكلمة من دوافع ومبررات، وقد يرددها البعض إلى حد الآن، فلا أدري إن كان الفكر الذي يزيح الطبقات العرفية للدين، ويجعلك تنظر له بلا حواشي ‘’التبرك البارد’’، وبلا صور ‘’المقدسات الساكنة’’ (كصور لا فكر)، لا أدري هل هو ‘’ضلال’’ لأنه يقدم لك الدين من دون ‘’المكسرات المُحلاة’’ الاجتماعية و’’المقبلات الحامضة’’ العرفية، و’’المياه الغازية’’ السلوكية؟!
    لقد كنتُ بين خياري الفاجعة والفلاح(1)، فاجعة البقاء داخل الأبواب الموصدة والتقديس والتمجيد لكل باب من دون فتحه أو حتى طرقه، وبين فلاح البحث عن المفاتيح وفتح كل باب باسم الله والتوكل عليه لمعرفته، ‘’أول الدين معرفته’’.
    وهي ‘’مسؤولية المثقف’’ التي كنت أضعها في السيارة لزمن(2). يتضاعف شعورك بالمسؤولية ويتحتم عليك الإقدام حتى لو كنت بين فكي الاستهزاء العرفي والاقتراب النَسَبي، كالنبي نوح (عليه السلام)، فبين استهزاء قومه واقتراب ابنه نَسَباَ، رغم السنين الطوال التي قضاها داعياً صباحاً مساءً، خرج ‘’راكباً’’ سفينة المسؤولية المطلقة التي أبعدته تحت نظر الإله عن كل تلك الهموم والتحديات لتبدأ قصة جديدة وحياة جديدة. المثقف أيضاً محصور بين غضبين، غضب العُرف الذي يتصور أن القيام بفتح تلك الأبواب يُسقط قدسية الصورة المعلقة عليها، وبالتالي تنهار ‘’المرجعية الفكرية المقدسة’’، وبين غضب السلطة التي تسمح لك بالحديث عن كل شيء من الله إلى الذرة، ما عدا الحديث تصريحاً أو تلميحاً عن ‘’ألوهيتها’’، فهي لا تُسأل عما تفعل وتسأل عما نفعل، وهي ضد فتح الأبواب أيضاً، فما وراءها قوة لا تستطيع التعامل معها، هل رأيت كيف يجتمع الغضبان، ونتصور أنهما نقيضان؟؟
    الفراشة والعثة
    كان ذلك تحليقاً بين يدي كتاب ‘’الإنسان والإسلام’’، عبر كتاب ‘’مسؤولية المثقف’’، الذي يرفع يده بـ’’الدعاء’’ ليعرف كيف يكون مثل ‘’الحُر’’، الذي نطق عملاً بأن ‘’التشيع مسؤولية’’، ولكي لا نضع ‘’الإمام علي في محنه الثلاث’’ من جديد(3).
    قد تختلط على المرء الكثير من الأمور والتي يدخلها المقدس أو يتم إقحامه إقحاماً للتقريب من هذا أو الابتعاد عن ذاك، ويبقى السؤال كيف السبيل لفك شفرة الإنسانية المطلقة والتي يمثلها الإسلام بأجلى صوره. هذا ما قدّمه كتاب ‘’التشيع العلوي’’ بأسلوب عملي، يملأ الفراغات العملية والروحية، التي يستمدها من روح الإسلام المحمدي الأصيل(4)؟
    هل اختلط عليك يوماً الفرق بين الفراشة والعثّة؟ كل منهما له خصائصه التي ‘’تميزه’’ وبالتالي لا مجال للخلط. الأمر سيان في مسألة الخشية من ‘’الخلط’’ بين المقدس الجامد القاتل والمقدس المحرك الفاعل. الفراشة تتحرك نحو الأزهار وتمتص رحيقها، فضلاً عن أنها تستمر في ذلك مرفرفة ناشرة جناحيها لوناً وشكلاً وشاعرية، في حين ‘’تندفع’’ العثة بـ’’جنون’’ نحو ضوء المصباح ‘’النور المطلق’’ لها، و’’تتدافع’’ ويضرب بعضها بعضاً لتسقط في النهاية ميتة بالقرب من ‘’معشوقها’’ القاتل. قد يكون ذلك ‘’مبلغ سعادتها’’ ولا يهمها ما نحلل ونكتب عنها.
    شريعتي يحاول أن يجعل من المسلم فراشة لا عثة. فراشة تمتحن رحيق النص، لا عثة يحرقها ضوؤه.
    لقد حاول شريعتي عبر كتبه أن يقدم للقارئ مسيرة الفراشة التي ‘’تنتقي’’ الزهرة المناسبة، بدلاً من ‘’اندفاع’’ العثّة نحو ‘’ضوء’’ حتفها المحتوم.
    مسبّق العثة وفضاء الفراشة
    اقترابي وبعض الاخوة في قريتي من المساحات ‘’المحظورة’’، والمتمثلة في مساءلة بعض العادات والأعراف المتسمة بالدين لباساً، تلك التي لا ينبغي السؤال عنها، فضلاً عن ماهيتها، لم يكن مرحباً به. وأنّى يكون لتلك ‘’الجرأة’’ المتسائلة من ترحيب، وهي الدخول في ‘’المحرم’’، ويكفي من كل ذلك أنه ‘’هذا ما وجدنا عليه آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون’’.
    الكثيرون اعتبروها ‘’مراهقة فكرية’’، وكأن تلك المراهقة مرض أو نقص طبيعي، أو بعبارة أخرى ‘’جنون شبابي’’ ولا يمكن أن يُعار أهمية. لكنهم لم يدركوا أن ذلك الجنون الشبابي، هو أصل البحث عن الله والدين. ألم يكن حديث الأنبياء مع قومهم عبر تقديم الأسئلة البديهية من دون ‘’مقدسات’’ مسبقة من الطرفين، ‘’وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين’’؟
    قدّم شريعتي من خلال ‘’بديهياته’’ المتمثلة في كتبه ‘’ألف باء’’ معنى الإنسان والإسلام، ودخل في زوايا الكثير من ‘’المقدسات’’ ليستخرج منها حركة تغييرية بدل تلك الزوائد العرفية (لا المعرفية) التي تحولت إلى دين جديد.
    ينزعج شريعتي كثيراً من المسبقات الذهنية التي تحول بين الكثيرين، أن يكونوا فراشة تمتص رحيق الأزهار. يتحدث عن شعبه الإيراني قائلاً (ليته لم تكن هناك صورة مسبقة عن الحسين، عن محمد، عن القرآن، عن الإسلام، وأن شعبنا لم يكن له أي تصور ذهني عن الدين، عن الأدب الفارسي، عن التصوف والعرفان، والتاريخ، عن الفلاسفة والحكماء، وعن فنوننا؛ حتى نتكمن – أنا وأمثالي- المثقفين في هذا العصر، من أن نعرّف جيلنا بهؤلاء الأناس الجدد، الإمام الحسين، أبي ذر، … لا أدري … ملا صدرا المفكر العظيم، الإمام محمد الغزالي، وفي مثل هذه الصورة فلن يحدث تداع في الذهن للصورة الخرافية الموهومة المنحطة، وعندها فإن الأذهان ستصغي إلى الكلام بصورة منطقية، من دون أن تكون هنالك سابقة ذهنية منحرفة ومنحطة.)
    مفهوم شريعتي للمسبق الذهني الذي يحول بين الإنسان وانفتاحه على الأفكار الأخرى والمعتقدات، نسج لي ‘’سجادة’’ بحياكة إيرانية متقنة وبروح إنسانية مطلقة، لأكون في لوحة الله التي خلقها من دون خَلقِ خَلقِه، فبسطت جناحيّ كفراشة تبحث عن رحيق من زهرة إلى أخرى، دون السؤال عن نسب هذه الزهرة ودين تلك!. وإلا لن تعيش الفراشة وستكون علاقتها بالزهرة ‘’مؤدلجة’’ بوجود ذهنية مسبقة، ما حاول ‘’شريعتي’’ تقديمه للناس وكان له كبير الأثر في قراءاتي وتفكيري، هي محاولة إعادة الفراشة إلى طبيعتها، وكانت دعوة الأنبياء لقومهم بالرجوع إلى فطرتهم ‘’صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة’’، أصبحت أفكار العالمين زهوراً وأصبح تحليق الفراشة مفتوحاً، لم ‘’تكره’’ الفراشة أو ‘’تحقد’’ على هذه الزهرة أو تلك، فهي تأخذ الرحيق أينما حلّت، بعكس ‘’العثّة’’ التي ‘’احترقت’’ بضيق رؤيتها، وماتت تحت ظل أو ضوء معتقدها الذي لامجال للحوار أو النقاش فيه، فالمصباح هو الحب المطلق لا سواه، وما عداه سراب.
    لقد تمثلّت الفراشة في نمط القراءة التي اتبعه، عبر النافذة التي فتحها لي شريعتي، فكانت لي الزهور ورحيقها، عوضاً عن المصابيح وحرقة ضوئها.
    من الصعب أن تفكك الفكر وتعيد بناء مفرداته الأولى عبر قناعة جديدة، إذا كان الفكر مبنياً منذ سنين وبنت عليه أمور أخرى أيضاً.
    ما يقدمه شريعتي – مع اختلاف الكثيرين معه – هو محاولة التفكير الأولي للكثير من العناوين التي يرفعها المجتمع إيماناً وممارسة، وبالتالي وجود فرصة لإعادة التفكير يحرك المواقع الجامدة في المجتمع لتتم الاستفادة القصوى من تلك العناوين الموضوعة في ‘’ثلاجة’’ الُعرف تارة والفهم الناقص للدين تارة أخرى.
    جرأة أبي ذر وخشبة الخزاعي
    لم يكن قول البعض لي أو ‘’نصيحتهم’’ بالتقليل من قراءة شريعتي آتية من فراغ، فشريعتي عاصر فترة حبلى بالتغيرات السياسية والإيدلوجية، عبر تزاحم الكثير من الأفكار التي أرادت أن تثبت نفسها وتستقوي باتباعها، فمن الشيوعية إلى الماركسية، وردود الفعل التي حاولت أن تثبت أنها البديل الأمثل عبر القومية تارة والإسلامية تارة أخرى.
    وكانت تلك الأمواج المتلاطمة تحجب رؤية الشاطئ بكامله، مما جعل ‘’التدافع’’ في الأفكار أمراً واقعاً لا بين خط المتدينين بالمعنى العام وخط المبتعدين والمقدمين لمنهج آخر غير الدين، بل كان الصراع بين اتباع كل خط على حدة، وبالتالي كانت الصورة المتوقعة نوعاً ما هو تجاذب بين شريعتي والمفكرين الإسلاميين الآخرين، إلا أن ما يتفق عليه الكثيرون أن شريعتي كان كأبي ذر، لم يتوانَ عن فضح مكائد النظام الشاهنشاهي ومقارعته، ليكون ‘’مشرداً’’ من مدينة إلى أخرى ومن جامعة إلى مدرسة، ومن دولة إلى أخرى، لينتهي به المطاف مسموماً بمسكنه في لندن.
    كان لسان حاله مثل الشاعر دعبل الخزاعي، حين قال : (أنا أحمل خشبتي على ظهري منذ خمسين سنة، فلا أجد من يصلبني عليها).
    لقد حمل كلمته ‘’الخشبة’’ عبر مؤلفاته ومحاضراته التي اجتذبت آلافاً من الطلبة المتعطشين لنور الإسلام الحركي، الإسلام الذي يبتعد عن تقديسيين، تقديس السلطة وتقديس رجال الدين، فكان نصيبه من الأولى الملاحقة والسجن والقتل، ونصيبه من الثانية التشويه والاتهام بالزندقة.
    كانت جرأته كأبي ذر، بسيطاً مباشراً وقوياً وسلساً، وكانت تلك كلماته ‘’كتبه’’ التي جذبت الكثير من الشباب وأنا واحد منهم، يريد أن نفتح صندوق الإسلام ونستخرج كنوزه بدلاً من التغزل ودراسة شكل الصندوق وزخرفته.
    لا ينكر أحد دوره في تثقيف الشباب الإيراني خصوصاً أيام الشاه، ليبقى معلماً وطبيباً يدور بطبه بين الناس، يقول الإمام الخميني في حقه : ( لقد أثارت أفكار شريعتي -الشهيد- الخلاف والجدل أحياناً بين العلماء لكنه في الوقت نفسه لعب دوراً كبيراً في هداية الشباب والمتعلمين إلى الإسلام).
    ويبين السيد محمود الطالقاني ‘’الحمض النووي’’ الذي اعتمد عليه شريعتي بالقول: (أرجو منكم أن تدرسوا مؤلفاته وأفكاره وأن تطوروا موضوعاتها. ناضلوا وسيروا على الدرب الذي انتهجه شريعتي من أجل تشخيص ومعرفة الإسلام الذي نريد، إسلام الثورة الإجتماعية، لا إسلام تقليدي وذاتي.. فهذا ما كنا ننتمي إليه دوما دون جدوى).
    مازالت كتب ‘’الشهيد’’ بانتظاري لقراءتها لتحصيل مفاتيح الأبواب الأخرى، وما زال فكره كالفراشة حتى وإن كان عمرها قصيراً، فاسمها لا يُمحى من اللغة!.

    الهوامش
    (1) مقتبس من كتاب شريعتي’’الحر، إنسان بين خيار الفاجعة والفلاح’’.
    (2) أقصد وضعي لكتاب شريعتي ‘’مسؤولية المثقف’’ في سيارتي لفترة.
    (3) الأسماء بين علامتي تنصيص هي بعض كتب الدكتور شريعتي، والتي قرأها الكاتب.
    (4) هناك إسلام أموي وعباسي وعثماني وصفوي.
    (5) نسبة إلى كونها أولية غير مركبة.
  • كانتونات إلكترونية

    :: التقنية كإيديولوجيا، أم الإيديولوجيا كتقنية؟
    الجمعة, 15 يونيو, 2007

    دخلت الآلة التقنية (الكمبيوتر والانترنت) المجتمع البحريني منذ العقد التسعيني. سبقت المؤسسات الأهلية المؤسسات الرسمية في استخدامها. تلقفها الشباب ونشط فيها الصبية الصغار قبل أن تدخل بوابات المدارس الحكومية. برعت الجهات الشعبية في استخدامها بشكل فاق الجهات الرسمية وتجاوزها. على خلاف المتوقع، كانت القرى سباقة على المدن في استخدام الانترنت. ساعدها على ذلك تلاصق البيوت وسهولة وصلها بشبكة واحدة لتوفير كلفتها. “في كرانة شيئان من المدينة: حب التقنية الجديدة، واهتمام غير عادي بكلّ ما هو جديد في مجال التواصل. فلما جاء الكمبيوتر الشخصي، وخدمات الانترنت تحوّلت القرية إلى شبكة عنكبوت لا يعرف أحد كيفية تداخلك أسلاك هذه الشبكة. أربعون بيتاً تديرها شبكة إلكترونية واحدة. صارت الشبكات الآن تضم بيوتاً أكثر لكنها من دون أسلاك”. [1]

    نشطت الحركة الالكترونية في نهاية التسعينات، وصارت جهازاً إعلامياً شعبياً ينافس الجهاز الرسمي، كلما نشط الجهاز الاعلامي الرسمي في ممارسة لعبة الخفاء، نشط الجهاز الشعبي (التقني) في ممارسة لعبة الفضح والكشف. وكلما أظهر الجهاز الاعلامي الرسمي صورة معينة للواقع البحريني، تفنن الجهاز التقني الشعبي في إظهار الوجه الآخر من الصورة إن لم يكن أظهار عكسها تماماً.

    مع الانفراج السياسي في البحرين عام 2001، برز عدداً من المجموعات الحوارية، والمنتديات الالكترونية، ثم المواقع الخاصة بالجمعيات الدينية والسياسية التي بدأت في التشكل. قرى البحرين شهدت ثورة فيما يعرف بالملتقيات والمنتديات الخاصة، صار لكل قرية ملتقاها الخاص: ملتقى كرانة، ملتقى جد الحاج، منتدى الدير، منتدى شبكة دار جليب، منتدى النويدرات، منتديات المالكية، منتدى قرية شهركان، منتدى قرية أبو قوة، منتدى قرية بوري، ملتقى عراد الثقافي، منتديات جرداب، منتديات السنابس..الخ. الملتقى وسيلة القرية للتواصل الداخلي “في القرى البحرينية كانت الناس تستعلم الأحداث عن طريق الإعلان في مسجد القرية أو مأتمها، الآن صارت المسجات الهاتفية والايميلات والملتقيات هي وسيلة نقل الأخبار وذياعها” جعفر حمزة.

    § وجه القرية

    من جهة أخرى يعمل الملتقى على تعريف المجتمع بالقرية التي غالباً ما تكون مهملة من قبل أجهزة الاعلام الرسمية، وابراز وجهها الغائب للخارج. في هذه الملتقيات والمنتديات، يجري عرض أخبار القرية وأنشطتها وفعالياتها التي غالباً ما ترتبط بمناسبات دينية واجتماعية، في المواسم الدينية الخاصة مثل عاشوراء، وشهر رمضان، يجري نشر البرامج المعدة لهذه المناسبات مسبقاً، كما تقوم بعض المنتديات بتحميل بعض هذه الفعاليات وتغطيتها بشكل موجز أو مسهب حسب أهميتها بالنسبة للقائمين على الموقع أو لأهل القرية والمشتركين.

    كان موقع “قرآن نت”، أول موقع الكتروني بدأ البث المباشر للفعاليات الدينية في المناسبات المختلفة، يسجل الموقع عدداً هائلاً من الزيارات في المناسبات الدينية، خلال أحد المواسم العاشورائية أشار مديره إلى أن “الموقع أستقطب أكبر عدد من زوار البث المباشر على الإنترنت، حيث ذكرت احصائيات الموقع أن اكبر عدد للزوار في ثانية واحدة بلغ 175 ألف متابع للبث المباشر، مما حدا بأصحاب الموقع إلى مضاعفة قدرات الموقع الإستيعابية” [3]

    تسجل الجماعات الدينية حضوراً أكبر على الشبكة العنكبوتية، وتبدي في هذا الحضور، مهارة شعبية تفوق مهارة الدولة في كثير من الأحيان، يعود ذلك لمهارة الصبية والشباب وتمكنهم من استخدام التقنية وتشغيلها، ومعرفتهم بمهارات استخدامها وتوظيفها، الكثير من التقنيات الحديثة تلقفتها المؤسسات الشعبية وطورتها قبل أن تدخل المؤسسات الاعلامية الرسمية.

    § التقنية كإيدلوجيا

    في كتابه “الانسان ذو البعد الواحد” الصادر عام 1964، يحذر ماركوز من خطر التقنية التي تسير باتجاه إخضاع الانسان والسيطرة عليه. توسع التقنية أسباب الراحة أمام الحياة، كما تسرِّع من انتاجية العمل وتحسنه. تتحدى التقنية الإنسان، وتبرهن استحالة أن يعيش مستقلاً أو منفرداً أو معزولاً عنها، تتغير الطبيعة الإنسانية والحياتية. تصير التقنية ضرورة من ضروراتها. لا يستغني الإنسان عن العيش بدونها. لذلك فهي تسيطر عليه وتخضعه لها. يسميه ماركوز بالاخضاع المكثف. إنه الخضوع للآلة ولأسياد الآلة المتحكمين بها. في هذا الـ(لا إستغناء)، تغيب حرية الفرد ويصير الخضوع واللاحرية أمراً مشرعاً. يؤكد هابرماس ذلك في كتابه “العلم والتقنية كإيدلوجيا”، ويرى أن العلم والتقنية صارا يشكلان (إيديولوجيا) جديدة، بمعنى أنهما تخضعان الإنسان وتسيطران عليه، وتجعلانه عاجزاً عن ممارسة نقده لسلطتهما، أو إعمال فكره في التحرر من هيمنتهما. في حين أنه لا يمكن التفكير في التحرير دون تثوير كل من العلم والتقنية ذاتهما.

    لكن كيف يجري هذا الأمر في الحالة البحرينية؟

    تمكنت الآلة التقنية من اخضاع المجتمع الديني اقتصادياً. أصبح يعتمد عليها بشكل أساس، لا يمكنه الاستغناء عنها، دخلت الآلة التقنية الجمعيات الدينية والحوزات الدينية والبيئات الدينية والبيوتات الأكثر تشدداً، لكن هل تمكنت هذه الآلة من اخضاع المجتمع الديني ثقافياً ومعرفياً؟ كيف تعاطى المجتمع الديني مع التكنولوجيا والتقنية؟ هل استفاد منها في تطوير خبراته واتصالاته وثقافته ومعرفته؟ هل استفاد من تمكنه من الآلة التقنية، في الانفتاح على الآخر (محاورته، التداخل معه، التعايش معه..الخ)، أم أنه عززمن انغلاقه في داخل وسطه رغم تطوير أدواته وأساليبه؟

    § الايدلوجيا كتقنية

    يقول ماركوز “ما أحاول أن استخلصه هو أن العلم قد رسم صورة العالم. وفيه بقيت السيطره على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الانسان”. إذا كانت التقنية نجحت في أن تصنع انسانا على مقاسها الخاص، كما يظن ماركوز، وافقدته أن تكون له ميزات خاصة به. فجعلت منه إنساناً مقلدا، مستهلكا، متماهيا معها. فإن المجتمع الديني كما يبدو، أكثر تحفظاً من أن يجعل من آلة تقنية، تحكمها قوة رأسمالية، أن تصوغه وفق مقاسها الفكري والثقافي. قد يسمح لهذه الآلة في ظل استحالة الانفصال عنها أو العيش خارجها، أن تصوغ إنسان المجتمع الديني وفق مقاسها التقني. لكنه لا يسمح لها بأكثر من ذلك.

    دخل المجتمع الديني تقنية الآلة لكنها لم تدخله. يمكننا أن نقول أن المجتمع الديني قام باخضاع الآلة وفق مقاسه الديني، وقام بتبيئتها وتكيفها لتناسب إيديلوجيته. اخترق المجتمع الديني التقنية، وجعل من آلتها وسيلته لنشر معتقداته وللتعريف بها وللترويج لأنشطته وللتبشير بها، جعلها وسيلته التي يوصل بها نفسه وفكره للعالم، لكنه لم يمكّنها من أن تخترق ثقافته أو تمازجها بغيرها من الثقافات.
    رسمت التقنية صورة شكلية للعالم، صورة متشابهة للإنسان في كل مكان، في كل بيئة وفي كل بيت وفي كل مؤسسة وفي كل جماعة، لكنها لم تستطع أن تدخل ثقافة الجماعات ولم تستطع فتحها للحوار المشترك. استفادت الجماعات المختلفة مما توفره هذه الآلة من قدرة على التحميل والتخزين والتوصيل والتقريب والاعلان والاعلام والبث والنقل والتعريف والاخبار. لكنها وظفتها في دائرتها أو ما أسماها جعفر حمزة (متخصص في شؤون الاعلام) بكانتونتها المغلقة. ” أعتقد أنا ببراعتنا في استخدام الآلة التقنية، صرنا أقرب إلى كانتونات إلكترونية مغلقة، هذا الأمرلا ينطبق فقط على الدينين والاسلاميين، بل حتى الليبراليين، إلى أي مدى ساعدتنا التقنية على أن يفهم أحدنا الآخر أو يتحاور معه؟ كأننا أمام دكان كتب عليه من الخارج (هنا الذبح إسلامي). من الطبيعي أن لا يدخل (هنا) إلا المسلمين. ودكان آخر كتب عليه (هنا يباع لحم الخنزير). من الطبيعي أن لا يدخل (هنا) إلا غير المسلمين. هكذا صار واقع أغلب مواقعنا ومنتدياتنا وغرف محادثاتنا. (هنا) تحدد فكر من هم في الداخل ومن هم في الخارج. (هنا) تحدد من يسمح له أن يكون (هنا) ومن لا يسمح له إلا أن يكون (هناك). مع المختلف الحوار حرب افتراضية وصدامات. وفي داخل الفكر الواحد ليس سوى صوت واحد وفكر واحد وعقل واحد ومعرفة واحدة“.

  • الحسين، غائب في الصورة

    لإمام الحسين.. حاضرٌ في القلوب وغائب عن السينما العالمية

    شبكة راصد الإخبارية – « تحقيق أجراه – أحمد رضي* » – 7 / 2 / 2007م – 1:53 ص
    مشاهد من تمثيل «واقعة الطف الاليمة» ببلدة أم الحمام

    هل تنقصنا الكفاءة والقدرة المالية لصناعة فيلم سينمائي؟!

    من الملاحظ في مجتمعنا العربي والإسلامي غياب الرؤية الإستراتيجية لتجسيد التاريخ الماضي عبر الشاشة السينمائية، وذلك خلاف للقصص التاريخية والحكايات الشعبية، في الوقت الذي تقدمت فيها وسائل التكنولوجيا كمرحلة متقدمة لصناعة الصوت والصورة فنياً وتقنياً، الأمر الذي يجعلنا كعرب ومسلمين نتساءل حول سبب إخفاقنا في إبراز الصورة الحضارية لديننا الإسلامية واستعراض أهم مراحل التاريخ وشخصياته العظيمة لهذا الجيل والجيل القادم.

    أحاول في هذا التحقيق الموجز مناقشة فكرة تقديم تجربة النهضة الحسينية بأبعادها المأساوية والإنسانية عبر شاشة السينما العالمية، ومحاولة التعرف على إمكانية تقديم نص إسلامي برؤية معتدلة، واستعراض أهم المعوقات التي تعيق تنفيذ هذه التجربة من خلال اللقاء مع أصحاب الشأن.

    قضية كربلاء في السينما:

    جعفر حمزة

    يحدثنا الباحث الإعلامي «جعفر حمزة» حول بروز قضية كربلاء في السينما فيقول: «كانت قضية الإمام الحسين من أهم المواضيع التي تم طرحها في السينما العربية والإسلامية على أكثر من صعيد. فهناك بعض التجارب العربية المتمثلة عند بعض المخرجين المصريين، فضلاً عن استعداد للمخرج العراقي «قاسم حول» الذي لم تسعفه المادة والدعم لعمل ذلك الفيلم، حيث كان من المقرر إخراجه في العراق وخصوصاً في كربلاء. وأما التجربة الإيرانية فقضية الإمام الحسين فقد كانت «موتورة» بمعنى وقوفها عند تجربة فيلم «الواقعة» بصورة مباشرة، وفيلم عبدالله الأنصاري بصورة غير مباشرة. بالرغم من تجربتي مسلسل «غريب طوس» و«مريم المقدسة» الذي تم إجادة الإخراج والتمثيل فيهما على حد سواء، وبصورة عامة فإن الإمكانيات الإيرانية لإخراج فيلم عن الإمام الحسين ممكنة وقوية».

    الفيلم ممكن.. والمعوقات كثيرة:

    ويعتقد حمزة بأن أبرز المعوقات التي تمنع ظهور الفيلم الحسيني تتمثل في عدم تركيز الجهود على الرؤية التاريخية والإخراجية الكفيلة بإخراج الفيلم أو المسلسل بسبيل يوصل الرسالة بطريقة إبداعية ومؤثرة، فإذا كانت قصة كربلاء تثير الشجن عند قرائتها فما عساك تتخيل عند مشاهدتها. بالإضافة إلى نقص الدعم المالي، إذ أن عقلية الدعم للأفلام الرسالية لم تترسخ بعد، وهذا يستدعي توجهاً مدروساً من أصحاب الخطاب الديني الملتزم من جهة، وتقديم دراسات اجتماعية واقتصادية متخصصة من جهة أخرى.

    ويرى حمزة بأن تجربة فيلم «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد، أثبتت قدرة الوصول إلى مساحة «مشتركة» يمكن من خلالها الإنطلاق لإنتاج فيلم تاريخي يتفق على مصادره ورؤيته التوثيقية علماء الفريقين، نظراً لمصادر الطرفين المعتبرة ولن يكون ذلك مانعاً أو حاجزاً عن الدخول في مشروع مشترك لإنتاج الفيلم.

    موقف التجار والحوزات الدينية:

    أما بخصوص الموقف المطلوب من قبل التجار أو الحوزات الدينية يشير حمزة إلى أن الموقف المطلوب من التجار هو توضيح الجدوى الاقتصادية في حال تبني المشروع والقيام به، وتبيان الأهمية الدينية كمصداق لدعم القضية الحسينية وإحياء الشعائر. أما بالنسبة لموقف الحوزات الدينية، فالمطلوب هو العمل على البحث من النواحي الشرعية للأمور المتعلقة بشؤون السينما والفن، ونشره للمهتمين، وإقامة ندوات مفتوحة لمناقشة مثل هذه المشاريع أو إقامة ندوات متخصصة تجمع بين التجار وعلماء الدين وأولي الاختصاص تحت مظلة واحدة.

    بين آيران.. وهوليوود الأمريكية:

    ويؤكد حمزة بأن إيران قد قطعت في المجال السينمائي عموماً وفي الأفلام الدينية خصوصاً مسافة مميزة على المستويين الإقليمي والعالمي، ويعتقد بأن التفكير في القيام بفيلم أو مسلسل عن الإمام الحسين ينبغي علينا الاستعانة أيضاً بالسوريين، لوجود الخبرة الكافية في مثل هذه الأعمال التاريخية، فضلاً عن لغتهم العربية المميزة، والتي ستعطي رصيداً للفيلم عوضاً عن دبلجته إلى العربية.

    وحول إمكانية التعاون مع الدول الأجنبية أو شركة هوليوود مثلاً لصناعة فيلم إسلامي يرى حمزة أن إمكانية التعاون واردة ولكن بتوفر السيولة المادية «الضخمة» والتي لا تتوفر حالياً، وإن الإنطلاقة الفعلية ستكون من خلال التجار والممولين، الذين ينبغي عليهم الإقتناع أولاً بجدوى المشروع، فضلاً عن الاستحقاق «الشرعي» للنص والإخراج والتمثيل «الممثلين».

    عدم تفاعل الطائفة الشيعية:

    جابر حسن

    ومن جانب آخر يشاركنا الرأي الممثل «جابر حسن» قائلاً: «يمكن إيجاد نصوص متفق عليها بعد جمع المصادر الموثقة والمتفق على مصداقيتها، ومحاولة البعد عن التعرض للمسائل التي تثير الحساسيات الطائفية ومحاولة سد الثغرات التي يمكن أن يستغلها العدو في الخدش أو التعرض للقضية الحسينية».

    ويضيف حسن بأن أهم معوقات تنفيذ فكرة صناعة فيلم كربلاء الحسين يتمثل في: «عدم وجود تفاعل أو تحمس لطرح القضية الحسينية عبر السينما من قبل أهل الطائفة الشيعية، نتيجة عدم وجود النظرة المستثمرة والمقتنعة بأهمية السينما في طرح القضية الحسينية. بالإضافة إلى عدم تفاعل السينما العالمية والمهتمين بها بالقضايا الدينية المسلمة، مع تزايد الشعور بالنقص والتحجيم عند المسلمين في الجانب الفني والسينما بالذات، ووجود كثير من المحظورات المبالغ فيه والتي تمنع من طرح القضية على السينما».

    أهمية خلق كوادر فنية:

    وحول كيفية خلق كوادر فنية مؤهلة للعب أدوار في الفيلم الإسلامي يقول حسن: «يمكن خلق تلك الكوادر بالتدريب وزرع الثقة وخلق روح التنافس ودراسة كل النقاط المهمة والممكنة لتأهيل الممثلين بل كل طاقم العمل السينمائي والمشارك في القضايا الدينية والقضية الحسينية بالذات».

    وحول مسألة التعاون مع دول أجنبية أو شركة هوليوود يقول حسن: «يمكن التعاون معهم في تأهيل الكوادر والاستفادة من الإمكانيات الفنية الموجودة لديهم وهي ليس متوفرة في الدول العربية أو الدول الإسلامية، فقضية الحسين يجب إبرازها بقوة حتى لو لجأنا الى الأجنبي، ولكن بحيث لا يترك الأجنبي بصمته على العمل ويكون النتاج من صنع الأيادي المسلمة الشيعية الملتزمة».

    ضرورة اتفاق أهل الطوائف والمؤرخين:

    حبيب حيدر

    ويشاركنا الشاعر حبيب حيدر «ناقد وكاتب مسرحي» الحوار قائلاً: «لم أتتبع بشكل دقيق حضور قضية الإمام الحسين في الساحة السينمائية، ولكن هناك بعض الأعمال التي جسدت القضية بشكل مباشر أو غير مباشر مثلاً كفيلم تسجيلي أو توثيقي أو كفيلم يستلهم الظاهرة بشكل إبداعي، وتحضرني هنا بعض التجارب كالآفلام الإيرانية التي شاعت في الفترة الأخيرة. وأهم المعوقات برأيي تتمثل في تخوف البعض من المساس بالحالة المقدسة لبعض الشخصيات كالنبي والأئمة ، وأيضاً العائق المالي، والخوف من الدخول في التفاصيل التاريخية لفترة من الفترات الحاسمة التي بطبيعتها تفجر الكثير من القضايا».

    اختلاف الرؤى في قراءة التاريخ:

    وبخصوص إمكانية وجود نصوص إسلامية متفق عليها أدبياً وتاريخياً لتقديم مأساة كربلاء بصورة ترضيّ جميع الطوائف الإسلامية يجيب حيدر: «هذا السؤال يفترض حالة مثالية نأمل الوصول إليها، بينما دونها الكثير من التفاصيل التاريخية التي يعتمدها أهل الطوائف والمؤرخين على اختلاف مشاربهم. وأن كنت لا أبحث أبداً عن نص واحد للحادثة، فلكل حدث تاريخي الزاوية التي يمكن للمؤرخ أن يرصدها برؤية خاصة. كما أنه لكل عدسة مخرج يسلط عدسته على الحدث الذي يريد تقديمه وصياغة رؤيته من خلاله، فاختلاف الرؤى في الأحداث التاريخية كفيل بتوليد أفلام ونصوص متعددة للحدث الواحد».

    ويختم حيدر قوله بخصوص التعاون مع الدول الأجنبية أو شركة هوليوود لصناعة فيلم إسلامي قائلاً: «ليس هذا صعباً إذا توفرت إرادة قوية بهذا الاتجاه، فسوف تتيح السينما العالمية لنا نقل صورة من صور كربلاء، بحيث يستلهم الناس من خلالها أداة عالمية حديثة قادرة على التواصل فيما بينهم وإيصال رؤية واضحة بخصوص واقعة كربلاء. ويضيف توجد مشاريع صغيرة ينبغي نقدها وتشجيعها حتى تستطيع أن تثبت أقدامها، وتمتلك أدوات الفعل الفني والإبداعي لترتقي في مجال تقديم الصورة الفنية والإبداعية لشخصية الإمام الحسين ».

    السينما العربية عاجزة..!!

    عبدالله يوسف

    ومن جهة أخرى يطرح المخرج والمصور «عبدالله يوسف» رؤية مغايرة لما سبق بالقول: «لم تتمكن التجربة السينمائية العربية بكل ما قدمته في تاريخها من تحقيق وتكريس الجدارة الصناعية المأمولة والجودة التقنية الباهرة في فن السينما، بحيث تكون مؤهلة لإنتاج فيلم مرموق عن قضية الإمام الحسين ، بينما السينما العالمية المتقدمة، تستحوذ على كل جدارة إنجاز ذلك بحرفية منقطعة النظير ومستويات بالغة الإتقان والتفوق. ولعل معوقات تحقيق ذلك -في نظري- لا تكمن في وجود المقدرة من عدمها، بل في مدى درجة الإقتناع السينمائي العربي أو العالمي، بوجاهة تلك القضية وأهميتها التاريخية، وبأهدافها الثورية وأبعادها الإستشهادية ونتائجها، وما أفرزته في التاريخ اللاحق المستمر حتى اليوم من تداعيات أدت إلى نشوء فريقين –أرادت لهما القوى المتفننة في إبتكار المكائد وتأليف المؤمرات وصياغة الضغائن- أن يكونا متضادين ضمن نسيج قطيفة إسلامية واحدة، باتت هدفاً للإختراق والتمزيق كل يوم!!

    أين الأمة الحضارية لقراءة رسالة الفيلم؟!

    ويضيف يوسف إذا كان الهدف من إنجاز الفيلم إعادة الحادثة الكربلائية دون محاولة إسقاط الماضي ودحر الحاضر وإبتكار المستقبل، فإن نتيجة ذلك ستكون في تقديري بمثابة «إضرام نار في الهشيم»، وتلك هي معضلة كل «المعوقات» التي تجعل عدم بزوغ بادرة تفكير في إنتاج ذلك الفيلم تذهب أدراج رياحها. لأن الفيلم السينمائي الحقيقي، غالباً ما ينطوي على رسالة إلى الأمة التي أُنتج من أجلها، لكن في مثل حالنا أين هي الأمة الحضارية الواعية القادرة أو المؤهلة فكرياً لقراءة الرسالة، وهي متجردة كل التجرد من أدران الأورام الطائفية؟؟؟

    أهمية وجود العقلاء.. القضية خطيرة:

    وبخصوص توفر نصوص أدبية تاريخية لتقديم الفيلم يجيب يوسف قائلاً: حتى إن توفرت أو وجدت نصوص متفق عليها أدبياً وتاريخياً تتناول مأساة كربلاء بصورة ترضي جميع الطوائف الإسلامية، وإعتمدت لإنجاز مثل ذلك الفيلم، كيف يمكن ضمان توفر عدد وافر جداً جداً من العقلاء المتفكرين في الفريقين المتضادين يقبلون التعاطي والتوافق والتعاضد والإختلاف الحضاري المبدع مع كل مخرجات فيلم سينمائي جريء يرصد في مشاهده المتعددة ما سبق قضية كربلاء ثم الواقعة ذاتها وبعدها النتائج التي إنتهت إليها وصولاً إلى الأوضاع والأحوال التاريخية المستجدة التي بدأت منها، في يوم غابر من تاريخ العرب والمسلمين، ولم تنتهي بعدها «إلى يومنا هذا»».

    ويختم يوسف قوله بإن حادثة «كربلاء» باتت من بدأت، قضية تاريخية مفصلية في تاريخ هذه الأمة، ووفق ما إنتهت إليه من نتائج، قد شكلت النسيج العربي والإسلامي في مدى أربعة عشر قرناً،، والطموح في إستثمارها مادة لأخطر وأهم الفنون الحضارية الإنسانية المتمثلة في الفن السينمائي، لهو طموح بالغ الإثارة، ولتحقيقه وفق بلاغة موضوعية رصينة لا بد -في رأيي- من تطهير العقول والنفوس من الأفيون الطائفي المقيت.. وحتى يتيسر لنا تحقيق ذلك، يصبح بمقدورنا مخاطبة الفن السينمائي العربي أو العالمي لإنجاز الفيلم/ القضية!
  • من الحرف إلى الكتاب.. سيرة برائحة الورق

    فرشت كتبي للبيع أمام جامع المالكية..
    من الحرف إلى الكتاب.. سيرة برائحة الورق

    الوقت – جعفر حمزة:

    ومن القلم كانت البداية

    كانت علاقتي بالكتاب عبر الحرف، ولم يكن الحرف بالنسبة لي إلا رسماً، وهل سيكون غير ذلك لصبي لم يدخل المدرسة الابتدائية بعد؟
    منافسة بيني وبين أخي الأكبر ‘’محمد رضا’’ أيّنا يرسم أو يخط الحرف بإجادة أفضل وكانت الحَكَم أختي الكبرى ‘’زهرة’’، وكان مثلي في الخط أخي الأكبر ‘’علي’’. أصبح الخط فني الأول واستمر معي إلى سنيّ الجامعة. من يعشق الحرف رسماً أو خطاً أو فناً يعشق صورته ‘’الكلمة’’. ومن يعشق الكلمة يقع في هوى ‘’بيت الكلمة’’ وهو الكتاب. حالي كحال من يعشق العطر فيعشق الزهرة ثم الروضة التي تحتضن الزهرة.
    بدأت بخط وانتهيت بكتاب. لا أراها معادلة غير طبيعية أبداً. مما زاد في عشقي للحرف هو تلقّف أستاذ اللغة العربية ‘’الأستاذ عبدالظاهر’’ في مدرسة شهركان الابتدائية لي وهو مصري الجنسية، وله الفضل بعد الله، في صقل قدراتي وتذوقي الفني عبر تشجيعه لي وإمداده غير المنقطع بالنماذج والملاحظات.
    لم أنس تلك الملاحظات حتى اليوم. وما زال كرَّاس اللغة العربية للصف السادس الابتدائي بحوزتي، أحتفظ بملاحظاته المكتوبة بقلمه الحبر الذي تمنيت أن أقتني واحداً مثله وأكتب به.
    تطرفتُ في الخط. صرت أكتب بجميع أنواع القصب والأعواد والأشياء، بل إني كتبت بعود الثقاب وبجذع شجرة كبير على ورق، وكأنّ بي مساً من حرف، وما رأيت نفسي إلا في عالم الكتب أبحث عن الخطوط وأقرأ عنها شعر ‘’لا أفهمه’’ وتاريخاً ‘’لم أدركه’’، لكني حاولت أن أخوض غمار بحر الحرف، فانحل لساني وأنطلق منطقي وإذا بي في وسط كتب لا أريد منها سوى أن أقرأها وأغوص فيها لأقول في نفسي، ما هو الكتاب التالي الذي يجب علي قراءته؟

    حين غسلت الكتاب بالماء

    أرأيت الطفلة الصغيرة التي تحاكي دميتها؟ وكأن روحاً حلّ في تلك الدمية لتخاطبها الطفلة ببراءة وتتجاذب معها أطراف الحديث؟ أرأيت كيف أن الطفلة تعتني بدميتها وتحمّمها وتلبسها وتذهب بها إلى الفراش وتطعمها و..؟
    لقد كانت علاقتي بالكتاب أكثر من علاقة الطفلة بدميتها، ولا وجه للمقارنة عندي، فقد تستغني الطفلة عن دميتها بدمية جديدة، وقد تذبل الدمية أو تعتق فتتركها صاحبتها من غير رجعة لها، أما الكتاب أياً كان حجمه أو عمره فهو أنا في ذاته، يعكس تجربة زمنية وفكرية مررتُ بها، وهي ليست مجرد ذكرى، بل هي صياغة عقل لا يمكنني أن أتخلص منه، حتى لو فقدته مادياً، بل كان الكتاب لي كمثل ‘’الثقب الأسود – Black Hole’’ أميل له لا تلقائياً لأني أرى فيه – في تلك الفترة العمرية – تجربة وخلاصة فكر ومجهود تم إخراجه على الورق. كنت في الصف الأول الإعدادي حين شاهدت كتاباً ملقىً وسط وحل وماء في أحد شوارع قريتي ‘’المالكية’’، وشعرت به يناديني كطير جريح يريد من ينقذه، فأخذته من أحضان الوحل واحتضنته، وسارعت إلى غسله وصب الماء عليه لعله يتنفس ويكشف لي عن وجهه الذي بلله الماء وكساه الطين، وكان للشمس نصيب من الحكاية حيث ‘’نشرته’’ على خيط الغسيل لساعة من الزمن، وطفقتُ مسرعاً إلى سطح بيتنا لأراه وأقرأه، فقد كان كتاباً في علم النفس، لم أفهم منه شيئاً لكني احتفظتُ به لعلّه يكون مرجعاً لي في يوم ما، لعلّ. وكان ذلك ديدني مع كل ما يضم حرفاً أو كلمة من قلب صحيفة أو من غلاف كتاب، أو من إعلان مجلة، فقد كانت الكلمات المكتوبة شيئاً براقاً لي لا أستطيع مقاومته البتّه.

    عندما وضعت الجمرة في فمي

    كنتُ كما الطفل، مختبره فمه ومختبري عيني وفهمي. الطفل يضع كل ما تطاله يداه في فمه، لأن الأخير هو محل تجربته للحكم، فإذا تذوق الطعم الحلو استساغه وأراد المزيد، وإن وضع شيئاً مراً استنفر منه ولا يريد تجربته مرة أخرى، وما يحكم فيه هي فطرته الدافعة والرافعة كما يقول الفلاسفة.
    قرأت الكثير من الكتب تفاوتت من عالم الجن والقوى الخارقة وعلوم ما وراء الطبيعة، إلى الفلسفة وعلوم الروحانيات والتصوف، ومنها إلى العلوم التطبيقية كالفيزياء والكيمياء والرياضيات البحتة، ومنها إلى كتب العقيدة والفكر الإسلامي والتاريخ، ومنها إلى بحر الشعر والأدب وكتابة القصة القصيرة والخواطر. أخي الأكبر ‘’عبدالحكيم’’، كان خير معين في جلبه لأنواع مختلفة من الكتب العلمية والتثقيفية.
    كنت أستعيرها على الدوام، قد كانت نهاية الابتدائية هي مرحلة ‘’الفطام’’ بالنسبة لي، فقد آن الأوان لي أن أعرف ما أريد أن أتناوله، فوقع الاختيار في تحديد هويتي بقراءتي، ولا يمكن الخوض في عالم الكتب من دون وجود ‘’مرشد’’ أو ‘’دليل’’ وقد كان ذلك لي عبر أساتذة فضلاء في مدرسة الخليل بن أحمد الإعدادية وخصوصاً الأساتذة ‘’صادق الفردان’’، ‘’عبدالله عبدالكريم’’، و’’عباس العرب’’، وقد كان حبي للكتاب يدفعني لأكتب، فلا يكفي أن تتناول الطعام إن لم تترجمه إلى حركة ونشاط، وهكذا كانت البداية والانتقال من مجرد القراءة المحضة إلى الكتابة وتمرين عضلات الفكر والقراءة على حد سواء. وقد كان هناك عهد بيني وبين الأستاذ ‘’صادق الفردان’’ في كتابة مقال بحجم ‘’A4’’ يومياً في شتى الموضوعات طيلة السنة الدراسية ليقيمها الأستاذ ويقدم ملاحظاته لي، وكنت استعين في كتابة موضوعاتي من مجلة ‘’ماجد’’ والصحف والكتب الدينية، ولم أنسَ مشهد درج الأستاذ الذي لم يسع أوراقي المتراكمة فيه ليفتح بعد عناء وتخرج كل تلك المقالات.
    لقد كانت تلك التجربة بمثابة التمييز بين الطعام الصالح من غيره.
    لم أعرف سبيل الفكر والتأمل والتحليل إلا بعد أن خضت تجربة وضع الجمرة في فمي والمتمثلة في مفاهيم احتضنتها كتب لم تقدّم لي سوى أن أعرف أنها لن تفيدني في علاقتي العاشقة مع المعرفة، وهكذا توقفت عن الخوض في تناول الجمر وبدأت بتناول التمر المفيد عبر كتب الشيخ مرتضى مطهري، السيدعبدالحسين دستغيب، الإمام الخميني، والسيد الصدر، فضلاً عن الكثير من كتب المؤلفين المصريين، منهم ‘’يوسف ميخائيل أسعد’’ في مجال علم النفس والتربية والشخصية. وأذكر أن أول كتاب قد تم إهدائه إليّ هو ‘’قصص الأبرار’’ للشهيد الشيخ مرتضى
    مطهري. وقد كانت تجربتي التي صاغت منطقي هي عبر كتب السيدمحمد حسين فضل الله بكتيباته الصغيرة التي كنتُ أتلقفها واحداً بعد الآخر لأقول ‘’هل من مزيد؟’’.

    بطني يقرأ الكتب قبلي

    لم يكن عشقي ‘’المجنون’’ للكتب بخافٍ على الأهل، وقلت ‘’المجنون’’ نتيجة تراكم الكتب والقصاصات الصحافية والمجلات في مختلف الموضوعات في غرفة صغيرة ومساحة أضيق كانت مخصصة لي، حتى فاض ‘’كبتي’’ من ‘’كتبي’’، وبالتالي أصبحت القوانين صارمة من قبل والدتي التي خشيت أن جنوني بالكتب ستصرفني عن الدراسة والتركيز عليها، وبالتالي وضعت قاعدة ‘’لا كتب غير كتب المدرسة’’، ولم يكن بإمكاني وقف عشقي وتغزلي بالكتب، فلا يمكنني الصبر على ‘’طعام واحد’’ وبالتالي كان لا بد من وسيلة لإدخال الكتب إلى ‘’بيت العاشق’’، فكانت الثياب خير معين، فقد عملتُ على ‘’تهريب’’ الكتب داخل المنزل عبر إخفائها تحت ثيابي وبالقرب من بطني، لأتسلل إلى المنزل بهدوء ومن دون اضطراب لأضع الكتاب وكأنه سبيكة ذهبية بجوار السبائك الأخرى ‘’الكتب’’، وبهذا تشكلت لي ثروة لم أرد التفريط بها يوماً أبداً، ولكن.
    «ليت رقاد» وكتب.. لا يتناسبان أبداً
    لكل شيء ثمن، وثمن عشقي للكتب هو ضعف بصري، وكأنني أراها معادلة منصفة نوعاً ما، فالكتب تقدم لك ‘’البصيرة’’ لتأخذ منك ‘’البصر’’ أو شيئاً منه.
    كنتُ أنام في غرفة تضم بعضاً من أخوتي الصغار ووالدتي التي تنام مبكراً، ولم يكن النهار كافٍ بالنسبة لي لأتغزل وأجلس مع العشيق ‘’الكتاب’’، في قبال ‘’سكون’’ الليل وكأن الكتاب خُلق ليُقرأ ليلاً، ربما، ألم تنزل ‘’اقرأ’’ ليلاً؟؟
    وبالتالي كان لا بد من محادثة ‘’المعشوق’’ ليلاً، ولم يكن بإمكاني الخروج من الغرفة والقراءة في جو ‘’لظى’’ ليالي الصيف أو في ‘’زمهرير’’ ليالي الشتاء، لذا سلمتُ أمري لأقرأ الكتب تحت إضاءة ‘’ليت الرقاد’’ أو ما نسميه ‘’مصباح النوم’’، وكانت قراءتي تمتد لساعتين أو أكثر وكانت نتيجة ذلك العشق ضعف بصري. وأعددتُ نفسي المسؤول عن شراء ‘’ليت الرقاد’’، وعرفتُ أنواعها وميزاتها وقوتها، فقد كنتُ أقرأ كل شيء مكتوب، وبالتالي كان الأمر سهلاً عليّ. وتطورتُ قليلاً بعد فترة حين اشتريت مصباحاً للمكتب وأضعه تحت غطاء السرير وأناجي الكتاب الذي بين يديّ.

    استنساخ لا بد منه.. ونمو طبيعي لعضلات الكتابة

    لم تكن لي القدرة المالية لأشبع نهمي في القراءة، فكانت مكتبة المسجد الشرقي القريب من منزلنا، منهلٌ آخر لم أبخل في الرجوع إليه كلما شئت، وقد كانت فترة التسعينات بالنسبة لي هي مرحلة ذروة القراءة، حين أصبح في جعبتي مسؤوليتان اثنتان هما ‘’العَرَافَة’’ في الاحتفالات التي تُقام في القرية وخارجها في المناسبات الدينية، فضلاً عن الإخراج المسرحي لتمثيليات تاريخية واجتماعية، والثانية ‘’الإذاعة’’ العربية بطهران، فالموضوعات المتنوعة هنا وهناك أخرجتني من ساحة العشق للكتاب في ذاته إلى ساحة الحركة ومعرفة ما يدور حولي والتفاعل معه، وبالتالي أصبحت القراءة لي ‘’رسالة’’ وليست ‘’طعاماً’’ فقط. وشتان بينهما.
    فقد كانت الموضوعات التي أشارك بها في إذاعة طهران متنوعة بين ثقافة واجتماع ودين، وبالتالي كانت المهمة أن أقرأ أكثر لأهضم ما أريد أقوله لأول إذاعة ساهمت في دفعي للقراءة بصورة متقدمة.
    وكنت استعير الكثير من الكتب دفعة واحدة ولا أرجعها إلا بعد أن أبحر فيها، وأرجع بغنائم فكر وقصص ونكات.
    إلا أن اقتناءك لكتاب يختلف عن استعارتك له، وقد دفعني ‘’حس الاحتضان’’ للكتاب ليكون بين يدي إلى نسخه، كأني أريد لروح الكتاب أن تبقى في أصابعي الناسخة، وهكذا كان، في العام 1995 قمت بنسخ كتابين كاملين ‘’تقريباً’’ في دفتر ‘’كراسة’’ مدرسي. الكتابان هما كتاب ‘’الاحتجاج’’ و’’الوصية السياسية الإلهية’’. لم أكتفِ بالقراءة حتى بدأتُ بالتأليف – أو هكذا خيِّل لي-، فبدأت بكتابة ‘’كُتيب’’ صغير بعنوان ‘’التلفاز، خطره على المجتمع’’ في العام 1993م.

    هل يبيع الإنسان عمره؟

    لا تسير الأمور في سبيل الأخذ على الدوام، فهناك وقت لا بد منه للعطاء والبذل، فكانت ‘’الصاعقة’’ عليّ عندما أضطررتُ إلى فرش كتبي للبيع بالقرب من جامع النبي محمد (ص) في قريتي المالكية، فقد كنتُ مضطراً لبيعها وليس الاستغناء عنها للحصول على كتب جديدة تناديني في معارض الكتاب والمكتبات.
    كنت حينها في الصف الثاني الاعدادي، وكانت تلك أشد الأوقات صعوبة عليّ ولا زلتُ أتذكر حتى أسماء بعض الكتب التي بعتها.
    وقت من دون قراءة أو تأمل وقت ميّت من عمرنا
    يقولون إن الغربيين يستغلون أوقاتهم في أماكن الانتظار بالقراءة والإطلاع، ولم يكن ذلك بجديد عليّ، حيث لم أخلُ من كتاب أو كتيّب بين يدي ليكون صاحبي وقت انتظار حافلة المدرسة ومن بعدها الجامعة، وفي وقت الفرصة، بل حتى الآن، وأنا بانتظار دوري في صيدلية السلمانية أقرأ الكتاب، وأتذكر أني أنهيت أكثر من ثلاث كتب وكتيبات أثناء زياراتي المتعددة لمستشفى السلمانية في الأشهر الأخيرة.
    ‘’المعرفة هي العملة الجديدة للتقدم’’، وأي حاضن للمعرفة مثل الكتب. سيرتي مع الكتاب سيرة الحرف بداية والعشق الجنوني ثانياً، وبعدها العشق المسؤول.
    عندما تعشق المعرفة ستكون مطلوباً على الدوام، إذ أن عضلات فكرك دائمة الحركة والنشاط، وفي ظل تغيرات متسارعة لا بد من وجود معرفة نشطة بين يديك، وفي كل مراحل الدراسة والعمل، كان الكتاب خير معين لي، لأنك تتحدث مع الحياة عبر تجارب وخبرات تضعها بين يديك وتحملها في جيبك أو حقيبتك، فأي نعمة هذه نغفلها؟
    وكما أن الكلمة مسؤولية، فإن قراءتها أيضاً مسؤولية، ولم تنتهِ قصتي مع الكتاب.

  • الطائفية ولعبة المشنقة

    الجودر: تصريحات النائبين الأخيرة تزيد المرحلة سوءاً
    تنديد بالطائفية من خطباء الجمعة والجمعيات الشبابية
    صحيفة الوقت العدد 537 – السبت 28 رجب 1428 هـ – 11 أغسطس 2007

    فيما رحبوا بإصدار قانون يجرم التمييز.. يقول الناس:
    محــاربـــة الطائــفية مهــمة كـــل صــاحــب ضــمـــير وطـــني

    الوقتعلي الصايغ:
    تعالت الأصوات في الآونة الأخيرة المنددة بالطائفية، والمحذرة من خطرها على المجتمع بجميع مكوناته، والتي ترى إن الترويج لأي شكل من أشكال التمييز حسب الأعراق أو الديانات أو المذاهب لا يخلق إلا شرخاً في المجتمع لا يمكن مداواته أو يصعب ذلك كما حكت لنا شواهد واضحة في أكثر من بلد في العالم.

    وقد تعددت الحلول المقترحة والكفيلة بوقف الزحف الطائفي قبل تفشيه في مجتمع لم يكن يوماً أسيراً له، وإنما فوجئ به يظهر في السنوات الأخيرة، ولا يمكن السكوت عن أضرار ذلك المد الجسيمة. وكانت لهذه الملامح الطافية على السطح الغريبة على المجتمع البحريني، ردود فعل عارمة من ناحية الساسة والحقوقيين وشخصيات المجتمع المدني. وفي ضوء تجاذبات طائفية جرت في مواقع مختلفة كما حدث في البرلمان السابق أو حتى الحالي، إضافة إلى بعض المواقف التي كشفت عن ازدراء واضح وتمييز صارخ، في ضوء ذلك جاءت فكرة إصدار قانون يجرم التمييز والممارسات الطائفية، واعتقد آخرون بخطورة تأثير بعض المؤثرات الخارجية على التماسك الأهلي، بينما ذهب البعض الآخر إلى خطورة التجاذبات السياسية التي وصلت إلى حد المصلحة في إذكاء روح الطائفية المقيتة للوصول إلى أهداف آنية ما.
    سيارة ضد الطائفية
    الكل يعبر بطريقته عن خطر استفحال الطائفية، فقد أطلق الكاتب ومسؤول فريق الإبداع في شركة إعلانية جعفر حمزة فكرة فريدة من نوعها وهي فكرة سيارة ضد الطائفية معتبرا أن خطورة تنامي الحس الطائفي في البحرين قد بدأت تؤثر بشكل أو بآخر في النسيج المجتمعي. وجاءت الفكرة حسب حمزة أنه ”كثر في الآونة الأخيرة استخدام (الإستيكرات) على الزجاج الخلفي للسيارات، سواء ما تحمل رسالة انتماء سياسي أو ديني، أو شرح وضع اجتماعي، أو انعكاس لثقافة الشباب بجميع أطيافه”، مستدركاً ”ونتيجة لتواجد ثقافة (الإستيكرات) قمنا بمبادرة للتحذير مما يجري في هذا الوطن من شحن طائفي سيكون الخاسر فيه الكل بلا استثناء”.
    وأضاف ”ابتكرنا أيضاً ”لعبة المشنقة” المعروفة، حيث تتوقع الكلمة المطلوبة، وفي حال فشلك في توقع الحروف المكونة للجملة يتم رسم المشنقة إلى حين رسم شكل إنسان مشنوق في حال فشلك بتوقع الكلمة، أو تتوقع الكلمة المطلوبة وتنجح في اللعبة ولا يتم اكتمال رسم المشنقة”.
    وتابع ”وقمنا بتمثيل فكرة ”الطائفية” بلعبة المشنقة، والفكرة هنا حتى في حال توقع الكلمة الصحيحة وهي ”الطائفية” فإن اللعبة تنتهي بشنق الإنسان (…) الفكرة رمزية وترسل رسالة واضحة، حيث إن اللعب على وتر الطائفية يؤدي إلى موت الإنسان أي موت الوطن”. وأضاف ”الغرض من عملها على خلفية زجاج السيارة هو إيصال الرسالة لأكبر عدد ممكن أثناء قيادة السيارة في الشارع”، معتبراً أن ”الطائفية داء عضال ومحاربته ومقارعته مسؤولية الجميع بلا استثناء”. وقال حمزة ”وبرغم لعب بعض الأطراف على هذا الوتر الشاذ والنشاز، إلا أن الواعين لن تنطلي عليهم مخططات الطائفية.
    التي لن يخرج من لعبتها أحد وهو رابح أبداً
    وأضاف ”لقد تمثلت الطائفية في الزيف المكتوب (بعض الصحف) الزيف المسموع (الخطب الموجهة) والزيف المرئي (الإعلام في بعض صوره)”، معتبراً أن ”مهمة كل صاحب ضمير وطني أن يحارب الطائفية بكل ما أوتي من قوة وهي مسؤولية دينية وعقلانية بالدرجة الأولى’‘.
    من جهته، أكد رئيس مركز البحرين الشبابي (الوفاق) محمد فخراوي استحسانه لفكرة صدور قانون يجرم التمييز والطائفية، وتمنى ”أن نحمل ثقافة نبذ الطائفية والتمييز قبل أن نشرع قانوناً”، موضحاً ”إذا كان القانون لا يطبق فما الفائدة منه”.
    وقال فخراوي ”لو استطعنا تكريس ثقافة نبذ الطائفية والتمييز فإننا سنصل إلى النتيجة المرغوبة، وقبل أن نشرع القانون ينبغي علينا البحث عن الأسباب والسياسات التي أدت إلى التمييز وأن نحاربها”، لافتاً إلى بعض سياسات تمارس للأسف في الدولة ”سواء بالنسبة إلى التوظيف أو غيره” على حد قوله.
    واعتقد أن ”هناك تكريساً لفئة معينة على حساب فئة أخرى، والنتيجة أن الفئة التي تتعرض للتمييز تشعر بالغبن في الوقت الذي لا تستطيع فيه التنازل عن المكتسبات”، وفق قوله.
    وأوضح فخراوي ”هناك بعض المؤثرات الخارجية الطفيفة، ولكن بعض السياسات الداخلية هي التي كرست الطائفية المطروحة على الساحة في الوقت الراهن”، لافتاً إلى مثال ”توزيع الدوائر الانتخابية باعتباره أحد ملامح الممارسات الطائفية في البحرين”، حسب رأيه.
    أبعاد خطيرة
    من جهته، قال عماد خليفة جاسم (30 عاماً) ”من المفروض أن نكون يداً واحدة، وألا تتواجد الطائفية فيما بيننا”، لافتاً إلى الأخطار الجسيمة من الانسياق وراء المهاترات والنعرات الطائفية التي لا تؤدي إلا إلى تمزيق الصف. وقال جاسم ”إن الطائفية لها أبعاد خطيرة، وتأثيرات جمة، ونحن إن كنا مجتمعاً مثقفاً وواعياً فيجب علينا أن نوقف شجرة الطائفية التي لن تثمر إلا ثمار التشقق وزعزعة الوحدة الوطنية”.
    وعن مدى أهمية صدور قانون يجرم التمييز والممارسات الطائفية في البحرين، أجابت رئيس نادي صناع الحياة ميساء النيباري ”أنا مع إيجاد مثل هذا القانون إن كان سيحد من الطائفية، ويؤدي بدوره إلى إطفاء نارها في أي موطن من مواطنها”.
    ولا تعتقد النيباري أن هذه النعرات والمشاحنات الطائفية هي وليدة الداخل البحريني، معتبرة أن الواقع البحريني بريء من هذه الأفكار، وأن كل الأعراف والتقاليد البحرينية تندد بجميع أشكال الطائفية، ومؤكدة أن ”الزحف الطائفي أساسه خارجي، وليس وليد البحرين”، وفق قولها.
    وقالت ”كوني بحرينية، أتمنى أن يعي الشباب البحريني خطورة الأمر، وألا تجرفهم العواطف والانتماءات”، لافتة إلى أن الشباب البحريني وصل إلى المستوى الذي يميزه عن باقي شباب الوطن العربي، وقد حقق إنجازات على أصعدة عدة”، حسب تعبيرها.
    وأضافت النيباري ”الوعي بخطورة الطائفية بين الشباب البحريني مطلوب (…) يصعب التعايش بحس طائفي في مجتمع خليط، لا يمكن له أن يتخلى عن روابطه المتينة من أجل الروح الطائفية التي لا تجر سوى إلى الشتات”.
    أسباب تفشي الطائفية
    كما أن بدر جمعة (31 عاماً) أكد بدوره وجود مؤثرات خارجية ترغب في زرع الانقسام في المجتمع، وأن لها مصالحها الآنية في ذلك، لافتاً ”ليست المعضلة في الطائفية وحسب، وإنما في التمييز بين الأعراق أيضاً وذلك من شأنه أن يخلق فروقاً واسعة في المجتمع”، وفق رأيه.
    وقال جمعة ”الطائفية هي التحيز والتعصب الذي يجعل أبناء الطائفة الدينية الواحدة تتحيز وتتعصب لطائفتها، وتعتبر طائفتها أفضل وأحسن من الطوائف الأخرى، وتتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي واجتماعي كبير”. وأضاف ”وعندما تدعي الطائفة أنها أفضل من الطوائف الأخرى وتستأثر بالسلطة والثروة وتحتكرهما لصالحها فإن الصراع بينها وبين الطوائف الأخرى سرعان ما يظهر ويسيطر علي الساحة الاجتماعية والسياسية” حسب تعبيره.
    وأبدى جمعة بعض الأسباب التي أدت إلى تفشي الطائفية ”التنشئة الاجتماعية الخاطئة والمعيبة والمتحيزة التي تعتمدها العوائل في تربية أبنائها منذ المراحل الأولى للتنشئة والتربية الأخلاقية، المصالح السياسية والاقتصادية التي تضعها الطائفة في الحسبان، والجهل وضيق الأفق والتحيز والتعصب الذي يسيطر علي الطوائف الدينية والمذهبية المتخاصمة”.
    وأضاف جمعة أسبابا أخرى منها ”التدخل الأجنبي بغية إضعاف المجتمع، وجود الأقليات القومية والعرقية التي تقود إلى تحيز كل طائفة إلى أفرادها ووقوفها ضد الطوائف الأخر بدون وجهة نظر حق وعادل” حسب رأيه.

    .

  • ERROR!

    Error
    جعفر حمزة

    يُطلق على الفرق بين القيمة المحسوبة “Measured value”والقيمة النظرية الصحيحة “Theoretically correct value” مسمى “Error”، وقد تم إسقاط استخدام هذه الكلمة من مجالها الرياضي البحت إلى فضاءات أوسع تمتد من الاقتصاد إلى الاجتماع وصولاً إلى الدين والمقدسات إعتقاداً وسلوكاً وموقفاً.

    ولمعرفة الـ”error” لا بد من وجود صورتين متقابلتين، صورتان بينهما مسافة ملموسة لا بد أن تكون إحداهما على خطأ والآخرى في منطقة الصواب. وعبر استعراض لصور متقابلة في المشهد الاقتصادي المحلي البحريني، لا بد من الاستنتاج في النهاية إلى وجود “error” سواء في المشهد المفترض أن يكون أو في المشهد الحاصل والواقع فعلاً.

    المشهد الأول:
    “أن الموظف البحريني في قطر سيعامل كأخيه القطري وأن كل الوظائف وفي مختلف المجالات مفتوحة للأشقاء من مملكة البحرين”، هذا ما قاله ولي عهد دولة قطر الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني لدى استقباله وزير العمل البحريني السيد مجيد العلوي، وذلك عقب افتتاح الأخير مكتب العمل المشترك بين مملكة البحرين ودوزلة قطر في الدوحة.

    المشهد الثاني:
    “الكهرباء” تعلن عن وظائف شاغرة في الصحف الأردنية، وذلك في مجال المحاسبة بالوزارة. وإجراء مقابلات في كل من العاصمة الأردنية والتونسية لشغر تلك الوظائف!

    المشهد الثالث:
    أحد النواب يطالب بتشريع قوانين تحد من هجرة الأدمغة البحرينية للخارج!

    المشهد الرابع:
    إعلان توظيف في وزارة التربية والتعليم في الصحف الأردنية، واستقدام موظفين من الفلبين لأجل العمل في وزارة الأشغال!

    تلك المشاهد المتاينة فيما بينها تقدم صورة واضحة بين المنطق الوطني المطلوب في توظيف أبناء البلد، ولئن كانت الحجة –وهي كالعادة واهية- في أن المستقدمين (بفتح الدال) مؤهلين وأولي خبرة، فإن ذلك يدل على عدة أمور منها:
    1-وجود “error” في النظام التعليمي وخصوصاً الجامعي لغياب تلك الكفاءات المطلوبة في تلك الوزارات، لغياب التوفيق بين الدراسة وسوق العمل.
    2-وجود “error” في النظام المتبع بوزارة العمل وديوان الخدمة المدنية، ليكون المواطن البحريني غير مؤهل على الدوام!
    3-وجود “error” في تلك الوزارات التي تدير ظهرها عن المواطن البحرين وتفرش البساط الأحمر لغيرهم، ولئن كان ولا بد، فلا أقلها من اتباع منهجية “الاستفادة والإحلال” من خلال الاستفادة من الخبرات الأجنبية –إن كانت حقيقية- وإحلال العمالة الوطنية عوضاً عنها بعد فترة زمنية محسوبة.
    4-وجود “error” فيمن يمسك بخيوط تنظيم سوق العمل ومن يوضع الخطة الاقتصادية في البلد، فعبر حساب منطقي بسيط، يتضح مدى الخطر وقصر النظر عند غض النظر عن الكفاءات الوطنية، وعلى افتراض أن لا وجود لها –كما يدعي البعض-، فلا أقل من وضع خطة تؤهل القدرات الوطنية على مسك اقتصاد البلد بنفسها دون غيرها.
    ونؤمن بأن هناك “error” كبير جداً بين ما يطرحه الملك ورئيس الوزراء وولي العهد من تقدير للمواطن البحريني وفتح المجال ليبني بلده بساعديه، وبين “منهجية” متبعة وكأنها مدروسة في إحلال غير البحريني في وظائف بمقدور البحريني أن يتميز فيها من قبل العديد من الوزرات.

    وبين تصريح ولي عهد دولة قطر “المرحب” بكل بحريني للعمل في الجارة قطر، وبين سياسة بعض الوزارات في “صد” الكفاءات الوطنية، يتضح بين هذا وذاك وجود خطأ كبير في معادلة التنمية الوطنية، فهناك الكثير من العناصر التي تفتقدها تلك المعادلة، وبالتالي تكون النتيجة دائماً هي “ERROR” وبأحرف Upper Case أيضاً.
    وعند النظر إلى الكثير من تجارب الدول كماليزيا وسنغافورة ودبي تتبين الجهود المتواصلة في إحلال العناصر الوطنية لتكون جزءً من المعادلة الأساسية للتنمية، لا أن تكون في صف إحتياطي لا يدري متى يُسخّر ما لديه من قدرات من أجل بلده، وبالتالي تتضح “ورقية” – أي التنظير فقط- لمقترح ذلك النائب، فلا مجال لوقف هجرة الكفاءات الوطنية للخارج إن كانت الأبواب موصدة بالداخل، ومفتوحة على مصراعيها وبميزات متعددة في الخارج.
    يخيفني حقيقة ما أسمعه من كثير من الأخوة بأنهم يترقبون العمل في دولة قطر على أحر من الجمر، وهذا شيء جيد فالبحرين وقطر شعب واحد وبلد واحد، إلا أن “الأقربون أولى بالمعروف”، ونخشى ما نخشاه أن تصل البحرين إلى مرحلة “الفراغات القاتلة –Killing Empty Spaces”، ففي أي ظرف يمكن أن يحصل في المنطقة تضطر “الكفاءات” غير البحرينية للعودة لديارها وترك أعشاشها فارغة في هذه الوزارة وتلك، وبالتالي نصبح على فراغات متعددة في وزارات لم تحسب هذا اليوم، مما يخلق الشك في نوايا ومنهجية التوظيف التي ستوصل البحرين إلى فراغات لا يمكن ملأها في الوقت المناسب، وإلى ذلك الحين سنكون في موقع الـ”error” ما دامت العناصر الداخلة في المعادلة خاطئة، وبالتالي ستكون النتيجة وبالخط العريض “ERROR”!


  • هروب الدجاج
    جعفر حمزة
    جريدة التجارية الاسبوعية ١٤ نوفمبر ٢٠٠٧

    لم يشعرن بإنتماء حقيقي للمكان الذي كنّ فيه، وكان عملهنّ اليومي والدائب هو تقديم البيض لصاحبة المزرعة الجشعة، والتي رأت أن المسألة لا تستحق عناء جمع البيض وبيعه، فقررت أن تحوّل الدجاج إلى فطائر، وكانت اللحظة الحاسمة بعد محاولات الدجاج العديدة للهروب من الحظيرة ، وذلك بمساعدة الديك”الأمريكي” الذي أتى من بعيد، ليكون “المخلّص” لهنّ من عذاباتهنّ اليومية، وانتصرنَ الدجاج على المرأة الجشعة وعشنَ في الأرض الموعودة كما تخيلوها، لا بيض كل يوم بعد اليوم!

    استحضرتُ مشاهد الفيلم كشريط أخرجه الواقع المعاش، وأجد أن العنوان – وليس مضمون الفيلم- واقعي جداً كنتيجة لسيناريو نتمنى أن لا يكون أبداً، إلا أن العاقل والحكيم من يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويضع في عين الإعتبار كل الإحتمالات الواردة ليتمكن من توليها بحنكة ودراية عندما تقع.

    وما أشير إليه هنا بالسيناريو الأسود هو إحتمال وقوع الحرب في المنطقة أو المواجهة بين أمريكا والكيان الصهيوني من جهة وإيران من جهة أخرى، وخصوصاً مع تصعيد الموقف من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.

    وعوداً إلى دجاجاتنا “الثائرات” على الوضع، حيث تمكّنّ من الهروب من الحظيرة لسببين، أولهما عدم شعورهنّ بالإنتماء إلى المكان، والذي دفعهن للسبب الثاني وهو البحث عن طريقة للهروب منه، وتصاعدت الأحداث ليكون الإسراع في الهروب نتيجة إقدام صاحبة المزرعة على اتخاذ قرار “ذبح” الدجاج وتحويلهن إلى فطائر!

    وتأخذ المجتمعات المعاصرة والتي تبحث عن البقاء بصورة مميزة ورائدة في عالم اليوم في البحث عن مشتركات مختلفة الزوايا لتكون معيناً حقيقياً يمكن الإعتماد عليه في حال حصول هزّة من أي نوع، سواء كانت اجتماعية، اقتصادية أو ثقافية وحتى سياسية.

    ويتميز الوضع في البحرين بتداخل تناسقي غير بسيط بخلاف ما يتم تصويره، وهو واقع علينا دراسته وحلحلته بدلاً من التغطية عليه وتجميله، فالمجتمعات التي تضع الكثير من مساحيق التجميل ستزول عند أي محنة، ويسيح الماكياج ويشوه صورتها. وذلك يسبب ضياع الفرص التي يمكن نيلها، والمشكلة الأساس تكمن في مفهوم المواطنة وأثرها المعيشي على المواطن، حيث تم طرح هجرة الأدمغة البحرينية إلى الخارج في الفترة الأخيرة، وهو تحصيل حاصل ونتيجة لا يمكن لنائب أن يأخذها ببساطة ويضعها في قالب المطالبة بتشريعات للحد من تلك الهجرة دون المعرفة الحقيقية للأسباب وتبعات تلك الهجرة.

    ومن ناحية أخرى تقل المساحة المخصصة للمنافسة الاقتصادية العادلة مع وجود أعداد لا يمكن الجزم بحجمها ممن حصل على الجنسية البحرينية وفق الشروط وروح الدستور من غيره، فضلاً عن شح في الموارد وزيادة عدد الأفراد في المساحة المسكونة أو المسموح بالعيش عليها.

    هذه العوامل، بالإضافة إلى أثرها الاقصادي على مستوى المعيشة، تثير السؤال عن تبعات السيناريو الأسود الذي قد يحصل بإصرار أمريكي وتحمّس صهيوني لضرب إيران.
    من لا يشعر بالإنتماء إلى الأرض التي يسكن عليها فما أهون عليه تركها عندما تتعرّض لخطر أو هزّة، وكما كانت الدجاجات لا يشعرن بإنتماء إلى المكان الذي كنّ فيه، وهربنّ عندما واتتهنّ الفرصة، فنخشـي أن يتكرر هروب الدجاج كما حصل إبّان الغزو العراقي الاثم على الكويت، وقد استفادت الأخيرة من التجربة بفعالية كبيرة، وضمنت عدم إيكال “الخيط والمخيط” كما يقولون للدجاج الذي يفكّر في الهروب عند أي أزمة.

    لا يمكن الوثوق ببقاء الدجاج في القفص إن فتحت له الباب، فتلك فطرته وإن كان “داجناً”، وما سيسببه هروب الدجاج هو فراغ حاد في مفاصل أساسية في المجتمع في دوائره الاقتصادية، وقبلها وأهمها علاقة الثقة التي تبحث عن قاعدة عملية في المستوى المعيشي، ولا يمكن تعويض ذلك الفراغ بين عشية “أزمة حرب” وضحاها بسهولة، وخصوصاً عندما يتم “تهجير” وطيران العقول الوطنية، وتدجين الدجاج البري.
    ونخشى أنّ مراكز التدفق المالية مصدراً وصرفاً تهرب مع هروب الدجاج، فهل يمكن الرهان علي دجاجات يفزعنّ عند كل ناعق وصريخ؟!