المثقفون يموتون مرتين “هم”… متصالحون معه والمعارك ليست وهمية

ابتعاث منظومة الخلود “القبر “ في “نون “

البلاد ٦ يونيو ٢٠١٠

أجرى اللقاء: هدير البقالي

نموت ونحن مستيقظون، ونموت عندما نتصادم بتفكيرنا معه، ونموت ونحن ننجز آخر انتصاراتنا في الحياة، ويقل صخبنا وثرثرتنا في كل زقاق كلامي، من هنا وهناك، كل هذا وأكثر، لم نفهم نسق الموت، ولا يريد الكثيرون مغادرة هذه الحياة بسن مبكر، أو بسن الشيخوخة حتى، فالأمر بهذه البساطة، مراهنتنا على سر الوجود، وعدم اكتفائنا برغد العيش.
فالمثقف يقدم كل ما يملك في سبيل استذكاره ما بعد رحيله، فالموت إذا، صفة للحرية، يأتي من دون موعد ويسرق أغلى ما لدينا، ولسره غموض يعتري الجسد، وتتسلل الرعشة إلينا، فالنبض يموت، والوجوه تصبح واجمة لأكثر من وجه، قد تصفر وتبهت الملامح، لكنه قادم لا محالة منه، فمجيئه مجلل، ووداعه مؤلم، والسبب العقيم في كل ذلك هو نحن، فألن يحين الموعد لإعداد ما لدينا في هذه الحياة، سؤال جوابه معكم، بعد قراءة الحوار الآتي ،”بنون” البلاد، مع الشاعر سلمان الحايكي، وجعفر حمزة المختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي ليعبروا عن نظرتهم الآنية للموت.


ن: المثقف يدرك حتمية تسربل الموت إلى أطرافه فهل هو متصالح معه؟
الحايكي: نحن كبشر مخلوقين على هذه الأرض الساخنة والتي تجذبنا إليها جذباً نعرف تماماً أن فكرة الموت تراودنا منذ أن أرضعتنا أمهاتنا ورأينا النور يسطع في عيوننا لكن الحتمية الأزلية في الموت أننا لانعرف متى تأتي الآزفة وكما قال الشاعر العربي كعب بن زهير: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته… يوما على آلة حدباء محمول.
لكن أين ومتى… هنا يكمن الموقف الغامض بالرغم من أننا نودع الحياة في سويعات أثناء النوم وسرعان ما نستعيد الحركة الأزلية التي تبعدنا عن الموت وفي نفس الوقت نعيش ونتحداه ولكن بعيوننا لأن الحذر البشري يتفوق على الوجود المادي.
حمزة: الموت هو الغرفة التي ينتقل فيها المثقف، مما يدفعه للعيش والعمل بكأد في غرفته الصغيرة “الحياة الدنيا”، ليتحول الموت عند المثقف الواعي إلى “محفّز” و”دافع” للعطاء ، لأنه -الموت- المحطة التي يترك فيها كل أدوات الإنتاج والتغيير وإحداث الأثر، ليتحول المثقف المدرك للموت إلى جندي متأهب ٢٤ ساعة مسخراً كل ذرة فيه للعطاء والتفاعل بكيميائية ثورية مع المحيط.
ومن هنا يأتي حديث لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) حين يجسد “حتمية الموت” في معادلة عملية دافعة للإنتاج، من خلال ثنائية قد تبدو متضادة وهي قمة التكامل. في حديثه المعروف “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً.
وقد يموت المثقف قبل أوانه عندما ينقطع عن التواصل الحركي مع المجتمع، فبالتالي يكون بعض المثقفين ممن يموتون مرتين، مرة في حياتهم وأخرى بعد رحيلهم. والمثقف الذي يحركّه الموت للعطاء والبذل هو المثقف المتصالح ضمناً وفعلاً معه.

ن: لمَ أغلب كتابات المثقف تتمحور حول الموت؟
الحايكي: لأنه واحد من عناصر الحياة وأقول واحد من عناصر الحياة لأن بعد حياة المثقف تكمن حياة أخرى هي البقاء المادي والتراث الإنساني ولا يمكن لأي مثقف يغادر الحياة ولا يترك أثراً غما أثراً ناقصاً أم شبه متكامل.

حمزة : المثقف يستذوق الموت وذلك يعتمد من أي زاوية ينظر المثقف للموت، أمن زاوية الحركة والإنتاج؟ أو من زاوية التأمل والتفكير المجرد؟ أو من زاوية السوداوية وقطع الأمل؟
والموت للمثقف الحركي عالم يبعث للحركة والتغيير، كونه ضمن حلقة لا تنتهي من سلسلة الحياة.

ن: اللقاء الأخير والكفن الأبيض، والقبر، ألا تشكل نوعا من حلقة الصراع مع المثقف في استحضارها على أرض الواقع؟

الحايكي: حين أودع عزيزاً أو قريباً أو أكون ضمن المودعين والمعزين اشعر في قراره ذاتي أن الراحل أمامي قد ذاق كأس الرحيل الذي سأذوقه بعده وينتابني الحنين إلى القبر الذي سيأخذني بين أحضانه والخوف الذي يعتري الإنسان في هذه اللحظة لا وجود له لأن الإنسان الحي هو الذي يشعر بحركة الأشياء أمامه أما الراحل فلا يعرف قبل الرحيل إلاّ اسم الموت ويتعامل معه كضيف أو سحابة صيف أو يحاوره بهدوء فالموت شيء مكتسب غامض يتحرك في أحشائنا ولا نشعر بالصراع معه إلا ونحن أحياء أما بعد الموت فأننا نورث الحياة لمن هو أقرب إلينا من حبل الوريد.

حمزة: بل تشكل تلك المحطة التي يضع فيها المثقف قلمه جانباً، ويستحضر دلالات الموت بل حتى أدواته ويصبح للبعض من المثقفين “صراعاً” مُنتجاً، صراعٌ مع الزمن لينتج ويحرك ويؤثر ويثور ويغيّر، كلها “حِرَاكات” يسعى المثقف لاستخدامها قبل أن يتوقف الزمن عنده وتتوقف بالتالي الآلات عند عتبة الموت.

ن: أيخشى المثقف من الوداع أو أن يدفن في حفرة طولها بضع سنتيمترات على حسب حجمه؟
الحايكي: الوداع الأخير أجمل لحظات الإنسان لأنه لا يشعر بمن حوله ولا يكتشف قلوبهم وما تختزنه نفوسهم تجاهه عكس الحي الذي يعيش العديد من اللحظات الصاخبة مع الحياة ومع مجموعة من البشر غير الأسوياء الذين يشكلون جانباً من حياته قبل أن يغادر إلى عالم آخر والقبر الصغير الذي نراه اليوم ونحن ننبض بالحياة كبير جداً على أجسادنا وصغير جداً على زمن أحلامنا لكن جمود الحركة والتحولات الفيزيائية للجسد البشري داخل هذه المنظومة القبرية تجعل القبر يتسع في الوقت الذي تذوب الهياكل الجسدية وتتحد مع التراب.
حمزة: المثقف الذي يدرك حركة الوجود ينظر للموت كنقلة “لا بد منها”، وهو يجعل “اللابد” حركة إيجابية في انتظاره الخفي للموت، لأن الأخير موجود بالقوة في كل لحظة، إلا أنه يخرج بالفعل ساعة رحيل الإنسان، لذا فنحن نعيش على الموت كل لحظة كطيف خفي لا نراه برغم وجوده في أصل تكويننا.
والخوف من الموت طبيعة بشرية فهو انقطاع عن الحياة الأم، ووقف لموتورات الحركة وإطفاء المصباح التفكير وفرملة إجبارية لقلم المثقف. والموت للمثقف العامل محصلة طبيعية عليه الاستعداد لها، وعندما تعد العدة لأمر سيقع تقل خشيتك منه. والإعداد معناه شحذ كل الأدوات والإمكانيات من لدن المثقف وتسخيرها من أجل ما يحيط به للوصول إلى مرحلة تفاعل منتج بين مخرجات المثقف والمجتمع وعند تصالح المثقف مع الموت، يبدأ محاربو المثقف بالخوف منه، وخصوصاً السلطات التي تخشى من حركة المثقف التي تحركه رغبة التغيير ووضع المصابيح في طريق الآخرين.

ن: ماذا عن المشاريع التي استنفذت قبيل وفاة المثقف، أيعتبر أنه حقق شيئا مضنيا في حياته بعد رحيله؟
الحايكي: المشاريع التي كان يفكر فيها المثقف قبل الرحيل الحاسم أنه لم يستمر كي يحارب الجهل والأمية الثقافية فالمشروع الحيوي الذي لم يكتمل هو الاستمرار في الحياة لإكماله وهنا تكمن متعة الوجود تقابلها متعة الموت فالشمس تسطع على القبر وتضيء فيه الأجزاء المظلمة التي لانراها وهي المشروع الذي سكن ذهن المثقف ولم يتحقق على أرض الواقع لكنه قد تحقق في الحلم الميتافيزيقي أو ماوراء الشمس.
حمزة: هو في سباق مع الزمن، فليس بحجم ما أنتج يمكن أن يقول أنه “حقق”بل بحجم ما “أثّر” و”غيّر”ليكون امتداد المثقف الفعلي حتى بعد رحيله. من خلال نتاجه الحركي المغير الإيجابي “ينقطع عمل المرء إلا من ثلاث، ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم يُنتفع به”.
وبالتالي فإن المثقف لا يمكنه أن يموت إذا عرف معادلة الخلود، ليبقى ذكره حاضراً مؤنساً مؤثراً مغيراً دافعاً للآخرين عبر فكره ونتاجه.

ن: وسط كل المعارك الثقافية التي خاضها المثقف في عنفوانه، ألا يعتقد بأن كل الرياح الآتية منها ما هي إلا سراب من وهم؟
الحايكي: الحقيقة أن المعارك التي خاضها المثقف في حياته لا تصبح سراباً بل حقيقة من الحقائق النادرة التي تشد الحياة إليها وتحارب الموت فان أسلمنا جدلاً بأن الموت يأخذ كل شيء حي فانه لا يأخذ معه المادة الحية التي لاتموت المادة التي اقصدها الإنتاج البشري المقروء والمسموع والمدفون تحت أرض الحياة… لا وهم إطلاقا مع الثقافة… الوهم أن أتصور الوهم وهماً إنه إعادة إنتاج حياة لم تكن متوقعة أن تذروها الرياح.
حمزة: بل هو تراكم معرفة وشحذ همّة وصقل موهبة وتشذيب مقدرة، كل تلك المعارك ليست معارك “دون كيشوت” بل هي رحلة “سلمان المحمدي” وصراحة وجرأة “أبي ذر الغفاري” وشجاعة “غاندي” وصبر “مانديلا” وثورة “الخميني”.
تلك المعارك الثقافية هي جزء من تكوين شخصيته، فأنّى لها أن تكون وهماً؟.

ن: برأيكما هل الوضع الثقافي يتعرض لانتكاسة الموت، سواء من ناحية الفقر الفكري أو الانزواء بالمنزل بين مكتبة وأوراق، أو الصمت المهمش الذي لا محال منه؟
الحايكي: الموت لا يسبب أي انتكاسة للثقافة ..فهناك العباقرة الميتون الذين تركوا لنا تراثاً ضخماً من القراءة .. هم ماتوا بالفعل وحسب قانون الحياة الأزلي لكنهم أحياء وعلى سبيل المثال لا الحصر الأنبياء والأوصياء والشهداء .. خالق الحياة العظيم منحهم منهجية البقاء في قلوبنا وألهمنا بهم والموت لا يمكن أن يفرق بين الإنسان وعالمه ..أنه التزاوج والإنجاب وتقوية النسل بالوجود فهل يمكننا الاعتقاد بعدم وجود حياة بعد الموت .. لا يمكن الاعتقاد بذلك والقران الكريم ذكر في معظم سوره الكريمة أن الموت حق والنشور حق والرجعة للحياة حق ..إن الانتكاسة الموجودة في الثقافة اليوم هو تخلف الحكومات المسيطِرة على الإنتاج الثقافي الذي أدى كما نرى إلى الفقر الفكري والانزواء في المنازل بين المكتب والأوراق لا يؤدي إلى انتكاسة الثقافة .. هذا العنصر الخلاق لاينتكس بإرادته والتهميش لا يمكن أن يتحقق بإرادة المثقف .. الغزو الفكري والاستعمار العقلي والسيطرة على مقدرات الثقافة وبث السموم في العقول التي تتمتع بابتدائية التفكير عوامل تؤدي إلى توقف الحياة الثقافية مؤقتاً وفي أوروبا يعيش المثقف وينتج ويتوقف عن الإنتاج حينما يشعر بالحنين إلى التوقف أما في الوطن العربي فالتوقف أمر ينبع من داخل السلطة لكن لاتموت الثقافة حتى مع هذه الأوامر الجافة فالثقافة حية لاتموت حتى لو مات صاحبها وذهب خلف الشمس.
حمزة: منهم من يحتضر ومنه من هلك ومنهم من صمد وما اتخذوه سبيلاً. وأيضاً منهم من فسد، تلك هي فسيفساء الوضع الثقافي في أي مجتمع حي، ذلك الخليط الغريب وغير المتجانس بين مثقف ميت يسير ومثقف حي جامد بلا حراك، ولئن كانت عوامل أخرى تحيك سجادة التأمل لمثقف هنا، فهناك أيضاً من يحيك سجادة ليضع المثقف بداخلها ويخطفه، وأخرى يتم حياكتها لتكون زينة للدار، وما أكثرها، وقد يُستخدم بعضها كأداة قتل أيضاً.
فالوضع الثقافي متنوّع، وتكون الغَلَبَة لمن له ثلاثية “الفكرة والوصول والتفاعل”، ومع تزاحم الصور وتدافع الأفكار، حقيق بالوضع الثقافي أن يكون أكثر إثراءً وانتشاراً، لذا لن تكون حجرة المثقف المتهالكة عليه بمعزولة عن العالم مع طفرة التواصل المعرفي، فكل الأدوات بين يدي المثقف، يقطف منها كيف شاء وأنّى شاء ومتى شاء.
ولأن كانت هناك انتكاسة ثقافية حقيقية بعيدة عن “التبرّج الثقافي” ورفع صوت دق الطبول، فذاك نتيجة بطأ في استخدام أدوات التأثير الحالية تارة أو عدم إحاطة معرفة بها، وبين البطأ وقلة المعرفة تأتي الانتكاسة للوضع الثقافي.

ن: ماذا عن حلم المثقف في اللحظات الأخيرة؟
الحايكي: شخصياً وصيتي وهي حلم من أحلامي الكبيرة والضخمة أن يحافظ أبنائي على مكتبتي وكتبي فأنا أسست ينبوعاً واحداً من الينابيع العذبة ولا يتركوا أي كتاب يذهب خارج جدرانها الأربعة .. أنا أعشق قرار سجن الكتب .. إن خرج واحداً منها لا يعود .. إن حلمي الأخير أن أجد المسودات المخزونة وقد تحولت إلى كتب تحمل اسم إنسان يعشق شرايين الثقافة وقلبه ينبض بالحروف الأبجدية للغتنا العربية الجميلة .. لغة القران الكريم والنبي العظيم وآله الكرام المطهرين.
حمزة: ليس للمثقف حلم في لحظة وآخر في لحظة ثانية. فحلم المثقف في تجسيد معنى الإنسانية بعناوينها العامة التي تحترم إنسانية الإنسان وتضعه في منزلته “الطبيعية” لا المصطنعة من اللحظة التي يدرك فيها المسؤولية، وذلك صراع خاضه الأنبياء والرسل والمفكرين والمغيرين وأصحاب الثورة والمبادئ. حلم المثقف أن يكون في صف أولئك الذي يجهدون لإرجاع التوازن الطبيعي لحركة الإنسان مع أخيه الإنسان، دون تمييز أو بطش أو إسفاف. لذا لا يبقى مثقف “إنسان” في حاله ، فهو محارب لإنسانيته التي معناها الوقوف في وجه أصحاب المصالح الذاتية والبرجوازيين الجدد من مفكرين ومتنفذين ومتسلطين وحكام وغيرهم.
حلم المثقف أن يبقى إنساناً أولاً ويسعى ليكون ما حوله في المجتمع يعيشون الإنسانية في صورها المختلفة والمتنوعة.

Leave a Reply