واقع الإبداع الفني في المجتمع البحريني مـن يصنع الخـبـز؟

واقع الإبداع الفني في المجتمع البحريني
مـن يصنع الخـبـز؟
الوقت ٢٦ ديسمبر ٢٠٠٨م

جعفر حمزة:

”إن لم تستطع أن تقدم ثقافتك। فهناك غيرك من سيملأ الفراغ الذي أحدثته أنت”। لم يقلها فيلسوف أو مفكر أو كاتب، بل قالها صاحب شركة صغيرة في إحدى الدول الأفريقية، والتي قامت بإنتاج سلسلة رسوم كرتونية تحكي قصصاً عن تاريخ تلك الدولة وحضارتها القديمة. لقد تغيرت المعادلة هذه الأيام مقارنة بالخمسين سنة الماضية. إذ أصبح ميدان التحدي أو ما أميل إلى تسميته بالتدافع ”ولو لا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد”وفقاً للمفهوم القرآني، حاضراً وبقوة وهي المعادلة الطبيعية لإيجاد توازن بين الشعوب والأمم. لقد أصبح هذا التدافع ملموساً بصورة لا يمكن سوى فهمها وترجمتها لصالح المجتمعات بدلاً من أن تكون مدعاة للتصارع وحروب الهوية.

ومما يحفظ ذلك التوازن هو وجود آليات تضخ القوة والثبات للمجتمعات بالحفاظ على هويتها من جهة والتعاطي بمرونة مع المتغيرات المحيطة به من جهة أخرى، لنصل إلى صورة الكوكب الذي يسير حول نفسه ”الثبات على هوية المجتمع” ويسبح حول الشمس ”المتغيرات المتسارعة”، ويسير مع منظومته الشمسية إلى مسار أكبر، وهو مسار التكامل والقوة التي وضعها الخالق للمجتمعات الإنسانية.
وما ادعيه بأن المعادلة قد تغيرت نتيجته هو ”الانفجار المعلوماتي والتقني” حول العالم، حيث لم تصبح التقنية ”حكراً” على مجتمع دون غيره أو لدولة دون أخرى، والتي كانت في السابق بمثابة نقاط قوة وسلاح تستخدمه المجتمعات في النصف الشمالي للعالم في تعاملها مع مجتمعات النصف الجنوبي كما يقولون.
بل إن الأمر قد اختلف، فنتيجة ذلك الانفجار في التقنية والمعلومة أصبح من الصعب وضعها في قفص مجتمع دون غيره، حيث باتت تلك التقنية متوافرة في العديد من المجتمعات، والتي اعتبرت بالأمس القريب أقل من نامية لتمتلك الآن مناطق تقنية تنافس فيها الدول المتقدمة، منها على سبيل المثال لا الحصر ”مدينة السيليكون” وهي مدينة بانغلور الهندية، والتي تتميز بصناعتها لرقائق السليكون والعديد من مراكز الأبحاث والتطوير والتقنية العالية الدقة। والتي باتت بمنزلة ”وادي السليكون” في أمريكا

لم تعد التقنية مرتبطة أو ”حصرية” على الرجل الغربي، بل قد أصبحت ”مشاعاً” ومتوافرة، وينبغي على الأفراد كما على المجتمعات الاستفادة منها ومعرفة الوصول إليها أولاً والاستفادة منها ثانياً والاحتفاظ بها وتطويرها ثالثاً.
ونعتقد بأن الحديث بل والتعمق في تناول الإبداع الفني بآلياته طبيعية وتفتح منطقي للعيون، التي أغفلت أو تغافلت أو لم تدرك مقدار القوة ”الكامنة” الموجودة فيها، فهل يكون هذا الطرح ”رفع عتب” ومن أجل رضا نفسي؟ أم تكون بداية مسؤولية حقيقية لتصبح ”بداية عمل” يجب أن يتحملها الجميع دون استثناء؟
وفي غير تلك الحالة سنكون كمن يملك كنزاً تحت بيته، ويقوم برسم الخرائط وتقسيم الثروة المفترضة من هذا الكنز دون البداية العملية، وهي ”الحفر” واستخراج الكنز والاستفادة منه.
وبالتالي لن نضيف للمجتمع وقبله أنفسنا سوى وقت ”للتنفيس” ووريقات تُتلى، وكلام يُقال لنوهم أنفسنا بأننا قد وضعنا النقاط على الحروف، لندرك بعد حين أننا لم نكن نمسك قلماً أصلاً لنضع تلك النقاط.
هي مسؤولية الجميع دون استثناء في تحويل الإبداع إلى مسؤولية والخروج من تصور أن ”الإبداع” هو ”المقبلات” في الوجبة وليس هو الوجبة الرئيسة.

من يجمع القطع المتناثرة؟
لا يُنكر القارئ لواقع الفن (المسرح، الأفلام القصيرة، الفيديو كليب، الفن بأنواعه) في المجتمع البحريني بأن الأخير يتميز بقدرته الملحوظة في ”هضم المتغيرات المتسارعة” كتقنية وأدوات. حيث إن ما ذكرناه من ”الانفجار المعلوماتي” يطل على الكثير من المجتمعات، ويبقى السؤال هو في كيفية الاستفادة منها.
وحديثي هنا هو عن فلان المبدع في التصميم، والذي يعيش عالمه الخاص عبر الإنترنت وبرامج التصميم التي تمثل امتداداً لشخصيته، وهو لا يُعير اهتماماً لما حوله من هوية أو تحديات. وحديثي أيضاً عن ذلك الكاتب المسرحي الذي يمتلك قوة قلم وخيال خصب وهو محاصر من قبل بعض واضعي الحجج الشرعية للحد من حركته، ليكون مُقعداً في النهاية دون حرية حركة أو حرية إبداع قلم. وحديثي عن المغرم بألعاب الكمبيوتر الذي يعرف التقنيات وتفاصيلها وهو قادر على الغوص في عالم الألعاب وتحويرها كما يشاء، وهو لا يبالي بما نقوله في هذا المؤتمر أو غيره. وحديثي عن ذلك المصور المبدع الذي يعيش عالمه الخاص من عدسات وأنواع الكاميرات والتقنيات الجديدة في التصوير، وقد يتخذها هواية أو تكون عمله اليومي، ومع ذلك تكون طاقته الإبداعية حكراً على عمله ونفسه فقط.
حديثي عن كل هؤلاء وغيرهم، ممن يمتلكون الإبداع والموهبة والطاقة، إلا أنها متفرقة كالجزر، ولا يجمعها هدف أو يوحدها حلم ومهمة، وبالتالي تكون تلك الطاقات كمثل كرات الطاقة المتناثرة، دون أن يكون بمقدور المجتمع توجيهها للحصول على الطاقة الكافية للتغيير، وذلك حسب منهجية ودعم مالي مدروس من أجل التغيير ومن أجل رسم ملامح جديدة لمجتمع محلي بات كحبات السبحة المتناثرة.
وللوصول إلى تلك الطاقات، لا بد من عرض القطع المتناثرة، والتي تمثل أساساً مهماً في معرفة القوى أولاً، وإزالة العقبات ثانياً، وتطويرها ثالثاً. فأين هي تلك القطع؟

«الحاجة أم الاختراع»
قد تكون الحاجة مادية كزيادة في الدخل أو حل لمشكلة تُعيق راحتك، وقد تكون الحاجة نفسية من أجل إرضاء الذات من ناحية معنوية، وقد تكون الحاجة متمثلة في إزالة ما يعكر صفو المجتمع وإقراره.
وبالتالي يكون الإبداع لازماً للإنسان في كل تحركاته، وليس ”زيادة” أو ”ترفاً” يتجمل به الإنسان. وما نعيشه من تقنية وتطوير في المجال المادي هو نتيجة حاجة قام برفعها الإبداع.
ومن الضروري مراجعة العقلية الحاصلة في مجتمعنا المحلي تجاه الإبداع في الفن، فهو ليس ”زينة” أو ”مضيعة وقت” كما يسميها البعض. فبوجود العقليات المثبطة، والتي تأتي من الشخص نفسه أو من الوالدين أو الأصدقاء أو حتى عالم الدين، فضلاً عن الدولة بمؤسساتها وخطابها، يتحول دافع الرضا الذاتي من الإبداع إلى إبداع من نوع آخر، إبداع سلبي في النقد والتحبيط والسوداوية. ليكون بمثابة ”الفيروس” الذي يصيب الأب فينهر ابنه عن العمل مع أصدقائه في مشروع إبداعي، وهو الفيروس الذي يصيب الأم لتضع على عيني ابنتها- كتلك الذي يضعونها على الحصان الذي يجر العربة- حجاباً، ولتقول لها ”ما شأنك وتلك الأنشطة؟ عليك أن تدرسي فقط”. وليس ببعض علماء الدين بمحصنين عن الإصابة بذلك الفيروس ليكون ”عقبة” في أنشطة يقوم بها البعض في المجتمع من أجل ترفيه مباح لإيصال رسالة مبدئية، وليكون هو ”الآمر الناهي” بعيداً عن القراءة المتأنية والواقعية لرأي الشرع الحنيف في مثل تلك الأمور. وهكذا ينتشر ”فيروس التحبيط” ليحد الإبداع من النمو، وليُبدله بنظرة تشاؤمية ساهمت فيها كل من الدولة والوالدين والأصدقاء ومؤسسات المجتمع وعالم الدين والمثقف-أو مدعيها- كل بنسبة معينة، لتتحول إلى عقلية سلبية لا تنتج وإذا أنتجت تم الحد من إنتاجها، وإذا أنتج غيرها انتقدت وثارت. وهكذا يتحول الإبداع من حل لحاجة إلى هم لا حاجة لنا فيه، وبالتالي يتحول المجتمع إلى ”مجتر” للأفكار والأشياء دون نتاج ذاتي أو تغيير في عملية الإنتاج الفنية، والتي تمثل إحدى أهم صور التغيير في المجتمع، عبر المسرح والفيلم واللباس والشعر والتصميم والإنترنت و… والقائمة لا تنتهي.
لذا، عندما يتحول تعاملنا مع الإبداع إلى كونه ”حاجة” ستتغير سلوكياتنا وتعاملنا مع أنفسنا والآخرين، ليكون الإبداع حلاً أساسياً لا هامشياً. هو حلٌ مادي وثقافي وفكري وديني وسياسي.
وبالتالي يتغير خطابنا وسلوكياتنا ومنهجيتنا في التفكير. إن ما نقوم به الآن هو مثل ذلك الحطاب الذي أنهكه قطع الأشجار، فرآه أحدهم ونصحه بأن يأخذ وقتاً في سن أدواته ليقطع أسرع وبراحة أكثر، لكن صاحبنا الحطاب رد كلام الرجل بأن ليس لدي وقت لأسن أدواتي، فذلك مضيعة للوقت.

فأيهما مضيعة للوقت؟
وعندما يتعامل المجتمع مع الإبداع كحاجة، سيكون الاهتمام أكثر، عبر تخصيص وقت ومال وجهد له، لأن المنتج الإبداعي في آخر المطاف من فنان أو مخرج، ومن مصور أو مصمم، أو من كاتب أو خبير إضاءة، سيكون له مردودٌ مالاً ووقتاً وجهداً يشكل المجتمع بسلوكيات جديدة وبتعامل جديد مع المتغيرات.
ما نريده كلمة مشجعة من عالم دين تعبر عن التزامه وانفتاحه في الوقت نفسه، وما نريده هو تفكير استثماري في الموارد البشرية المبدعة من قبل تاجر أو صاحب عمل أو وجيه، وما نريده هو دعم عملي من قبل مؤسسات المجتمع المدني، وما نريده قبل كل ذلك هو أن يؤمن المبدع بأن ما لديه أكثر من مجرد موهبة، هي مسؤولية يجب عليه أن يدرك أنها لا يمكن أن تتوقف بمجرد أن يسمع كلمة من يائس هنا أو من محبّط هناك، أو من تجاهل حكومي أو من تهميش مجتمعي. لأنه لا يمكن للإبداع أن ينمو إن لم تكن للنبتة قابلية للنمو أصلاً.
لقد حولت الحاجة العدسة الإيرانية إلى فن إنساني ملتزم وجعلها مدرسة عالمية في السينما، وحولت الحاجة شركات الرسوم الثري دي بماليزيا إلى فن إسلامي وجعلتها منتجة لأفلام الأنيميشن، وباتت تنافس كبرى الشركات العالمية في هذه الصناعة.

فأي حاجة نريد لنكون؟
من سيصنع الخبز؟
من الجيد أن ترفع راية تُعلن فيها عن اهتمامك الأولي بالخبز-أقصد الإبداع-، ولكن الأمر غير كافٍ. إذ من سيقوم بصناعة الخبز-الإبداع-؟ وعلينا هنا أن تأتي بالقطعة الثانية..
فبعد أن يتحول الإبداع إلى حاجة، لتكون الأخيرة صانعة له، علينا تحويل تلك الحاجة إلى الخطاب الذي يعيشه المجتمع، وذلك عبر التالي:

أولاً: تشجيع الكوادر الموهوبة بشقيها المُعلن والمخفي لضرورة إخراج نفسها من دائرة ”الخوف” أو ”العيش في جزيرتهم الخاصة”، دون النزول للمجتمع وتسخير إبداعهم لأجل رفع العديد من المشاكل والعقبات وإيجاد الحلول الإبداعية। عبر تشجيعهم مادياً ومعنوياً، وإفساح المجال لهم لتقديم إبداعهم بما يخدم المجتمع وقبله أنفسهم مادياً ومجتمعياً।

ثانياً: عندما يكون المخبز مغلقاً فلا فائدة في الخبز الموجود داخله، وكذا الأمر بالنسبة للمبدعين، فإن وُجودوا ينبغي أن يكونوا في مواقع التغيير، وأن لا يتم تحجيم تحركاتهم بـ”تابوات” يصنعها البعض، مرة بغطاء ديني وآخر بغطاء سياسي، وهكذا تتعدد الأغطية ليتم حجب ”المخبز” عن الناس। وهنا تحتاج شجاعة دينية من لدن العلماء ونزولهم من ”مكانتهم” إلى المبدعين الذين تمثل لهم موقف العالم لهم دعماً وقوة। وتحتاج شجاعة سياسية من لدن السياسيين عندما يتم توجيه الدفة للمبدعين لينتجوا।
ثالثاً: اقتناص المواهب الموجودة، والتي لها القابلية للاحتراف، وتطويرها لتكون منتجة مغيرة في المجتمع، ويمكن ذلك عبر ابتعاث موهوبين في مجال الإخراج التلفزيوني أو التصميم أو الرسم أو البرمجة، وغيرها من مجالات الفن والإعلام والإعلان المتعددة إلى أماكن ستزيد من رصيد إبداعهم، وبالتالي يمكن الحصول على مبدع محترف بعد أن كان مبدعاً هاوياً، فالأول يُنتج على نطاق ضيق وقد يكون على نطاق شخصي وينقصه الاحتراف، في حين ينتج الآخر على نطاق مجتمع وتكون نظرته أوسع. وشتان بين الاثنين.
رابعاً: تزويد المجتمع بمعاهد متخصصة في مجالات الإبداع المختلفة، وتغيير أسلوب البذل المجتمعي، والذي بات حكراً على اتجاهات عبادية بحتة، ولم يعِ بعد قيمة الإبداع في التغيير الإيجابي، والذي يمثل الترجمة الحقيقية للعبادة، وهي الخلافة في الأرض لإعمارها. فالدعم الحقيقي للإبداع لن يأتي من خلال ”تعليق” الحجج على الدولة وإن كانت ساحتها ليست ببريئة عن التقصير الكبير في هذا المجال. إلا أننا نؤمن بأن قدرة المجتمع على التغيير هي أكبر من قدرة الدولة. وما دام المجتمع لا يؤمن بأهمية الإبداع في الفن من جهة، وتتجاهل الدولة بطريقة أو بأخرى المبدعين من جهة أخرى، فسيكون نمط التصدي للأفكار الجديدة والغريبة عن المجتمع ضعيفاً، وبالتالي وإن كان اللوم جاهزاً والخطب العصماء معدة مسبقاً، عندها لن ينفع البكاء على اللبن المسكوب. ويمكن أن تكون المعاهد المذكورة متعاونة مع أخرى متخصصة خارج البلاد أو الاستعانة بالمحترفين في البلد، منها على سبيل المثال لا الحصر: في مجال الرسوم ثلاثية الأبعاد، التصميم المحترف، كتابة السيناريو، الإخراج السينمائي، تصميم الملابس، والقائمة تطول.
خامساً: تعزيز الاتجاه في الاستثمار البشري للأفراد المبدعين، حيث سيكون ذلك بمثابة التعاون الثنائي بين المستثمر ”جهة أو مؤسسة” والكادر المبدع، إذ يدعم المستثمر المبدع مادياً، ويقوم الأخير بتقديم إبداعه من أجل المستثمر ضمن اتفاقية لا يتم احتكار المبدع فيها، ولا يتم صرف مال المستثمر فيها دون عائد.
سادساً: القيام بخطوة تقاربية أكثر تقوم على مبدأ الحوار والتوجيه بدلاً من منطق الأمر والنهي، وتلك العلاقة تتمثل بين المبدعين في المجال الفني وعلماء الدين.
فلو وجد عذر يخرج من عالم الدين، فإن الحكم على الإبداع سيكون ”التحجيم” و”التهميش” إن لم تكن المواجهة والنقد اللاذع. لذا، لا بد من تقارب بين المبدع وعالم الدين. والتجربة السينمائية الإيرانية شاهدة على مدى التقارب الإيجابي في مجال السينما.

قبل أن تأكل الخبز. فكر قليلاً
إذا أردت أن تواجه مداً عاتياً، فهناك طريقتين لا ثالث لهما، إما بتحوير مسار المد أو التخفيف منه عبر بناء سدود أو حفر خنادق، وإما بتوظيف المد وتحويله إلى طاقة للاستفادة منه، وبالتالي تحويل ”التهديد” إلى ”طاقة” بشرط توافر الآليات والمعدات اللازمة لذلك. ؟؟وفيما يتعلق ببعض المبادرات الفردية أو من قبل جهات، والتي يمكن أن تزرع أو ترعى الإبداع بأشكاله المختلفة، فالأمر متعلق بتوفير ”العدة” اللازمة لذلك، وإلا فلا داعي للسؤال، وسيبقى حال الإبداع أمر فردي بحت لا يمكن له السير في المجتمع واستحصال الفائدة منه.
لذا لا بد من مراجعة جريئة لخطابنا المسيس والديني بما يتعلق بواقع الإبداع بعد مفهومه:
أولاً: لا يكفي طرح مشروع هنا ومشروع هناك تحت الإطار التثقيفي فحسب، فالبطن الجائع لا يهمه فكر، والعين التي ترى ”الزخارف” وحلو الحياة من على الشاشة، لا يهمها ما تقدمه إن لم يكن من القوة لتوقفه وتجعله يتفاعل مع ما تطرح। واعتقد أن ما يُطرح من مشاريع ما هي إلا بمثابة ”إكمال حجة نفسية” على الذات، بأنها قامت وفعلت ونظمت، هو تخدير موضعي وحلم مؤقت بدعوى ”تقديم البديل” و”المواجهة”، لا أكثر ولا أقل। وليس هذا بتقليل للجهود، فنحن نملك من الطاقات ما يجعلنا نؤسس لإبداع مُنتج وفاعل -إن أحسنا استخدام الأدوات المناسبة لذلك-। وعوداً إلى أحد ”أدوات العدّة” اللازمة للخطاب الإبداعي، وهو النظر إلى الإبداع كونه حاجة وليست زيادة। فليس وضع ”فعاليات ثقافية” بمشروع يدعم الإبداع، وليس وجود قنوات شيعية بالصورة المطروحة في أغلبها بمشروع يخدم الإبداع، وليس إنتاج مسرحيات أو أفلام قصيرة متفرقة هنا أو هناك بمشروع يخدم الإبداع، وليس إصدار مجلات ونشرات بمشروع يخدم الإبداع। فهي كلها جزر متفرقة أو ”فتات طعام” لا يُسمن ولا يغني من جوع। وإذا أردت الدليل فانظر إلى ما يشاهده الناس وما يلبسون وما يأكلون وما يسلكون، فإذا لم تستطع أن تصيغ سلوك الفرد، فما تقوم به إلا تقديم ”حبة بندول” لإرضاء ضميرك، وتعتقد بأنها ”إكمال حجة” على الآخر।
وإذا أردت العلاج، ففي دعوة نبينا المصطفى (ص) مرجعاً عملياً. إذ كانت دعوته ”ممنهجة” ولديها خطة زمنية موضوعة، وكذلك الأئمة (ع) من أهل بيت النبوة، لم تكن منهجيتهم في ”التنظير” والدعوة لمواجهة خطابات الطرف الآخر المشوه للإسلام بالأساليب التقليدية، بل كانت دعوتهم مخططة ومرسومة، وفي الإمامين الباقر والصادق (عليهما السلام) مثالان يستحقان الدراسة المعمقة لمعرفة آليات المواجهة وأساسياتها من منظور قرآني ونبوي. وبأساليب إبداعية جديدة. وقصة الشاعر دعبل الخزاعي مع الإمام الرضا (ع) بعد أن ألقى قصيدته المشهورة ”أفاطم لو خلت الحسين مجدلا” مثال واضح لتشجيع الإبداع وتأسيسه. حيث أهدى الإمام إليه رداءه ومبلغاً غير يسير من المال. ولم ذلك؟ لتشجيع الإعلام المبدع والملتزم في الوقت نفسه، إذ كان يكفي الإمام الدعاء له دون الجائزة التي منحها لدعبل.

ثانياً: بعد وضع المشروع والتزود من مصادره الطبيعية، لابد من تحويل تلك الطاقة إلى مفردات وسلوكيات يومية يتفاعل معها الفرد، فإذا أردت أن تحرق ورقة على سبيل المثال، لا بد من توافر (المادة القابلة للاشتعال (الوقود)، والحرارة، والهواء). ويتمثل الوقود في القابلية الموجودة في المجتمع من وجود مبدعين يمكنهم أن يؤثروا إن تمت المزاوجة مع المرجعية لفكرية للمجتمع، يمكنهم أن يحدثوا تغييراً إيجابياً في المجتمع.
فإذاٍ القابلية موجودة، وأما الحرارة فهي تأتي من المشاريع نفسها، إن كانت لها القوة الكافية للتفاعل مع الناس. وأما الهواء فيمكن القول بأنه الدعم بنوعيه المادي والاستراتيجي الذي يمد تلك الحرارة باستمرارها في المادة القابلة للاشتعال[1].

الخبز نعمة فلتشكر ربك
لم أشأ أن أكون واضعاً للحلول، لأنها ببساطة تأتي منك أنت المبدع ومنك أنت المبدعة، عندما تفكر وتسخر طاقتك الإبداعية لنفسك أولاً عبر تحصيل مردود مالي من إبداعك إن أمكن، وعبر توسيع دائرة نشاطك لتخدم وطنك وأهلك، وتتسع دائرة مسؤوليتك كلما كبر إبداعك، لتكون مخرجاً سينمائياً مثل ”محسن مخملباف أو ميل غيبسون”تحمل الرسالة وتنشرها حول العالم، ولتكون ممثلاً مثل ”دريد لحام” تترك بصمتك على سلوك الناس وأقوالهم، ولتكون المصمم مثل ”خالد المحرقي” الذي يُبهر الناظرين في فنه وإبداعه.
إن العائق الأول والأخير في المجال الفني في البحرين هو نحن، أنا وأنت قبل أن يكون العائق مادياً أو حكومياً، فالمال يأتي عندما يؤمن الناس بضرورة إنتاج فيلم سينمائي عالمي يحكي واقعة الطف، بمقدار الإيمان العميق الذي يدفعهم بسخاء للعطاء للمآتم. وهكذا تترابط الأمور ببعضها لتنتهي عندي وعندك، وهو مصداق واقعي للآية الكريمة ”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.

– بتصرف من مقال تم نشره في صحيفة الوقت وعلى موقع سعوديات.نت. يمكن الاطلاع على المقال بالكامل حول الغزو الثقافي على العنوان التالي:http://jaafarhamza.blogspot.com

– مختص في ثقافة الصورة والاقتصاد المعرفي

Leave a Reply