هويّة معمّرة 1


جعفر حمزة*

التجارية ٧ يناير ٢٠٠٩م

اتشحت الشوارع كما البيوت بالسواد تعبيراً لحضور موسمي لم يتوقف منذ مئات السنين، وقد أخذ السواد مكانته في اللباس وأماكن إحياء تلك الذكرى الأليمة في عاشوراء، بعد أن أخذ مكانته في القلوب والسلوك.

حتى أصبحت عاشوراء النقطة التي نعود إليها في كل عام بروحيتها وأجوائها وبيئتها التي احتفظت بتلك القوة في الحضور دون “مواد حافظة” أو “منشطات”، بل هي “طبيعية صرفة” بامتياز، لأنها ببساطة انعكاس لصورة إنسانية نبيلة قل مثيلها في المأساة والعِبرة والعَبرة والتراجيديا في أوجها ودلالاتها.

وتأخذ المواسم الدينية مساحتها في التعبير الاجتماعي وما ينسحب عليه من صور مادية وسلوكية، بل أخذت عاشوراء البحرين ميزة تفوقت بها على بقية البلدان في العالم، حيث أصبحت ذات هوية وبرامج وطريقة صاغت ملامحها حتى أصبحت بمثابة “هوية موسم”
Season Brand
تشكلت مع الزمن، لتأخذ من كل صورة من صور التفاعل الإنساني نصيباً في كل عام دون ضعف، بل أخذ هذا الموسم أثره ككرة الثلج التي تكبر مع الزمن عندما تتدحرج.

ويتمثل ذلك في الكثير من الفعاليات التي تعكس قيماً إنسانية أخذت من عاشوراء مظلة لها ومنطلقاً، ومن تلك الصور التي تتجدد سنوياً وتأخذ من عاشوراء منبعاً لها على الصُعد المختلفة التي تتفاعل مع الآخر على أكثر من صعيد وفي أكثر من حقل، ومن بين تلك الصور:
أولاً: الصور الفنية، والتي يبرز فيها المرسم الحسيني كأحد الأمثلة البارزة على الساحة المحلية، والذي اكتسب حضوراً وتفاعلاً من مختلف الشرائح والإثنيات والديانات، فضلاً عن بقية الأنشطة الفنية كالتمثيليات المسرحية والشبيهات (المسارح المفتوحة)، والمعارض الفنية، فضلاً عن إضافة جديدة في السنوات الأخيرة، وهي الفيديو كليب الديني الحسيني، والذي يتخذ من الفضائيات مساحة له للظهور.
وتنشط سوق بيع أشرطة الكاسيت من مراثٍ ولطميات ومحاضرات، لتكون “فاكهة” من يعيش هذه الأجواء، في السيارة والبيت على حد سواء.

ثانياً: الصور الاجتماعية والتي تتعزز فيها الترابط الاجتماعي، من ناحية الحضور في الحسينيات، والاجتماع على مائدة واحدة، وتلك الصور التفاعلية من الطبخ في الحسينيات والبيوت، والتي تعتبر تراثاً لم يندثر لحد اليوم.

ثالثاً: الصور التضامنية المستجدة، فحملات التبرع بالدم أخذت نصيبها في موسم عاشوراء من كل عام في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى الحملة الجديدة التي تم إطلاقها فيما يخص جمع الأدوية المستعملة تحت شعار حملة مريض كربلاء.
بالإضافة إلى الصور التضامنية مع الأحداث المستجدة في كل عام، حيث أخذت قضية غزة نصيبها من الحضور في عاشوراء هذا العام.

رابعاً: الصوراللونية، إذ لا يغيب اللون الأسود عن الحضور القوي والفاعل من على أجساد الناس إلى الحسينيات، ومن الشوارع إلى البيوت. فتظهر الملابس السوداء على واجهة المحلات، بغض النظر عن توافق حضور موسم عاشوراء مع فصل الشتاء أم الصيف، فاللون الأسود من ثياب وأعلام له نكهته الخاصة التي لا يخطأها ناظر أو زائر.

ويمكن الاستفاد من هذا الموسم الديني الذي يعتبر مكسباً للسياحة الدينية في البحرين، إذا وضعنا في عين الاعتبار العدد الكبير من الزائرين للبحرين في موسم عاشوراء من الدول الخليجية المجاورة، وبعض الدول العربية، فضلاً عن بعض الأجانب الذين يميلون إلى توثيق ومعايشة هذه الأجواء، بما تتميز به من فعاليات وأجواء لا تكون إلا في موسم عاشوراء.

ويحضرني ما ذكره أحدهم من استضافته لبرازيلي في موسم العاشر من المحرم وحضوره المجالس الحسينية ومتابعته لموكب العزاء، فضلاً عن اطلاعه على الخدمات التي تقدمها المواكب والحسينيات من طعام وغيره، حيث أبدى البرازيلي إعجابه بهذا التنظيم، وتلك الأجواء التفاعلية الني تميز بها أيام المحرم.

ولإيجاد هوية للموسم بالمعنى الاحترافي والجاذب للسياح، لا بد من عملية تنسيق متواصلة بين الحكومة ممثلة في الأوقاف الجعفرية والشئون الإسلامية ووزارة الداخلية ووزراة الإعلام من جهة، والهيئات الحسينية والمؤسسات ذات العلاقة من جهة أخرى، والوزارات والجهات التي يمكن أن توصل رسالتها من خلال هذا الموسم من جهة أخرى كوزارة الصحة ووزارة البلديات والزراعة على سبيل المثال لا الحصر.
ويمكن للمحافظات الاستفادة من هذا الموسم لتوسعة دائرة عملها لتتخذ من عاشوراء “مركباً” لها للتطوير والعمل.

إنّ عملية التسويق لموسم عاشوراء بات أمراً ملحاً في ظل تطور وسائل الإعلام واتخاذ عاشوراء البحرين نمطاً خاصاً له نكهته وشخصيته وطريقته في الإحياء، بل أن طرح مشاريع تم تنفيذ بعضها كأكبر لوحة للبصمات البشرية وأكبر عدد من الشموع في ليلة العاشر، ومشاريع تم الإعلان عنها كمشروع مهرجان عاشوراء السينمائي، كل هذه المشاريع تأخذ مساحتها التفاعلية الإيجابية في صياغة هوية للبحرين من خلال موسم ديني تتلون فيه الأنشطة من ديني واجتماعي وثقافي وفني وغيره.

فهناك مقومات لهوية يمكن اتخاذها رسولاً مبشراً لتسويق السياحة الدينية والتي تتماشى مع مفهوم السياحة النظيفة.

وعند الحديث عن هذا الموضوع، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار بأهمية الاحتفاظ بالموروث الشعبي والأنشطة من الناس كما هي دون رتوش أو تدخل مباشر، سوى تلك التي تحتاج إلى أمور تنظيمية (حركة المرور على سبيل المثال). إن عاشوراء البحرين يجب أن تتخذ من الاهتمام الرسمي بقدر ما تتفاعل معه العديد والكثير من شرائح المجتمع، وتُعتبر من أفضل المشاريع الترويجية للسياحة الدينية بالخصوص عندما تتمازج رؤية الرسمي مع الأهلي في تقديم موسم مميز وفريد في البحرين، في قبال جهد تقدمه الدولة وتضخ فيه الميزانية الضخمة لإظهار صورة تريد إيصالها للآخر، كما هو الحاصل مع مشروع “ربيع الثقافة”.

إن أفضل وسائل التسويق لأي بلد هو وجود القاعدة الأهلية للفكرة وتسهيل ودعم من الدولة، لنصل إلى مستوى التسويق المتكامل لإحدى أهم صور السياحة النظيفة في البلاد، والتي نمتلك مقوماتها ونعيشها كل عام، بل وتتطور، والمركب يسير دون توقف، كنهر جارٍ من عالم عاشوراء الحسين، يسقي من يريد، فهل تقترب قافلة البعض لترتوي بعد عطش هي اختارته لحد الآن؟

فعاشوراء نبع لا ينضب، ويتجدد كل عام دون أن يبلى، فهل نستقي منه بالصورة المرجوة؟ نتمنى ذلك!


* مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي.

One comment on “هويّة معمّرة

  1. altnweer Jan 6,2009 9:58 pm

    سلام عليكم
    بالنسبة للجهات التي يمكن أن توصل رسالتها ذكرتون وزارة البلديات
    حبيت أضيف ان الوزارة البلديات من المفترض ان تنشط خلال موسم عاشوراء خصوصا أن الشوارع يتبدل حالها مابعد العزاء إلى بيئة جدا غير نظيفة (( أتشوف العلب والقلاصات والقراطيس مفلته في كل مكان))
    المفترض أننا في هالموسمأنكون أكثر نظافة من بقية المواسم خصوصا أن أنظار العالم تتوجه إلينا وهذا يأخذ نقطة سلبية علينا

Leave a Reply