أقبل ذا الجدار وذا الجدار

جعفر حمزة*
أخذت بمجامع قلبه حتى تخدّر، بل أخذت كل حواسه عشقاً وحباً لها فصارت الدنيا بما فيها “ليلاه”، فتغنّى بها طرباً وشعراً، بل أصبحت الجدران مكامن عشقه الذي لا ينتهي، فكانت من نصيب عشقها التقبيل من “قيس”. قيس هي صورة مصغرة لعشق الإنسان لصور الجمال بمصاديقه المختلفة، ويبسط الإنسان ذلك العشق ليمتد إلى كل ما يقترب من “المحبوب” فيصير في دائرة التقرب والعجب والعشق، وكانت جدران ديار ليلى إحدى تلك الصور المتتابعة لعشق قيس.
ولئن كانت ليلى حديث قيس ، فكل يغنّي على ليلاه، وقد تكون ليلى “حاجة” أو “قيمة” أو “مبدأ”، ، وذلك ما نتلمسه من تطور في السلوك البشري إزاء ما يحيط الفرد من حاجات تسيّر حياته اليومية، فليس كل ما “نستخدمه” يمر مرور الكرام، فهناك “حضور” متواضع لبعض تلك الحاجات، وهناك “حب” لبعضها الآخر، وأيضاً هناك “عشق” لحاجات أخرى، وهكذا تتحوّل الحاجات إلى مساحات للحب والعشق وغض الطرف وغيره. فلم تعد الحاجات مجرد لإتمام مهمة أو لسد نقص، بقدر أن تكون لإتمام قيمة أو لتشجيع مبدأ أو لتحفيز فكرة। بل تحولّت تلك الحاجات إلى مضمار سباق محموم” تتصارع من أجل الظفر بقلب الفرد ، فأصبحت الحاجات الأساسية والكمالية بمنزلة المرآة العاكسة لشخص الإنسان وهويته وسلوكياته، حتى باتت كديار ليلى وأكثر. فتعدّت العلاقة بين الإنسان والماركة Brand من “الإستهلاك” إلى “الإرتباط”، بل تحولّت إلى سلوك تدفعه الحاجة لتتحوّل إلى “حب”. وقد أشار إلى تلك العلاقة واستفاض فيها مدير إحدى وكالات الإعلان العالمية وهو السيد kevin Roberts في كتابه LoveMarks والذي يسرد فيه أسرار تلك العلاقة القائمة بين الفرد والماركة، والسبيل الذي استحوذت فيه بعض الماركات العالمية على قلوب جمع غفير من الناس حتى أصبحوا من محبيها وعاشقيها. لقد أصحبت تلك العلاقة مثار اهتمام وبحث ملحوظين في السنين الأخيرة، فالتحولات في السلوكيات الشرائية باتت محل بحث ودراسة وتحليل من قبل المهتمين والمختصين، لمعرفة دوافع تلك الجاذبية لماركات دون أخرى، والتي تؤدي إلى سلوك تفاعلي استهلاكي من قبل الفرد. ومن تلك المحاولات والتي اتخذت طابعاً علمياً ومختبرياً، كتاب Buyology: Truth and Lies About What We Buy, لصاحبه Mr. Lindstrom والذي يتناول فيه أسرار دوافع الشراء عند الفرد، حيث يشير إلى أن دوافع اللاوعي هي التي ترسم مدار التعاطي مع الماركات وهي التي تصيغ السلوك الشرائي أكثر من الدوافع الواعية ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب هو نتاج دراسة مستفيضة قامت بها شركة Lindstrom لثلاث سنوات وتم إنفاق حوالي ٧ مليون دولار أمريكي على دراسة علم أعصاب التسويق neuromarketing وقد شكل مع فريق عمل بحثي من جامعة أكسفورد باستخدام أحدث التقنيات العصبية الإلكترونية ، وتمت الدراسة على ٢٠٠٠ متطوع من خمس دول مختلفة من أجل فهم أكبر لسلوكيات المشتري… يقول مؤلف الكتاب :” معظم قراراتنا لا تقودها الدوافع الواعية، بل من يرسمها هي الدوافع اللاواعية فينا”، ويضيف إن معظم قراراتنا تأتي من ذلك المكان الصغير في دماغنا والذي لا ندرك دوره في صياغة سلوكياتنا”. فلا يمكننا طرح السؤال عن كيفية حضور ماركة بذاتها في وعينا، فلا إجابة ستكون لهذا السؤال لدى عقلنا الواعي”. لكن يمكننا الإعتماد على إجابة عقلنا اللاواعي من خلال ما نسميه التسويق العصبي neuromarketing وهو الأمر الذي يمكن ملاحظته من خلال الرسائل الموضوعة على علب السجائر، فالرسالة واضحة بضرر التدخين، والإجابة المباشرة ستكون أن معظم إن لم يكن جميع الناس يعرفون بمضار التدخين إلا أنهم يستمرون في ذلك ولماركات معينة، وتلك الإجابة أتت من العقل الواعي، أما الإجابة الصحيحة فقد أتت من منطقة معينة في الدماغ تحفّز السلوك المعاكس للعقل الواعي، وتدفعه لشرب السجائر. أخذت محاولات فهم العلاقة بين الفرد والماركة أبعاداً بحثية وتحليلية جادة في العشر سنوات الأخيرة سواء عبر فهم الخلفيات الثقافية والدينية للفرد وعلاقتها بتفاعله السلبي أو الإيجابي مع الماركة (1) فلم يعد السؤال حول لم يشتر الفرد هذه الحاجة الضرورية أو تلك الحاجة الكمالية، بل أصبح السؤال لم يشتر هذه الحاجة من تلك الماركة دون غيرها بالرغم من تشابهها في الأعم الأغلب -كالحليب على سبيل المثال-. هي ثلاثية الحب أو البيع: أولاً: الحاجة “ضرورة أو كماليات” ثانياً: الإنجذاب الذي تولده الحاجة مع الوقت والصور المتتابعة والرسائل المنظمة ثالثاً: والسلوك وهو نتيجة التزاوج بين الحاجة والإنجذاب. تحولّت بعض الماركات إلى رسم سلوك للفرد، لتنتقل من مجرد “مادة يستهلكها” الفرد إلى “قيمة يعيشها” ويتفاعل معها. ومع كل هذا الزخم المتراكم من دراسات مستفيضة في علم سلوك الشراء، يبقى السؤال حول إحدى أكبر الأسواق استهلاكاً ونثراً للمال وهو سوق الشرق الأوسط، إذ لم تكن هناك مبادرة جادة أو مخطط لها جيداً لدراسة سلوكيات مئات الملايين من المستهلكين ، وتوظيفها بصورة إيجابية، فعلم التسويق العصبي كما يقول مثل المطرقة ، يمكن الإستتفادة منه لتعزيز سلوكيات إيجابية، فهل يتم تخصيص جزء من اهتمامات المستثمرين العرب في هذا المجال، وهو عائد لهم بالمنفعة المادية والاجتماعية أم لا تزال ربوع الغرب أولى بشراء باذخ كسيل لا يتوقف من الأموال من بلداننا إليهم؟ على الأقل سنعرف حينئذ لم يقبّّل قيس الجدران، بدلاً من سيل القبلات التي نقوم بها يومياًً لهذه الماركة أو لتلك.
Saatchi & Saatchi Lindstrom
(1)
بحث قامت به شركة
JWT
حول التسويق في البلدان المسلمة وكيفية التعامل معها.

Leave a Reply