وللون نصيب من قرب الجسد

وللون نصيب من قرب الجسد
قراءة في حركة لباس محرم وتجاذباتها المعاصرة

نشرة عاشوراء البحرين، العدد ٤

(الجزء الثاني)

وللون نصيب من قرب الجسد

يمثل اللون صلة تواصل بصرية كما هي الكلمات والأصوات، وما يميز الإنسان هو قدرته الكبيرة في “توظيف” المفردات المحيطة به للإعلان عن “هويته” و”انتمائه” وبعبارة أخرى “ما هو” و”من هو” حيث تتحرك الأولى في إطار معرفة الذات وتتحرك الأخرى في دائرة “تعريف نفسه للآخر”. وفي هذه الدراسة المبسطة نستعرض حركة “لون” من نوع آخر، يدخل فيه “المقدس” في السياق العام للتفاعل مع ذلك اللون، ليكون مختبرنا “عاشوراء” و”العينة” التي نستكشفها “لون عاشوراء” لباساً وشعاراً وإعلاماً.

للأسود دراهم معدودات

ترتفع مبيعات الألبسة السوداء في الأسواق في المجتمعات الشيعية قبل شهري محرم وصفر، ليكون اللباس المنشود هو ذو اللون الأسود بالمطلق بغض النظر عن المحتوى المكتوب أو المرسوم على القميص أو “T-Shirt”، وهو ربط ناقص إن اعتمد على اللون فقط. وينطلق هذا الإهتمام والملاحظة من خلال المكانة التي يحتلها “السواد” بصرياً في الموسم الحسيني (محرم وصفر)، وبالتالي يكون “لفت النظر” و”التعليق” و”الملاحظة” رد فعل طبيعي بل ومطلوب ليكون الجو العام لهذا الموسم متناسقاً ومتوالفاً مع النمط العام لما هو مقدم كمؤشر له، وذلك من خلال السواد في هذه الحالة لبساً وإظهاراً في الشوارع والمآتم والبيوت.

الأسود مرفرفاً على الصدور والجدران

ويتحول اللباس إلى رمز لفكر أو عقيدة مع تطور الزمن وارتباطه الزماني والمكاني، وما الملابس الفلكورية إلا مثال لاحتفاظ الأمم بتراثها وفكرها وثقافتها، حتى تحولت إلى صيغة “قانونية” و”معرفية” يتم الحفاظ عليها والدفاع عنها، كما هو مصنف ضمن “الملكية الفكرية” إذ إن إحداها هي “الفلكور” بما يتضمنه من ملابس وأغانٍ وموسيقى। والحفاظ على تلك الروحية الخاصة بالموسم الحسيني تتمثل في الملاحظة والبحث وتقديم ما يُثبت تلك “الروحية اللباسية” –إن صح التعبير-؛ لتتشكل على إثرها فلكلوراً دينياً خاصاً ينتقل لأجيال عبر أجيال دون “تشويه” لتلك الثقافة والروح من خلال تقلبات “لباسية” تضيف وتُنقص من تلك الصورة العامة لعنوان اللباس الحسيني المرتبط بشهري محرم وصفر. إن حركة السواد على الجسد (اللباس) والحجر (البيوت والمآتم) تمثل ثقافة دينية تحيا بحياة الرمز المجسد لها أو القالب الذي يقدمها “اللون الأسود”، وبالتالي تكون عملية “إنعاش” الرمز مهمة وتتخذ من الوسائل الحديثة طريقاً لبقائها عوضاً أن تكون سبباً في تشويهها. إن تحول اللباس العاشورائي إلى موضة fashion هي إحدى الطرق التي بالإمكان الحفاظ على إمساك العصا من المنتصف، لنصل إلى مرحلة توجيه الكثير مما نريد من خلال تلك الطريقة. وقد تكون من ضمن التحديات التي “تنخر” في اللباس العاشورائي هو بقاء “الصفاء الأسود” فيها، بمعنى عدم تغير القيم العاشورائية في اللباس، ويمكن القيام بذلك من خلال تقديم “المواضيع العاشورائية” للباس والتي تتضمن الرسائل ذات العلاقة الدينية بصورة عصرية ومبتكرة، إذ أن ذلك سيساهم في حفظ “الروح الموسمية” لعاشوراء من جهة، وتضمن وجود “جاذبية” من قبل الجيل الجديد والأجيال القادمة له، حيث أن العملية قائمة على تثبيت القيم اللباسية وتغيير النمط بصورة عصرية، حيث نضمن بذلك استمرارية الفكر للباس عاشوراء. وكمثال على ذلك مع الفارق هما أنموذجي الهند والصين، حيث تغلبتا على الغزو اللباسي –نوعاً ما- إذ بقيتا على اللباس التقليدي وبصورة حديثة، وساعدهما على ذلك السينما والتلفزيون، حيث بقي “الساري” ولا زال في الأفلام وبعض “ثيمات” Bollywood وجزء لا يمكن الاستغناء عنه في الثقافة والتراث الهندي، والأمر بالمثل للباس الرجال في الصين، حيث بقي هذا اللباس لحد الآن في الأسواق بل وتم تطويره وأصبح رمزاً “Symbol” للفنون القتالية القديمة Martial Arts। في قبال مثال لباس رعاي البقر “Cow Boy”و في أمريكا.
إن المعادلة الناقصة في خصوص حضور الألبسة الدينية هو غياب عنصر التفاعل والثبات في اللباس الأسود كثيمة دينية تبتعد عن كل الهوامش الطارئة عليها، ولا يمكن الاعتماد على اللون فقط كرهان للهوية، دون تقديم لون ورسالة معاً عبر طريقة عرض تفاعل جاذبين وحاضرين في السلوك اليومي للإنسان الذي يعيش أجواء محرم وصفر، بل وأجواء إحياء المناسبات الدينية التراجيدية والحزينة، والتي تحمل من القيم ما لم يتم توظيفه بطريقة عملية مؤثرة ومدروسة لحد الآن

وليبقى الأسود خفاقاً شعاراً ولباساً

ونؤمن بأن “كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء” تتعدى مساحة ومكانة الفهم المكاني والزماني لتشكل هذه المقولة عنواناً إنسانياً يضم بين جنبيه كل القيم الإنسانية النبيلة، ورسم لمجتمع حي فاعل ومؤثر، وعند الحديث عن خلق بيئة متفاعلة يلزمها الصورة التي تتحرك بها بما تحويه تلك الصورمن إلتزام وتوجه متجدد ومبتكر للغاية الأولى والأخيرة “الإصلاح” بمفهومه الإسلامي الإنساني العام. ويشكل “اللباس” أحد مظاهر المجتمع الأصيلة والتي لا يمكن التهوين بها لأنها “مظهر”، فهي معادلة تفاعلية منطقية أن يتم توصيف وملاحظة اللباس كعنوان حركي للمجتمع الذي يريد أن يرسم ويخط طريقه من خلال العديد من أدوات التشييد والتعبيد، ومنها اللباس. فهل تكون النظرة للباس الأسود “الديني” ذات أبعاد عصرية ومبتكرة تحاكي حجم التحديات التي تفرضها الكثير من المتغيرات أم تظل تلك النظرة متأرجحة ومتقلبة ترفع شعار الحسين لوناً وتغيّره عنواناً وسلوكاً و”لباساً”؟

Leave a Reply