هيتَ لك

جعفر حمزة*
التجارية ٢١ يناير ٢٠٠٩م

لم تكن بحاجة للتودد إليه، فهي فاتنته وحبيبته بل وأكثر، لذا فهي “واثقة” من أن عينه لن “تزيغ” عنها، فكانت كما أرادت. إنسان محب عاشق لها يسايرها ويماشيها ويستلذ بصحبتها في أي وقت وفي أي مكان.
وقد تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فظنت أن صاحبته السمراء الجديدة -القديمة- عليه، قد تعكّر صفو الود والصلة بينها وبينه، فصاحبته تصبح وتمسي عليه من خلال نشرات الأخبار والصحف، وقد تحضر معه في المسيرات وأحاديث الناس في مجالسهم “الإسمنتية” أو “الإلكترونية”، فأصبحت -أي صاحبته السمراء- مدار الحديث والإهتمام.
فهي -قضية غزة- بل وفلسطين كان لها الحضور الفاعل في الفترة الأخيرة من تفكيره في غدوه ورواحه، إلا أن تلك “الفاتنة الأولى” لم يرمش لها جفن؛ لثقتها بأن “فتنتها” و”جاذبيتها” كفيلة بأن تُعيد ذلك الإنسان إلى جدوله اليومي و”روتينه” المبرمج معها. فهي تكون معه في أكله وشربه ولباسه وتنقله ووسائل اتصالاته، بل وحتى في أغراضه الخاصة جداً جداً، فكيف له بالابتعاد عنها أو “مقاطعتها”؟ فالأمر بالنسبة له شبه محال، إذ لا يقدر العيش بدونها وأنّى له ذلك؟ فهي معه من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، فكيف الخلاص منها؟ ولم يريد الخلاص أصلاً؟

تلك هي الماركات والعلامات التجارية التي نسجت حياة صاحبنا اليومية حتى غدت “الحمض النووي” فيه، بل و”الهواء” الذي يتنفسه. فهل تسأل أحداً الكف عن التنفس؟

لم يكن صاحبنا متحيراً لتلك الدرجة، فهو -كما يتصور- يجوز له الإقتران بأكثر من واحدة، وهذا ما حصل، فاقترن بمأساة غزة سمعاً وهو يرتشف “حبيبته” القهوة من “ستاربكس” طعماً، وبعد أن أنهى بعض مسيرته مشياً، عرّج على “بيبسيته” أو “كوكلته” شرباً. ،هكذا يصبح الجمع بين الضرتين جائز، بل وواقعي، فلا ضير أن ترضي إحداهما ليلة، وتكون الليلة الأخرى من نصيب الثانية. بل لا مانع من أن يجمعهما معاً في وقت واحد. إذ يمكنه رفع صوته “مناصراً” لصاحبته الأولى “قضية غزة وفلسطين”، ويقبّل الأخرى بعدها بشربه السجائر الأمريكية بعد أن منح حنجرته “وقتاً مستقطعاً” لإكمال مسيرة “حبه” لصاحبته السمراء.

وقد تجرأت بسؤال أحد أولئك الجامعين بين الإثنتين بالقول “أتحب فلسطين؟”، فرد بضرس قاطع بالإيجاب وهو يرتشف إحدى المنتجات الداعمة للكيان المحتل الغاصب، وعند سؤالي الثاني عن قدرته على الجمع بين “الضرتين” هوى صعقاً مستنكراً بالقول “أتريد منا أن نموت؟ أو نرد على أدبارنا بركوب الجمال والحمير؟”. ولم أعرف لإجابته مغزىً سوى أن الصاحبة الشقراء القادمة من الغرب قد “لحست عقله” كما يقولون وأخذت منه كل مأخذ، حتى أصبح الحديث عن مقاطعة المنتجات الأمريكية ضرباً من “اللاواقعية” و”اللامنطق” و”الكلام الحماسي” و”..” القائمة تطول.
إذن عليكم بقراءة الأسطر التالية لنعرف إن كان “قيسنا” يستطيع العيش بدون “ليلاه” الشقراء أم لا؟

ذكر السيد “آن ماك”الخبير في اتجاهات التسويق في وكالة الإعلانات الأمريكية العالمية “جي دبليو تي” في تقريره الخاص بسوق المسلمين في العالم، بأن الإهتمام في اتجاهات التسويق والإعلان والترويج في تلك السوق مهمة جداً لمعرفة نوعية الخطاب الموجه لتلك الفئة المستهلكة الضخمة، والتي تتميز بوجود خلفية ثقافية دينية يجب معرفتها، لفهم مفاتيح الخطاب الإعلان والتوسيقي لهم. وقد أفرد دراسة بهذا الخصوص.
ولا غرابة في ذلك إن علمنا بأن تعداد المسلمين في أمريكا يبلغ ٨ مليون مسلم، ويتجاوز المليار و٦٥ مليون مسلم حول العالم، أي ما يعادل ٢٠٪ من كثافة السكان في الكرة الأرضية.

وعوداً إلى صاحبنا الجامع بين الشقراء والسمراء، فإن كانت سوق المجتمعات الإسلامية لها هذا الحضور كقوة شرائية يُحسب لها وتفرد من أجلها الدراسات، وتقام على شرفها معارض المنتجات الحلال في الأسواق الأجنبية قبل الإسلامية، فهذا مؤشر على قوة اقتصادية “مستهلكة” ضاربة، يمكن الاستفادة منها عند توجهيها بالطريقة الصحيحة في إعادة التفكير لسياسات الشركات الأمريكية والغربية الداعمة للكيان الصهيوني والعاملين ضد قضايا الأمتين العربية والإسلامية بصورة عامة.

فإذن لدينا القوة العددية التي لا يُستهان بها، ولا نسأل للعودة إلى الجمال وركوب الحمير، بل العودة إلى الضمير وحساب الربح والخسارة لتشكل قوى ضغط يصل صوتها إلى مسامع من يحولون مصادر ثرواتنا الطبيعية إلى علامات تجارية تُباع لنا مرة أخرى. لم نسأل مقاطعة برامج الحاسوب الضرورية ولا المنتجات الإلكترونية ولا كل ما من شأنه أن يُبطأ من سير حركتنا نحو العمل والتطوير، ما سألناه هو أن نقطع صلتنا بتلك “الفاتنة” لنا كل يوم من مشروبات غازية وسجائر ومطاعم. أفكثير هذا على ما ندعيه من وصال بها ليلاً ونهاراً؟
فتلك الأمور ليست ضرورية للمعيشة، فما بالنا قد أخذنا الهوس والشغف بالشقراء حتى بتنا لا ننام إلا معها ونصحو عليها كل يوم؟

إنّ المعادلة أسهل مما نتوقع، فهناك دورة حياة للمنتجات تنتهي عندي أنا وأنت -أي عند المستهلك-، وعندما تمتنع عن شرائها فإنك بمثابة من قطع الحلقة الأخيرة من سلسلة المنتج، فبعد التصنيع والتسويق والترويج والشحن يكون الأمر بيدي وبيدك لأن نقطع تلك السلسلة، وخصوصاً لمنتجات لها اليد الطولى في مساعدة الكيان الصهيوني المحتل. إلا أن البعض لا يريد “وجع الراس”، حيث يقول “وما الذي سأحدثه من فرق؟، فهناك غيري يذهب لهذا المحل ويشتري ذلك المنتج. فما الفائدة؟”.

ونقول إن غياب الشعور بإحداث الفرق ولو بصورة بسيطة، فضلاً عن تحجيم قدرتنا الشرائية التي بمقدورها أن تغير الأرقام ولو جزئياً، هو وقود استمرار ذلك “الإنجذاب” نحو تلك الماركات، كالذي هام حباً في امرأة ويعتقد أن العيش من دونها محال.

وبالرغم من وجود دوافع المقاطعة من قبل ٢٠٪ من سكان العالم تجاه تلك البضائع التي تدعم كياناً غاصباً محتلاً، إلا أن الصورة غير مكتملة الملامح في ظل غياب وعي شعبي مدروس، ومرجعية اقتصادية واقعية، فضلاً عن تقاعس اجتماعي يشترك فيه المثقفون والاقتصاديون وعلماء الدين والإعلاميون. فهي رسالة مفادها أن الشقراء لم تعد مالكة القوة في القلوب، وقلوب من؟ أكثر من مليار مسلم يضخون المال لشرايين صناعات تساهم بطريقة أو بأخرى في دعم “فيروس قاتل” بالمنطقة؟

ومع ذلك، تتربع الشقراء بمنتجاتها على القلوب، وتقول لك دوماً عندما تقترب منها شراباً ومأكلاً وملبساً، تقول فاتحة ثغرها “هيت لك”. فهل تستجيب؟

* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

Leave a Reply