Wake Up

جعفر حمزة*

التجارية ١٧ ديسمبر ٢٠٠٨م

اشتدت رغبته في لقاءها، فطفق مُسرعاً إلى محل تواجدها الدائم في ذلك المكان الموعود، وما إن جلس معها حتى اقتربت من شفتيه، وأحس بسخونتها المعهودة। ولمسها بكلتا يديه “متشبثاً” بها في ظل شتاء اقترب। فهي إلى كونها رفيقته الدائمة، فلها ميزة أخرى، فهي تُريح أعصابه من الكم الهائل من ملفات “كابوسية” تُلاحق كل فرد من أقرانه من أزمة سكن، وضنك من العيش وسياسة توجع الرأس وتكسر الظهر.
وكانت سريعة الاستجابة له، فلبت طلبه في غضون دقائق معدودات، فجلس معها مستفرداً مستأنساً، وما إن “شربها” حتى “ارتاحت” أعصابه. أتخدعه، أم يخدع نفسه بها؟ أو ربما الإثنين معاً! كانت تلك قهوة “ستاربكس” على يمينه والصحيفة اليومية على شماله، وما إن وقع بصره على ذلك الخبر حتى انشرحت أساريره وكبرت “عشيقته” القهوة في عينيه। ومفاد الخبر أن “ستاربكس” تطرح مشروبات جديدة لدعم مكافحة الأيدز في أفريقيا، وذلك عبر تبرعها بخمسة سنتات لقاء كل كوب يتم بيعه. (1)
فرفيقته ذات شأن، وتهتم بالجانب الإنساني، حالها كنجمات السينما الشهيرات ك”أنجلينا جولي” وغيرها ممن يهتم بالفقراء والناس البسطاء। فاختياره لها رفيقة كان موفقاً وفي محله। وقد أطراها أمام صاحبه في مساء ذلك اليوم، إلا أن نشوته بها لم تكتمل، فصاحبه يعلم “خبايا” و”أسرار” صاحبته “ستاربكس” الخفية، فرفض ما سمع في البداية، وبعدما قدم صاحبه له الدليل تلو الدليل تحول ذلك “الشغف” إلى “تردد”، و”الحب” إلى “شك”।

فما هي الحكاية؟ وما الذي تُخفيه “ستاربكس” عن “عشاقها” و”روادها”؟، والذي امتد عشقها إلى أن تتكون جماعات ضمن “الفيس بوك” تيمناً باسمها. وما سر القهوة السمراء التي أخذت ترمي بخيراتها على القارة السمراء، بل وأصبحت تساهم وبسخاء ملحوظ في مشروعات كبرى كتلك التي تدعم مكافحة الأيدز في أفريقيا؟

قد يختصر الأجوبة فيلم وثائقي أحدث ضجة في أمريكا وبريطانيا، بل ودفع مسؤولين كبار في أثيوبيا للمطالبة بحقوق المزارعين التي تحصد شركة “ستاربكس” من وراءهم ثروة ضخمة، ولا يحصل مزارعو البن في تلك الدولة إلا أقل من فتات فتات “الفتات”.
فما هو الفيلم الذي فضح رفيقة صاحبنا العاشق؟ Black Gold هو اسم الفيلم، وعنوانه الفرعي التفاعلي هو Wake up and smell the coffee وقد أخرجه الأخوان” نيك ومارك فرانسيز”، ويتناول الفيلم تجارة البن واستغلال المزارعين من قبل الشركات الضخمة “الهوامير” ، ويقول أحد مخرجي الفيلم ” نيك فرانسيز”: إن فكرة فيلم “الذهب الأسود” انبثقت من اهتمامه بقضايا فقر مزارعي البن في أثيوبيا، في الوقت الذي تحصد فيه شركة مثل “ستاربكس” ملايين الدولارات من جراء بيع القهوة في فروعها المنتشرة في كافة أنحاء العالم.
ومن الجدير بالذكر أن شركة “ستاربكس” والتي تتخذ من مدينة سياتل الأمريكية الجميلة مربعاً لها، تجني أرباحاً سنوية تُقدر ب ٧.٨ مليار دولارأمريكي، وهو -أي المبلغ- ليس بأقل من ناتج الدخل القومي الإجمالي لأثيوبيا! ويتضمن الفيلم العديد من المعلومات والحقائق التي تتحرك خلف صورة العلامة التجارية لإحدى أكبر سلسة المقاهي في العالم، والتي تتعدى مساحة عملها مكان بيع تلك “القهوة المميزة”، لتصبح في مصاف العلامات التجارية التي تظهر في الكثير من الأفلام صورة وكلمة. بل تضع بصمتها “الإنسانية” خلال بعض مشاريعها، ومن ضمنها ما ذكرناه بخصوص “دعمها” لمكافحة الأيدز في أفريقيا، وهي القارة التي تحرث من وراء مزارعي البن فيها ثروتها الضخمة.(٢)

ولو لم يحدث هذا الفيلم فرقاً، لما بادرت شركة “ستاربكس” بالتحرك للدفاع عن سمعتها وعلامتها التجارية والمبالغ الطائلة التي دفعتها لتنوء بنفسها عن ما ذكره الفيلم عنها। وذكرت وكالة “الآسوشيتد برس” بأن شركة “ستاربكس” رفضت مقابلة المخرجين أثناء قيامها بعمل الفيلم، ولكن بعد عرض الفيلم في مهرجان أفلام “Sundance” السينمائي، دعت “ستاربكس” المخرجين إلى مقرها الرئيسي في” سياتل”. ويعتقد “نيك فرانسيز” أن فيلم “الذهب الأسود” ساهم في التعجيل بعقد اجتماع بين كبار المديرين التنفيذيين في شركة “ستاربكس” وبين رئيس وزراء أثيوبيا.
وللعلم، فإن مقدار الباوند الواحد من البن، والذي يستلمه المزارعون في أثيوبيا هو ١.١ دولار أمريكي، في حين يبلغ مقدار الباوند الواحد الذي يستلمه تجار التجزئة ١٦٠ دولار أمريكي. وبحسبة أخرى، فإن ما يتم دفعه مقابل فنجان قهوة وهو ٣ دولارات تقريباً، يتقاضى مزارعي البن في المقابل ٣ سنتات فقط! وتعقيباً على “المبادرة الإنسانية” التي أطلقتها “ستاربكس” لدعم مكافحة الأيدز بأفريقيا، وهي ليست الأولى من ضمن مبادرات الشركة، حيث قامت بالتبرع في عام ٢٠٠٥م بالتبرع بمبلغ ١.٥ مليون دولار أمريكي للعالم الثالث. وتعقيباً على ذلك نقول ما قاله أحد الذين شاركوا في الفيلم، وهو أثيوبي :”نحن لا نريد هذا النوع من الدعم، نحن نريد سعراً عادلاً لمزارعينا. إنهم يجنون من وراءهم أرباحاً طائلة، وإعطائنا جزءً من حقنا لا يساعدنا البتة”. (٣)

بعد هذه الجولة الصغيرة في دهاليز علامة القهوة الشهيرة، يبقى السؤال متوقفاً في إحداث الفرق والتغيير في سلوكيات كبرى الشركات الأجنبية، والتي تقوم باستغلال رخص الأيدي العاملة، فضلاً عن تهميش حقوق العمال في بداية سلسة إنتاجها।
والفرق يأتي مني ومنك، من الطرف الأخير في السلسلة وهو المستهلك، إذ بدون المستهلك لا تكتمل الحلقة، وبالتالي لن يكون هناك عائد لمثل هذه الشركات التي “تقتل القتيل وتمشي في جنازته” كما يقولون. وهذا غيض من فيض من “جاذبية” العديد من العلامات التجارية الشهيرة، والتي تمتد من المشروبات الباردة والساخنة، مروراً بالمأكولات والملابس، وانتهاءً بمستحضرات التجميل، والتي تمر عبر العديد من التجارب على حيوانات لا حول لها ولا قوة وبطريقة بشعة.(٤)

وكوننا في نهاية الحلقة، ويتم إخفاء الحلقات السابقة، فإننا نساهم بطريقة أو بأخرى في استمرار الاستغلال السيء للعمالة ذات الأجر المتدني من مزارعين، وعمال نساء وأطفال في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وبعض دول أوروبا الشرقية. إنّ العلاقة “الودية” بين الفرد والعلامة التجارية التي تخفي الكثير من ملفاتها عن “محبيها” ينبغي أن تتوقف من المستهلك نفسه، فلا يستمر أي ود بعد ذلك، أرأيت حباً يستمر إن كان من طرف واحد فقط؟ لقد باتت العديد من الشركات الكبرى باستغلال الأيدي العاملة الرخيصة جداً في البلدان النامية وما دونها، لتدور “تروس” مصانعها من بلدان النفط “الغنية” و”الفقيرة” باكتفاءها الذاتي، ليتم تصدير تلك المنتجات ذات العلامات التجارية والشهيرة و”ذات السمعة” من ثروات شعوب النفط وعرق شعوب أخرى إليهم من جديد، وتكون النتيجة حصد أموال مضاعفة من الشعوب التي لا تستأنس بجلوسها إلا عند شربها ل”ستاربكس”، ولا تشعر بالراحة إلا عند لبسها هذه الماركة أو تلك، والتي عليها الكثير من الإشكالات الأخلاقية في صناعتها. وبصريح العبارة، يتم استخدام ثروات شعوب وتعب شعوب أخرى ليتم بيع منتجات تلك الدول “المتقدمة” لنفس تلك الشعوب لصرف ما تبقى في جيوبها لهذه العلامة أو تلك। ما نحتاجه هو وقف تلك التروس الضخمة للعديد من المصانع التي “تحرث” من ظهور المعوزين والعاملين من نساء وأطفال، ليس بمظاهرة أو رفع يافطات أو الامتناع عن أساسيات العيش “الكريم”، ما نحتاجه هي وقفة إنسانية مستمرة قد تُعيد النصاب إلى ميزان مختل أصلاً غذته قوانين واتفاقيات مُحاكة بليل لضمان مصلحة “هوامير” الدول من اتفاقيات التجارة العادلة واتفاقية التريبس وغيرها.

ما نحتاجه هو أن نستيقظ من شرب عرق العمال في زجاجات وعلب معدنية أصبحت جزءً من حياتنا اليومية، وأن نستيقظ من لبس أحذية من عمر الصغار في آسيا وأمريكا الجنوبية، وأن نستيقظ من لبس ثياب تم إجهاد المئات بل الآلاف من النساء في صناعتها وحياكتها لي ولك، وأن نستيقظ من وضع بعض المساحيق التي تُضفي جمالاً على نسائنا على حساب دماء حيوانات بريئة يتم استغلالها ببشاعة مفرطة। ما نحتاجه هو فنجان قهوة قوي “سادة”، ولكن من نوع آخر، فنجان قهوة يوقظنا من سبات نمط حياة مزيف ندعيه، ونحرث من أجله على ظهور المستضعفين من داخل أفريقيا إلى أطراف آسيا ومن شرق أوروبا إلى أمريكا الجنوبية، لنشعر بأننا نحدث فرقاً كأفراد يعيشون إنسانيتهم دون الدخول في برمجة الأقنعة التي تصنعها العديد من الشركات العالمية। ما نحتاجه ليست قهوة صاحبنا الذي طلقها ثلاثاً وعاهد نفسه بأن يكون مستيقظاً، ما نحتاجه هو أن نقول لأنفسنا وللآخرين Wake Up

(1) صحيفة الوقت، ١٢ ديسمبر ٢٠٠٨م.
2)
http://www.blackgoldmovie.com/
3)
http://www.guardian.co.uk/business/2007/jan/29/development.filmnews
4)
http://www।peta.org/

فكرة الصورة المرفقة مع الموضوع مقتبسة مع تعديل يتناسب مع سياق الموضوع من الوصلة التالية
http://adsoftheworld.com/media/print/wake_up_coffee_mountains

Leave a Reply