نص بطيخة!


جعفر حمزة*


تنظر لأباها باستعطاف ليشتري لها لعبة كتلك التي أعطاها هدية لرجلين من أجل ابنتيهما، فيرفض الأب ويخبرها بأن لعبتها لم يمرعليها عام، وعليها أن تصبر للعام القادم.

فيتقدم أحد الرجلين للأب بعرض لعبته الهدية للبنت، فيرد الأب قائلاً: نحن لسنا مثلكم في الخليج، حيث نشتري ما نشاء لأبنائنا، بل إننا نعودهم على الاقتصاد والتوفير والقناعة، وليس كل ما هو موجود يجب أن يكون بين يدينا.

لم يكن ذلك الأب بموظف عادي قد تعوزه المادة ليشتري لابنته ما تريد، فهو مدير عام لإحدى الشركات الكبرى في جنوب أفريقيا، وراتبه لأربعة أشهر يكفيه لشراء بيت فاخر. كانت تلك الكلمات التي أجاب بها المدير العام للموظف البحريني درس عملي أعاد تفكير الأخير في عاداته الشرائية والسلوك الاستهلاكي الذي “يقضم” من مورده المالي الشيء الكثير.

لقد أصبحت العادات الشرائية من أهم المواضيع المطروحة اليوم في مجال الغذاء وارتفاع أسعار الوقود وطفرة الغلاء الفاحش في أسواق العالم بلا استثناء. وما يزيد التحدي هو نمط العادات الشرائية التي تغذيها العولمة عبر الإعلام والإعلان.

ولا يمكن التغافل عن أسباب رئيسية أخرى ساهمت في تشكيل “تسونامي” الغلاء العالمي، مثل الارتفاع في سوق العقار الأمريكي، واستخدام بعض المواد الغذائية كوقود نووي، فضلاً عن التغيرات المناخية التي ساهمت في “انكماش” الرقعة الزراعية في العالم، ومع تصاعد موجة الغلاء العالمي نتيجة تلك الأسباب فإننا نساهم بطريقة شرائنا في زيادة حجم المشكلة بدلاً من التخفيف منها.

فعادات الشراء تمثل عاملاً مؤثراً وبقوة في تدفق نوع معين من البضاعة وكميتها في السوق، فضلاً عن المساهمة في “شح” بعض المواد الغذائية وارتفاع أسعارها، فعقلية “الشراء المفتوح Open Buying” للبضائع يجعل منها –أي البضائع- مطلوبة وبشدة مما يرفع من سعرها، حتى لو لم يكن سعرها في بلد المنشأ مرتفع أصلاً. وهكذا تساهم العادات الاستهلاكية في تحديد سعر البضاعة بطريقة أو بأخرى.

وإذا أردت معاينة صورة من ذلك الممط الاستهلاكي فيكفي أن تذهب لأحد متاجر “السوبرماركت” الكبيرة لترى العربات قد أصابتها “تخمة” بحيث يصعب جرها، وكأن الناس في حالة استنفار قبل الحرب، بحيث يشترون البضائع بطريقة مبالغ فيها، وتكتشف بعدئذ أن العربة “المتخمة” هي لثلاثة أشخاص فقط، الأب والأم وابنهما الصغير!

لقد أصبحت عقلية “إملأ العربة على الآخر” جزء من سلوكنا في الشراء، وكأننا نعد العدة لتخزين تلك المشتريات قبل “موجة قحط” قادمة، أو “حرب نووية” بحاجة إلى تخزين أكبر قدر ممكن من البضائع.

إننا بحاجة إلى “تقنين” في السلوك الاستهلاكي وليس “تخزين”، ونحن في بداية “تسونامي” الغلاء وليس في وسطه، حيث يقول رئيس صندوق النقد الدولي “دومينيك شتراوس” في تصريحات لإحدى الإذاعات الفرنسية ” قد يكون الأسوأ في هذه الأزمة لم يأت بعد، وسيتأثر بها مئات الملايين من البشر”. (1)

ويضيف بالقول عن تلك الموجة التي لن تؤثر في البطون فقط بل في الكراسي أيضاً ” أن الأزمة يمكن أن تؤدي إلى الإطاحة بحكومات منتخبة ديمقراطياً حتى لو كانت تطبق سياسات صحيحة”.

وأشار إلى احتمال اشتعال حروب إقليمية بسبب ارتفاع أسعار بعض المنتجات الغذائية مثل الذرة والرز والقمح قائلاً «التاريخ مليء بحروب بدأت بسبب أحداث من هذا النوع، فأسعار الغذاء المرتفعة قد أدت إلى اشتعال أعمال عنف في الكثير من الدول مثل مصر وهايتي.(2)

ويبدو أن البعض قد اتخذ من موجة الغلاء وأزمة الغذاء “مبرراً” للتهكم على شعوب بأكملها من أجل الدفاع عن سياسات خاطئة أقرت بها منظمات وجماعات مدافعة عن البيئة، فلقد حمّلت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” ”تغيّر العادات الغذائية” في البلدان النامية، مسؤولية ارتفاع أسعار الغذاء في العالم، معتبرة أنهإذا كان ثلث الشعب الهندي سيأكل مرتين في اليوم”، و”إذا بدأ 100 مليون صيني بشرب الحليب”، فإن ذلك سيتسبب في ارتفاع أسعار الغذاء. وكأن الهنود أو الصينيون مُجبرون ليأكل عشرة منهم بنفس مقدار ما يأكل الألماني الواحد. (3) ولا يبدو أن خلف ذلك “التحليل العلمي” هو البحث عن السبب في الأزمة الغذائية بقدر ما تقوم به المستشارة الألمانية من “دفاع مستميت” عن برنامج بلدها لإنتاج الوقود الحيوي والتي تراه الجماعات البيئية مساهماً في ارتفاع أسعار الحبوب ومنتجات الألبان.

ويُعتبر كلامها بخصوص “قصور السياسات الزراعية في البلدان النامية، والتوقعات غير الوافية لتغير العادات الغذائية في الأسواق الناشئة” حقيقة لا يمكن التغافل عنها، ولئن كان ذلك من ضمن “دفاعها” عن سياسة بلادها فيما يخص استخدام الوقود الحيوي، إلا أن ما ذكرته بخصوص السياسات الزراعية والعادات الغذائية هو عين الصواب، ولا يمكن صرف النظر عنه.

وهو نفس السبب الذي دفع الرئيس الفرنسي”نيكولا ساركوزي” للحديث أمام مؤتمر دولي بشأن الطاقة والبيئة بباريس بالقول ” من الملح التحرك الآن لتعزيز الأمن الغذائي» مضيفاً أن «الأزمة الغذائية تحتم استجابة فورية بالإضافة إلى إيجاد استراتيجية طموحة لمساعدة قطاع الزراعة”. (4)

وهو ما نحن بأمس الحاجة إليه، فتوسيع الرقعة الزراعية في البلد وطرح مبادرات وخطط زراعية مشجعة كفيلة بتخفيف حدة الأزمة الغذائية في هذه الجزيرة، فضلاً عن وقف التعدي السافر على البيئة البحرية والبرية الذي يساهم في وضع الجزيرة فوق صفيح ساخن بيئي. ولا تنفع حينئذ ناطحات سحاب يكون السحاب ملوثاً والبحر تم ردمه والأرض “محجوزة”.

فمع التغيرات المناخية وتقلبات السوق العالمية، بات الحديث عن تغير العادات الشرائية ووضع السياسات البيئة أمراً ضرورياً، فلا مجال لاستمرار “الكرم الحاتمي” في سلوكنا الاستهلاكي إن كان ثلث الطعام أو حتى نصفه سيكون في “كيس القمامة” و”بطون القطط”، ولا مجال لاستمرار “الكرم الحاتمي” في سياسة مواجهة الغلاء إن كانت السمكة في الطبق كل يوم دون المبادرة في معرفة كيفية اصطيادها. فالحديث المنطقي والمطلوب سيكون حول خطوتين ستؤمنان لنا وللأجيال القادمة عيشاً كريماً معتمدين فيه على أنفسهم لا نفطهم فقط والذي سينضب في خمسين أو أقل من السنين.

وتلك الخطوتان هما:

أولاً: توسيع الرقعة الزراعية والحد من “اغتصاب البيئة” البحرية والبرية والجوية، و البدء بالمحراث في الزراعة وتأمين ضروريات الغذاء وتشجيع البحث العلمي في الجامعات والمعاهد والوزارات المعنية للبحث عن حلول عملية وإبداعية.

ثانياً: مراجعة السلوك الاستهلاكي للأفراد، والعمل على توجيهه بطريقة ذكية وعملية ليكون جزءً من الشخصية. فبدلاً من أن تشتري بطيخة كاملة لك ولزوجتك، يكفيكما “نص بطيخة” فقط.

وما بين المحراث و”نص بطيخة” ملفات عديدة نخشى منها أن ترمي المحراث وتشتري البطيخة لتفسد في نهاية الليل.

(1، 2،4) الوسط 14 أبريل 2008.

(3) الوقت 1 أبريل 2008.

* باحث في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

Leave a Reply