خربشة الجدران الإلكترونية

أسئلة في “خربشة” الجدران الإلكترونية

جعفر حمزة
هل تشكل المدونات الفضاء المسموح “الهايد بارك” الذي لا قانون فيه إلا غياب القانون والأعراف والدين وغياب كل شىء؟

تمثّل المدونات إحدى النوافذ لعالم لم نصحبه طويلاً في الزمن منذ ظهوره وهو عالم الإنترنت، حيث مثّل ثورة في صياغة العلاقة بين الفرد ونفسه وعلاقته مع الآخر، حالنا مثل ”أليس” التي دخلت “حفرة الأرنب” لتنتقل إلى عالم عجيب يغيب عنه القانون الفيزيائي والمجتمعي، وقبل الحديث عن “المدونات” وهي غرفة في مبنى عالم الإنترنت، لا بد من التطرق إلى المبنى نفسه، فثورة الاتصالات لم تبدأ حين اُخترع الهاتف، بل بدأت حين تم “خلق” وصناعة عالم خاص لكل فرد بضغطة زر، لينتقل من شعور إلى منطق ومن هوى إلى غريزة، وهكذا أصبح الإنسان في هذا العصر،متنقلاً من حال إلى حال، فكيف تتصور إفساح المجال لمجموعة كبيرة من الناس بدخول محل للملابس وأخذ ما يريدون دون مقابل ، ستكون الفوضى والهَوَس بأخذ كل ما تطاله اليد وحتى القدمين هي “الثيمة” المسيطرة في ذلك الوقت، وبعد فترة يتم الإعلان عن إفساح المجال لدخول محل أطعمة وأخذ ما يودون دون مقابل أيضاً، ستكون الفوضى بل وقد يصل الأمر إلى الشجار في كثير من الأحيان ويكون سيد الموقف، وتستمر الحكاية، والحال هو نفس الحال في عالم الإنترنت الآن، حيث تبقى أعصاب المتصفحين مشدودة ومترقبة لكل “عرض” جديد يسمح لهم بدخول هذا المحل أو ذاك وأخذ ما يريدون بالمجان.وتلك الحالة من “الإنتظار” و”الإندفاع” و”الصدام” و”الاستمتاع” ومن ثم تُعاد الكَرّة مرّة أخرى هي معادلة “الجذب” التي لا تتوقف في العالم الافتراضي. وتمثل المحلات التي ذكرناها مثالاً حالات مادية كالبضائع والخدمات وحالات فكرية كالعقائد والتوجهات والسلوك، لذا يكون مرتادوا الإنترنت في حالة “غازية” دائماً، أي أن ذرات “إثارتهم” لا تتوقف على الإطلاق، ولا يكون ذلك إلا من خلال “لهب” يضمن بقاء حالة المادة الموجودة عند الأفراد في وضع “مُثار” دائماً، نقصد بالمثار هنا هي أي حالة تترتب عليها علاقة تواصل مستمرة بين الفرد والإنترنت. وتمثل المدونات إحدى صور ذلك “اللهب” المتقد، فبالرغم من وجود مثلث الاشتعال وهو الوقود والحرارة والأكسجين، إلا أن ذلك المثلث في الإنترنت لا وجود له، فليس هناك قانون أصلاً. وما يُكسب المدونات حضورها هو خيار تغييب الكثير إن لم تمكن كل الأطر القانونية والعرفية والأخلاقية والدنيية إلخ منها . وهو ما يجعلها بمثابة “الهايد بارك” بل أكثر منه، فلا يجوز لك في “الهايد بارك” أن تشتم أو تتعرض للملكة، أما في المدونات بالإنترنت بصورة عامة، فليس هناك خط أحمر على الإطلاق، والفضاء مفتوح إلى أبعد الحدود، ونتيجة لذلك تظهر الكثير من الأفكار والسلوكيات فضلاً عن نمو العديد من المرجعيات الفكرية الغريبة -بقياس رأي الكاتب بالطبع-، وبعبارة أخرى فإن المدونات هي محلات مفتوحة على الهواء ، ومقياس ربحها هو مقدار ما تقدم للفرد من قناعة أو فكرة أو سلوك أو خاطرة، ولا مجال لتلك المحلات بالخسارة، فلا أجار ولا انتظار لبضاعة، والدعاية لها بالمجان -وقد أدركت شركات التصفح والبحث هذه الميزة فأخذت في تأجير الفضاءات الإنترنتية-، وهو ما يشجع أصحاب المحلات “المدونات” في خلق الكثير من التوجهات فضلاً عن كونها “مرآة” لا تعكس بالضرورة حقيقة صاحب المحل، بقدر ما عكس ما”يود” أن يكون عليه، وبالتالي فنحن نتعامل مع أطروحات متنوعة ومختلفة في مدونات لا يحكمها منطق بالضرورة، ومن هنا تكمن الصعوبة في التعامل مع المدونات بناءً على “منطق” أو “دين” أو… ولئن كانت المدونات للبعض تمثل “نافذة” شخصية للعالم، فإن البعض يجعلها نافذة من واقعه للعالم، وهو من أخطر المدونات وأشدها أثراً، لأنها ستكون نافذة في جدار ممنوع، وإذا رأيت جداراً كبيراً ولا نهاية له، وفيه فتحة صغيرة فإن الفضول يدفعك للنظر من خلاله، وخصوصاً إذا تناهى إلى سمعك أصوات من خلف ذلك الجدار. وهو بالفعل ما يُزعج السلطة وتستدعي قواتها ليس “لغلق” الفتحة، بل و”إبعاد” الناس عنها و”معاقبة” من فتحها. ومن الأمثلة في عالمنا العربي هو المدون “أحمد محسن” صاحب مدونة “فتح عينيك” الذي تم اعتقاله في مصر،بسبب كشفه لممارسات التعذيب الوحشية لوزارة الداخلية بمحافظة الفيوم، فبالرغم من غياب كل القوانين الفيزيائية من الزمان والمكان، والقوانين العرفية والدينية، إلا أنه ما زال هناك قانون لا يستطيع “مصادرة” المحل الإلكتروني لكنه بإمكانه أن “يُوقف” صاحبه.

-هل تشكل المدونات الجدران التي يمكن لأي أحد أن “يخربط” عليها دون أن تأتي قوات الشغب لمحوها؟ وما دلالات ذلك؟
“الخط” و”المساحة” هما الأداتان الأوليتان للفرد ليعبّر عن رأيه وتوجهاته “غضباً” “فرحاً” “كرهاً” والقائمة تطول.
وما انتشار المدونات في العالم العربي إلا نتاج الغياب الحقيقي للخط والمساحة المعبرة عن الفرد تارة أو نتيجة “تطلع” الفرد إلى ما هو أبعد من الموجود تارة أخرى،أو تعبيراً عن الذات وهي مسألة إنسانية عامة تجدها في العالم العربي أو الغربي على حد سواء. وعند الحديث عن الفضاء المحلي، فإننا نعتبر المدونات هي بمثابة الجدران التي تستدعي المدونين للكتابة أو الرسم أو التعليق عليها، فقد أصبحت هي الفضاء المُشاع والتي لا يحدها عدد الكلمات أو مقص الرقيب أو الإخراج الفني، وبذا تصبح المدونات “الجدران” هي الخيار الأنسب والأفضل لـ”قيس” ليكتب عليها عبارات الحب لليلى، أو يخط ثائر كلمات المقاومة والكرامة، أو يتلثّم طائفي ليذبح الوطن باسم الدين، وهكذا تصبح الجدران بين “عاشقة” و”ثائرة” و”طائفية”. لو أعطيت كل الحرية للصحافة لأن تكتب ما تشاء -على سبيل المثال- فإن الجدران “المدونات” ما زال الخيار المفضل، فالوقت والحدث والصياغة والصورة والتقديم كلها مُلك يمين من يحمل “الرش” أعني صاحب المدونة، ولا يمكن الاعتماد على قوات الشغب لمحو كل العبارات والرسوم، فالجدران لا تنتهي، ولا يمكن حراستها كلها، إذ تتطلب جيوش العالم لتحرس كل جدار لكي لا يُكتب عليه.

Leave a Reply