من المصاصة إلى الإطار



جعفر حمزة*

كنت كمن يبحث عن “إبرة” في وسطهنّ، فكلهنّ يضعن المساحيق التي بنت على وجوههنّ حتى باتت كأقنعة تُثقل رقابهنّ، وبالغنّ في “سكب” العطر عليهنّ بدل “رشه”، و”كشفن” أكثر مما سترن، حتى أصبحت أجسادهن تحنّ إلى القماش قرباً.

كنّ تلك القنوات الفضائية العربية التي باتت كآلة نسخ قديمة معطوبة تقوم بعرض “بضاعتها” المستهلكة لتتحول إلى “زرنيخ” يتسرب في عقل المشاهد العربي، ليُصاب دماغه بالتلف مع الوقت، وبالتالي لا يكون هناك مجال “للتفكير” أو “الاختيار” في ظل فتيات ملأن القاعة عن بكرة أبيها، ولا مجال للتفكير في “الإبرة”، والتي تعكس ما يود الإنسان العربي المنصفالوصول إليه من قناة تتفهم واقع المجتمع العربي وتسعى مع “العربي” لينتشل نفسه من “برمجة إحباطية إستهلاكية استعراضية” ، بدت تتحول مع الوقت إلى جزء من تركيبة الحمض النووي في العديد من المجتمعات العربية، وكأن “فيروس” أصابها لتنتشر العدوى أسرع من الضوء.

فتلك الفتياتالقنوات يسعين إلى تهميش مساحة الابتكار والاعتماد على الذات والتصنيع المحلي، لنكون أنموذجاً للرجل العربي الذي يقدم لأطفاله النفط في رضاعاتهم بدلاً من الحليبكما أشار الممثل الكويتي عبدالحسين عبدالرضا في مسرحية باباي لندن
وما يهمنا هو صرف ما لدينا من خيرات النفط وتبذيرها يميناً وشمالاً، دون توظيف عملي لتلك الخيرات للتصنيع المحلي والإنتاج الوطني. أليس غريباً أن نشتري “مصاصات” أطفالنا و”إطارات” سياراتنا من الخارج وهي إحدى نتاجات نفطنا الذي نصدره لدول تبيعه علينا مرة أخرى، وكأننا نشتري نفطنا مرة أخرى وبسعر أغلى بعد بيعنا له؟
في رشارة ساخرة للبذخ والإسراف العربي الخليجي دون التفكير، كما يُشير عبدالحسين عبدالرضا إلى اختراع مذيع يعمل بالغبار.

فلا غرابة أن تضيع “الإبرة” في جموع تلك الفتيات اللاتي اتخذ بعضهن من صف الكلام أو ما يسمونه شعراًأمر يحتاج لجهد ليتم تخصيص ميزانية لإنشاء قنوات خاصة بذلك الصوت الخارج من الجوف، بل ليصبح لدى البعض سبيلاً تعبيرياً مستهلكاً حتى الثمالة، ويتم “شرب” تلك الأموال بعد “إلقاء” تلك الأصوات مما تُسمّى شعراً.

ففي الوقت الذي يموج العالم في أزمة مالية طاحنة وتقوم العديد من الدول بالدراسات ووضع الخطط، ودعوة المفكرين والاقتصاديين للخروج أو على الأقل للتقليل من حدة الأزمة على رؤى الحكومات وتأثيراتها على شعوبها، يبقى البعضفي دولنا الخليجية خصوصاًفي سبحانيته الخاصة فضاءً وطرحاً واهتماماً، وكأننا نعيش في العصر العباسي أو أقل أو أقدم عبر الإنغماس المفرط في الشعر والسباقات والإحتفالات، وكأننا بمنأى عن العالم إلا ما طاب لنا أن ننسبه لأنفسنا منه..
في حين تسعى دول كإيران وماليزيا وتركيا والهند، بل وتايوان لتطوير مواردها وتصنيعها الحديث. بل أن حتى الكيان الصهيوني مستمر في تفوقه العلمي.

ويبدو أن ارتفاع أسعار النفط قبل الأزمة بفترة لم تتم الاستفادة منه أو تحويله إلى مشاريع داخلية للدولة بقدر صرفه للترويج بالخارج، وبالتالي ذهبت أموال النفط للترويج بدلاً من التخريج للعقول والكوادر. وللإنصاف أن يُقال أن هناك جهوداً ونوايا تريد وضع اقتصاد البحرين ضمن مصاف الاقتصاديات ذات الطموح المستقبلي، إلا أن ذلك لا يكفي دون تحويل “الخيرات” الموجودة بين اليد الآن -ولا نعلم إلى متى ستبقى إلى خطط داعمة للاقتصاد وقبلها البشر، لنستيقظ على عقلية عملية دؤوبة للتطوير بدلاً من الاستهلاك والإفراط فيه، وزيادة على ذلك يتم إغفال مجالات التصنيع والابتكار، ولئن كانت الأخيرة عناوين يتغنّى بها الكل دون استثناء، إلا أن ذلك لا يكفي ولا يُسمن من حوع.
فالتحديات الراهنة والمستقبلية تفرض نمطاً جديداً من التفكير الذي ينعكس على نمط سلوك الفرد في الاستهلاك والاعتماد على الذات، ويحتّم نوعاً مختلفاً من عمل الحكومات في الاعتماد على الذات، والسعي لتوفير موارد أخرى بديلة للنفط. حيث العالم يسعى وبجد للبحث عن بديل عن النفط من جهة وتنتفي أفضلية منطقة عن أخرى في النفط، وذلك باستخراجه في أماكن مختلفة في العالم من جهة أخرى. وبالتالي تقل أهمية النفط في منطقة بعينها عن غيرها مع الزمن.
فدوام الحال من المحال.
هذا فضلاً عن وجود عمر افتراضي لتلك الموارد، فهل نخطط للأجيال القادمة أم نبذر ما بين أيدينا بقدر ما نستطيع وكأن مسًّا أصابنا للشراء والاستهلاك والبذخ للصراع من أجل الظهور وإرضاء للنهم الداخلي، سواء على مستوى الأفراد أو الحكومات، في حين يظل التفكير في الاعتماد على الذات في العديد من القطاعات مجرد “ترف في التفكير” و”كلام غير واقعي”، نتيجة وجود السيولة المالية بين أيدينا،ولا حاجة للتفكير في التصنيع أو الإعتماد على الذات،
.
وعوداً إلى “المصاصة” و”الإطار”، فبينهما العديد من الصناعات المشتقة من النفط، والتي بالإمكان أخذ الريادة فيها، فضلاً عن وجود الإمكانية والقدرة لتتحوّل البحرين إلى دولة رائدة في مجال تقنية المعلومات والإنترنت-على سبيل المثال-، لما تتميز به من صغر في المساحة وكوادر مؤهلة وخدمة يمكن تطويرها وبسرعة، لتكون “وادي السليكون” في منطقة الخليج.
ولا يكون ذلك إلا من خلال شفافية في التعامل، وخطة واضحة في العمل، وشجاعة ومصارحة للعديد من الملفات الاقتصادية المسكوت عنها دهراً. فالتحديات كبيرة والمخاطر متصاعدة، والحكومات التي لا تواكب قطار التغيير الاقتصادي العالمي، لن يمكنها ركوبه، وستبيع “الفشار” على قارعة الطريق بعدئذ. وستكون مجرد محطة لا يرغب الكثيرون ممن يركبون قطار التغيير النزول فيها.
ويبدو أن نقطة التوافق واللقاء موجودة بلحاظ حركتين إن تم سيرهما في خط متوازٍ. وهما:
الرؤية الاقتصادية للمملكة، والتي تسعى-كما تذكر- إلى تثبيت ازدهار المملكة من خلال إلتزام سياسة التمويل الحكومي لمبدأ الاستدامة من أجل المحافظة على نظام مستقر قائم على التطلعات المستقبلية، باستخدام مواردها في المستقبل لتطوير رأس المال البشري، والتعليم والتدريب، وعلى الأخص في مجالات العلوم التطبيقية، وتشجيع الريادة والابتكار لتأمين الاستدامة لقطاع خاص مزدهر(١)

ولايمكن الحديث عن ذلك إلا من خلال تهيئة حقيقية وجادة لبيئة ابتكارية تصنيعية محترفة عبر المدرسة والكلية والجامعة والوزارات والهيئات والقطاع الخاص ، وذلك عبر برامج مدروسة ودعم متواصل وجرد لنتائج من خلال خط زمني موزع، فضلاً عن تقليم أظافر فاسدة تقض مضجع الابتكار من تمييز وظيفي وترهّل بيروقراطي…
فأين الاستفاد المثلى من ارتفاع أسعار النفط في السنوات القليلة الماضية، وفائض الميزانية؟ وأين كان التفعيل العملي لاتفاقية التجارة الحرة المبرمة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟

وفي الجانب الآخر، نرى حراك مضطرب في الجانب الشعبي الذي “خدرته” السياسة فأصبح كلٌ يغنّى على ليلاه طرباً وعشقاً، فهناك من يجد ويجتهد وهم قلّة، وهناك من تمكّن منه اليأس وأخذ منه كل مأخذ، وهناك المنشغل أو المشتغل أو المنفعل أو المفتعل في السياسة، إذ أصبح لقاربنا الوطني أكثر من اتجاه في التجديف، فنكتشف أن قاربنا لايراوح مكانه البتة.

ومع مجمل التحديات القادمة والتي ستكون أكبر، لا بد من بدء عملي في حلحلة الكثير من الملفات الاقتصادية العالقة والتي سيكون امتداداها الإيجابي مُلقياً بظلاله على بقية الملفات المعيشية والسياسية.
هناك العديد من دول المنطقة وصلت الفضاء الخارجي -بغض النظر عن أهدافها- فمن الهند إلى باكستان ومن الكيان الصهيوني إلى إيران، ومع ذلك ما زلنا نراوح مكاننا نلقي أشعارنا من مكبرات صوت مصنعة في الخارج. وأشار لي البعض بأن الغول الصيني قد أكل الأخضر واليابس نتيجة ارتفاع عدد العمالة فيها ورخص أجورها، إلا أنه على الأقل يمكن أن ننتهج ما تقوم به شركة ماتيل المصنعة للدمية باربي، حيث الماركة التجارية والتسويق والفكرة من لدنهم، والتصنيع يكون على كاهل الصينيين، وهذا أقل الإيمان. وهو ما يمكن القيام به حتى على مستوى الشركات الصغيرة والمتوسطة من دخول قوي في السوق من خلال أفكار مبتكرة يتم تصنيعها في الصين.
ومع ذلك يطيب للبعض أن يستمر في شعره الغزلي ويصدح من على منصته في حين تكون منصات الجيران محلاً للنقاش العلمي والابتكار.

ومبادرة التغيير يجب أن تكون ممن لديه أدوات القدرة وهي الحكومات، وتعمل معها بالتوازي عقلية مجتمعية تكون مكملة لتلك الصورة المطلوبة في زمن الابتكار والتصنيع والاقتصاد المعرفي، وإلى حين تصنيع المصاصة أو الإطار سنكون في “رفع الصوت” بين تأزيم سياسي وشعر غزلي.
.
-١ الرؤية الاقتصادية، من موقع مجلس التنمية الاقتصادية الإلكتروني
* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي
www.scrambledpaper.com



Leave a Reply