عاشوراء، حركة تغيير في السلوك اللباسي


عاشوراء، حركة تغيير في السلوك اللباسي

قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة

الجزء الثالث

جعفر حمزة*

نشرة عاشوراء البحرين، العدد ٥

تشكل المواسم الدينية كغيرها من المواسم في الكثير من المجتمعات البشرية “ساحة” تتفاعل فيها الكثير من العوامل الاجتماعية، والتي تقتضي “حركة” مالية نتيجة وجود تلك المواسم، حيث أن خصوصيتها تفرض نمطاً معيناً من “الاستهلاك”، وبطبيعة الحال تمثل دراسة تلك الخصوصية أهمية لتوظيف تلك الحركة المالية لتصل إلى مرحلة “الإنتاج”، وبالتالي تتكون الاستفادة الذاتية من المواسم الدينية

في هذه الحلقة نستعرض الجانب “التجاري” من “سواد عاشوراء” عاشوراء والسواد من المواسم التي ما زالت علاقتها قوية باللباس وتحتفظ “بنكهتها” المميزة، هو موسم عاشوراء عند المسلمين الشيعة منهم والسنة، حيث إن العلاقة بين عاشوراء والسواد بات في أصل التكوين الثقافي والفكري بدءً من وجوده كرمز للحزن في الأبيات الشعرية ومروراً بإظهاره من خلال اللباس والأعلام ووضع السواد في الأزقة والشوارع.
واللباس كالكائن الحي ينمو ويتطور وتنتكس صحته ويقوى ويشيخ ويموت، وتمتد “حياة” اللباس بتحقيق ثلاثية تبدو لأول وهلة بأنها طبيعية، إلا أنها معادلة بالإمكان تطويرها وضخ المزيد من مفردات الاستمرار فيها. والثلاثية المرتبطة بحياة اللباس هي:
أولاً: استمرار وجود الأصل الدافع للباس ذكراً وممارسة، وفي الحالة العاشورائية يتمثل ذلك الأمر بسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، والذي يكفي للمتتبع المنصف الوقوف بأعجوبة استمرار ذكره بهذه “الحُرقة” إلى يومنا هذا، وهي المنبع الأول للكثير من القيم والمباديء التي تصيغ المجتمع، وبعبارة أخرى فإن حديث “إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لن تبرد أبداً”، ليست إنشاءً أو توصيفاً وقتياً، بل هي امتداد حقيقي نعيشه كل عام في إطاره الزمني الخاص “محرم وصفر”.
وكما للحج لباسه الأبيض الذي لن يتغير مع الزمن في علاقة أصيلة بين موسم الحج و”الإحرام الأبيض”، كذلك هو اللباس الأسود “الحزين” الذي أُتخذ شعاراً لتذكر واقعة الطف بما تحمله من قيم ودروس وأحزان أيضاً للمسلمين بل وكل إنسان حر في الحزن على حفيد الرسول الأكرم (ص)।
ثانياً: ممارسة التعامل مع ذلك الأصل، وهذا يتمثل في المراسم الحسينية، وهي صيغة أخرى حركية للآية الكريمة “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب” ووجود التقوى في القلوب يستلزمه “حفظ” السلوك من خلال الشعيرة نفسها، وبالتالي الاستمرار في إحيائها من خلال “التعظيم”. وقد تهتز الصلة الوثيقة بين استمرار وجود الأصل وممارسة التعامل، وذلك من خلال وجود “التشوهات” في ممارسة إحياء الشعائر، وبمرور الزمن تُلقي بظلالها على صورة الأصل الدافع للشعيرة. ويعتبر هذا الأمر من العوارض الطبيعية التي تطرأ على اللباس، مَثَلَه مثل الإنسان الذي يتبنى “آليات” جديدة لإظهار فكره ومعتقده، إلا أن الخطورة في الأمر أن تشوه تلك الآليات المُختارة ملامح الفكر.
ثالثاً: التجديد في طرح الصورة “الثابتة” لمعنى الرسالة في عاشوراء. وذلك لضمان بقاء روح الارتباط بالشكل الرمزي لجو عاشوراء دون تشويهه وإدخال مفردات غريبة عنه. وما الحاصل من لباس “مستغرب” كالتي تحوي أشكال ورموز وكلمات غربية، ولا يشفع في لبسها في الموسم الديني سوى لونها إلا دليل على فقر في الساحة من تقديم البديل الذي يهب اللون حركة، ويعطي للباس قوته، في الوقت الذي يشعر معه الفرد بانتمائه وهويته الخاصة. مكياج غير صحي للأسود وفي هذا السياق، نرى أن “السواد” في صيغته العامة ما زال محتفظاً بهيبته الخاصة لشهري محرم الحرام وصفر، إلا أن مساحة تغيره أصبحت واضحة على صدور الكثيرين، وذلك من خلال الكثير من النماذج التي اتخذت السواد “حصان طرواده” لتمرير العديد من الرسائل المختلفة المحتوى والمضمون، وبالتالي ابتعاد السواد لباساً عن المحتوى الحسيني، وعندئذ ستنخر تلك الصور والرسائل روح “السواد” الحسيني، ويتحول اللباس الأسود من رمزية دينية إلى رمزية احتفالية تفتقد المعنى الديني الملتزم فيها.
وعندما يتحول الرمز الديني إلى إحتفالية صورية فقط، ستُخدش القيم المرفوعة في ذلك الرمز الديني، ولا أدل على ذلك من بعض الثياب التي يرتديها البعض وتحمل رسائل وصور لا علاقة لها بالجو العام لشهر محرم، حيث يحتوي بعضها على كتابات أجنبية وبعضها الآخر رسومات لثقافات غربية।
ويأتي السؤال في أهمية اختيار السبيل الأنسب للحفاظ على الروح الدينية للمناسبة، وفي الوقت ذاته تُقدم بطريقة عصرية حديثة مرغوبة وجذابة، حيث لا انفصال بين الحداثة والأصالة في اللباس، لا فكراً ولا سلوكاً ولا تطبيقاً. وذلك عوضاً عن ارتداء ما يتم طرحه في السوق من ألبسة سوداء، بغض النظر عن نمط الرسالة المكتوبة أو المعروضة، وفي ذلك تحدٍّ كبير ودافع لتقديم البديل فيما يخص الثياب في المواسم الدينية، سواء الحزينة منها أو الفرحة. والمقومات موجودة لطرح مثل هذا المشروع، فالقاعدة المستهلكة لهذا النوع من المنتجات “الثياب السوداء” موجودة، وجودة التصنيع متوفرة، وما علينا إلا صياغة “ماركة” يمكنها أن تحل مكان المطروح في الأسواق، وخصوصاً للمجتمعات المحافظة. ويمكن اعتبار مشروع “البديل” والذي طرحته شركة “إسلاميديا” من خلال منتجها الجديد “نبراس” تجربة تستحق التقدير والإشادة والدعم، وقد سمعت الكثير من التعليقات المشجعة على هذه الخطوة، مما يشير إلى مقدار الفراغ الحاصل في السوق بالمجتمعات المحافظة، والتي تريد أن تواكب العصر وتحتفظ بالهوية في نفس الوقت، وذلك ممكن وبطريقة محترفة أيضاً إن أحسنا التخطيط وقدمنا البديل المنافس والأقوى. فهل نرى نماذج لألبسة خاصة لعاشوراء بطريقة عصرية؟
بل هل يمكن تخيل أن تقام عروض “fashion Show” تحمل من القيم ما تمثل نقلة نوعية في التعامل مع لباس يمثل فاعلاً مع أعظم احتفالية دينية باقية لحد الآن، وهي ذكرى ثورة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) حفيد خاتم الأنبياء، ليكون منطلقاً للتغيير وإحداث تلك النقلة النوعية في التعامل مع اللباس بصورته التي تحمل القيم والرسالة من صلب ثورة وقيم الإمام الحسين وهي لب كل القيم الإنسانية الأصيلة।
فهل يمكننا تحويل اللباس إلى جهاد من نوع آخر ينصر الحسين سلوكاً ولباساً؟

مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

Leave a Reply