الكرة أم الرقاقة؟


جعفر حمزة*
التجارية ١٥ أكتوبر ٢٠٠٨م

لم تبدأ المباراة حتى تبيّن لي أن الفريق الذي اخترته للعب به في “البلاي ستيشن ٣” قد كان يحمل شعار طيران الإمارات على قمصانه، وانتشيت فرحاً، فطيران الإمارات أصبحت من أشهر الماركات العالمية، وامتد إنتشار حركتها لتكون داعمة لإحدى الأندية الأوروبية، وانسحب الأمر إلى كل التغطيات الإعلامية والإعلانية،لتكون إحدى صورها وجود شعارها في لعبة يتمتع بها الملايين حول العالم، وبطريقة تفاعلية مباشرة أيضاً عن طريق الإنترنت.

وقد أنعش ما رأيته خبر شراء بعض الأندية الإنكليزية من قبل بعض المستثمرين الخليجيين، فهل أصبح دعم أو شراء الأندية الشهيرة كحصان طروادة للترويج أو الربح والاستثمار الذي يستحق ضخ الملايين فيه؟ وهل شراء بعض المستثمرين العرب الخليجيين لبعض الأندية الإنكليزية الشهيرة يمثل خطوة مهمة في الاستثمار المطلوب؟ وخصوصاً في ظل تغيرات وتقلبات وتحديات اقتصادية قد ترسم سياسة الاقتصاد العالمي من جديد، وخصوصاً بعد الأزمة المالية التي ضربت أرض العم سام وكل العالم؟
وفي قبال ذلك يحصل الآسيويون على جرعة قوية من أولويات الأبحاث التي تقودها السوق جراء تدفق الشركات الأمريكية। ففي السنوات الخمس الماضية أقامت أكثر من ١٠٠ شركة، بما فيها “جنرال موتورز”، و”بوينغ”و”موبيل”، مراكز أبحاث وتطوير في الهند. وقد وضعت “جنرال إلكتريك” أكبر مختبر لها خارج الولايات المتحدة في” بانغلور”، حيث توظف الشركة ١٦٠٠ باحث معظمهم من الهنود.
كما أن “جونسون آند جونسون” و”دوبونت” و”بروكتر آند غامبل” وغيرها من الشركات تعكف على النظر في أمر إقامة مختبرات خاصة بها. ويقول “آر آيه ماشلكار” رئيس مجلس الأبحاث العلمية والصناعية: (لقد أدرك العالم أنه إن لم يكن لديك عنوان في الهند -في مجال الأبحاث والتطوير-، فإنك غارق في مشاكل). (١)
وبين ضخ الأموال لدحرجة الكرة وهتافات جمهور الملعب الأخضر، وبين جذب الأموال لتصنيع رقاقة، لابد من التوقف عن اللعب والبدء في فتح اللعبة ومعرفة ما بداخلها.

فأين الكرة؟

يقول نجم فرنسا السابق ورئيس الاتحاد الأوروبي كرة القدم “ميشيل بلاتيني”، تعليقاً على ظاهرة إقدام الأثرياء والممولين الأجانب على شراء نوادي الدور الإنكليزي 🙁 إذا جلبت أناساً من قطر إلى نادي ليفربول أو مانشستر على سبيل المثال دون أن يبقى فيهما أحد من المدينتين। ماذا تبقى من ليفربول أو مانشستر؟ لا أعتقد أن ذلك شيء جيد. فعلى القطريين استثمار أموالهم في قطر).وأضاف :(عليهم تطوير كرة القدم في بلدانهم). وهل هناك أوضح من هكذا رد قوي وواقعي؟
ويبدو أن هناك توجهاً لوقف المد الأجنبي عموماً والعربي منه خصوصاً في استملاكهم للأندية الإنكليزية. حيث يمثل ذلك تشويهاً لهوية كرة القدم، كما يشير إليها “بلاتيني” بالقول :(ما هي كرة القدم؟ كرة القدم مجرد لعبة اكتسبت شعبيتها من قضية الهوية، فالهوية أساس شعبية كرة القدم، إذا فقدتها فقدت شعبيتها). (٢)

وتدفع مثل هذه الصورة من الإنفاق كما يسميه البعض أو الاستثمار، سمّه ما شئت، إلى التفكير في السلوك الاستثمارأو الإنفاقي على مستوى الفرد والمؤسسات والحكومات في دول الخليج العربية خصوصاً، نتيجة ما تعيش عليه من نعمة نفط بدت الدوائر الاقتصادية الغربية والشرقية بالتفكير الجاد في التخفيف من الإعتماد عليها شيئاً فشيئاً.

فعلى مستوى الأفراد يطرق سمعنا إنفاق مبالغ طائلة من أجل لوحة سيارة ذات رقم “مميز” في الإمارات، وحجز البعض لرحلات فضائية سياحية من السعودية، وطلبية خاصة لسيارة مرسيدس مرصعة بالألماس من أجل “زبون” إماراتي। هذا فضلاً عن السلوكيات الفردية في الإنفاق والإنجذاب “الجمعي” نحو المسابقات والحفلات التي تدر الأموال الطائلة।

وأما على مستوى المؤسسات والشركات، فقد أصبح الإندفاع نحو الاستثمار العقاري “موضة” الكثير منها، فمن تدشين المشاريع على البر، إلى غزو البحر، بل وحتى تحت البحر أصبح “هوساً” مبرمجاً لدى الكثير من المؤسسات والشركات الاستثمارية، والتي يبدو أنها “تنفخ” في فقاعة قد تكون مشابهة لتلك التي انفجرت في الولايات المتحدة إثر أزمة الرهن العقاري. وأما على مستوى الحكومات، فالملاحظ في معظم توجهاتها النية عبر الإعلان عن الرغبة في تنوع مصادر الدخل والسير نحو ذلك، وإن كان بخطوات بطيئة في أغلبها، وعبر تصريحات إعلامية، في حين نرى الخطط الاستثمارية في الموارد البشرية والاقتصاد المعرفي شبه مغيبة، ولا تفرد لها مساحة من الاستثمار، في قبال التغني بتنوع الاستثمارات، وفتح المجال للاستثمار الأجنبي المباشر “إف دي آي”.

وأين الرقاقة؟

هناك العديد من الفرص، والتي تجعل من دول الخليج العربية أكثر من مجرد مشاريع “الأكبر، والأطول والأضخم” في قبال استثمارات بعيدة المدى تسعى لتنوع مصادر الدخل القومي، وتجعل من أراضيها ساحة لاحتضان استثمارات تعود بالفائدة على مواطنيها وحكومات تلك الدول، ومن أبرز الأمثلة على ذلك الهند وتايوان وسنغافورة، حيث تمثل “بنغلور” في الهند أنموذج متقدم ومتطور في مجال الأبحاث العلمية والصناعات المستقبلية من أدوية بالخصوص وغيرها من الصناعات الذكية।
والحديث عن الاستثمار في المجال التقني مهم وضروري، بلحاظ حجم الإنفاق الذي تحتضنه أسواق منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً للمنتجات التكنولوجية. وذلك ما ذكره ولي العهد عند زيارته لليابان، حيث ذكر ما قاله وزير التجارة الخارجية الإماراتي قبل حوالي شهر أن سوق دول مجلس التعاون الخليجية المستهلكة للإلكترونيات نمت بمعدل ٣٠٪ هذا العام، لا سيما أن سكان هذه المنطقة في نمو مستمر. (٣)

وبالرغم من وجود ثلاثي الاستثمار الممتاز، وهي الوفرة المالية والقوانين الحكيمة المشجعة والأيدي العاملة الماهرة، وكلها متوفرة في دول الخليج العربية، إلا أن التوجه الحاصل عملياً هو النفخ في فقاعات تزداد حجماً، تُنذر بفراغات لا يمكن ملؤها عندئذً। فمن الإفراط في الاستثمار العقاري الموجه نحو فئات مُتخمة أصلاً إلى فتح الباب على مصراعيه فيما يتعلق بالشركات الأجنبية دون وجود خطة في إدماج العمالة الوطنية فيها، ومن “تطرف” في الإنفاق على لوحة سيارة بالملايين أو مئات آلاف لرحلة فضائية إلى شراء أندية أجنبية وكأنها الحصان الرابح والذي يمكن المراهنة عليه।

تأتي تلك العقلية ضمن بيئة خصبة يغذيها بطء في إصلاح السوق المحلية، ويتمثل ذلك في أبسط صوره عبر غلق الأبواب لأخذ وكالات للسيارات بدلاً من “وقفها” على اسم واحد.ومن جانب آخر هناك تعثر لا يمكن تبريره في مجال تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في بعض المجالات، والتي يعتبرها البعض ممن لديه حضور “هاموري” في السوق، بأنها “زيادة” لا داعي لها، وبالتالي ينتفي وجود تعزيز للتنافسية في السوق. فضلاً عن تواجد لا يمكن إغفاله للفساد، بدليل حلول البحرين في المرتبة ٤٣ على مستوى العالم في مؤشر مدركات الفساد للعام ٢٠٠٨، متخلفة عن كل من قطر والإمارات وعُمان بين شقيقاتها في دول أعضاء في مجلس التعاون الخليجي “. (٤)

وللوصول إلى مستوى مقارب لمدينة “بانغلور” أو “تايوان” في الاقتصاد المعرفي، والذي سيوصلنا وأجيالنا إلى اقتصاد مستقر ومتطور ومنافس، علينا وقف الخطابات ووضع الخطط وتنفيذها، والشفافية والمصارحة للخروج من عقلية نفخ الفقاعات المتتالية، وترك الكرة قبل أن يتم حجر الاستثمار فيها في الدول الأجنبية من جهة، ووقف سكب أموال النفط هنا وهناك وتوجيهها نحو توظيف ذكي وبعيد المدى।

فهل يستمر السعي نحو شراء الأندية وترك الأندية المحلية من جهة، في حين تسعى دول ليست ببعيدة عنا في الاستثمار المعرفي الذكي من إيران وتايوان والهند وسنغافورة؟

*مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.
(١) نيوزويك، العدد ٢٢٨।
(٢) الوقت، ١٠ أكتوبر ٢٠٠٨م.
(٣)الوقت، ١١ أكتوبر ٢٠٠٨م.
(٤) الوقت، ٥ أكتوبر ٢٠٠٨م.

Leave a Reply