الرئيسية

  • من يضع الجرس أولاً؟ نظرية الارتباط العظيم، وصناعة العلامة

    قد يتذكّر البعض منّا تجربة العالم الروسي “إيفان بافلوف”، والذي أجرى سلسلة متواصلة من التجارب على الكلاب، إذ تمكّن من خلال تلك التجارب الوصول إلى استعراض مفاهيم أساسية لنظريته الخاصة بالتعزيز والانطفاء والتعميم والترابط والتعلم.

    فقد لاحظ أن الكلاب يسيل لعابها بمجرد اقترابه منها مع الطعام، حتى “رَبَطَ” تقديم الطعام بضرب الجرس، ووصلت الكلاب لمرحلة أن يسيل لعابها بمجرد سماعها لصوت الجرس وليس لرؤية الطعام حتى، وهو ما يُسمى بالاستجابة الشرطية. ومن القوانين التي أخرجها “بافلوف” من تجربته، هي قانون “التعميم”، أنه حينما يتم اشتراط الاستجابة لمثير معين فإن المثيرات الأخرى المشابهة للمثير الأصلي تصبح قادرة على استدعاء نفس الاستجابة.

    بعد أن يتعلم الكلب الاستجابة لقرع الجرس بإفراز اللعاب فإنه يستجيب بعد ذلك بإفراز اللعاب عند سماعه لأصوات مشابهة لصوت الجرس. وظاهرة التعميم نلاحظها كثيراً في سلوك الحيوان والإنسان. فالطفل الذي يخاف من حيوان معين، يستجيب بالخوف لحيوانات مشابهة لهذا النوع.

     

     

    رسختْ في ذاكرتي تلك التجربة عند سماعها أول مرة، وما زلت استدعيها بين وقت وآخر، إذ وجدت فيها سراً كبيراً لمن تعمّق فيها.

    ويمكن إسقاطها على مناطق ليست بالقليلة من حياتنا، في مواقفنا وآرائنا وتصوراتنا الذهنية والتي تشكل في الأخير قراراتنا، من اختيار نوع الحذاء الذي نرتديه مروراً بنوع القهوة ووصولاً لشراء سيارة، وقِسْ على ذلك ما تشاء من الأشياء، وذلك في الجانب المادي، فضلاً عن إسقاط نفس المفهوم من التجربة على مواقفنا الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية وغيرها.

    إن من أكثر الأدوات التي ابتكرها الإنسان خطورة، صناعة المفاهيم والعنونة “وضع عناوين على الأشياء المادية والمعنوية”، أو كما يحلو لي تسميتها ب

    Labeling .

    حيث يكون الإسقاط للتصور على كل مصداق بعد عملية الربط والتكرار والممارسة وبعدها يكون الاستخدام الجمعي لها.

    تلك الملازمة التي تتحول لمفهوم مُعاش، ولئن تم استخدامها في المجتمعات البشرية بأساليب متنوعة إلا أن بافلوف وضعها ضمن إطارها العلمي التحليلي، وهو ما دفع صنّاع القرار السياسي والاقتصادي وغيرهم للعمل على تثبيت المفاهيم كما يرغبون.

    وكان للأمر عظيم الأثر عند إدخال علم النفس في مجال التسويق، وما زال يلعب دوره بقوة في صناعة الصور الذهنية عند الجمهور، بهدف توجيه القوة الشرائية أو تشكيل عقل جمعي في اتجاه محدد، ويكفي للمتتبع أن يعرف كيف تم استخدام علم النفس التحليلي في تقديم صورة مغايرة للمرأة المدخنة في أمريكا لزيادة المبيعات، وتم تحويل الذهنية الرافضة إلى ذهنية قابلة ومشجعة. ونفس العملية عند الظهور الأول للدمية باربي وهي ترتدي البكيني المخطط بالأبيض والأسود وكمية الاستنكار المصاحبة لذلك الظهور، إلا أن التكرار والربط والقيمة، جعلا باربي ذات مهابة وأصبحت “مَثَلاً” يُقتدى به للفتيات.

    واعتبرُ هذه النظرية وما يشاكلها من مفاهيم سيكلوجية واحدة من أدوات أساسية واستراتيجية لرسم هوية العلامة وقيمتها عند الجمهور، إن تم توظيفها بشكل مدروس وصبر واستمرارية.

    إذ كيف يمكن لأصحاب العلامات مهما كان حجم مشروعهم توظيف نظرية بافلوف بطريقة فعالة لبناء حضور وربط شرطي خاص بهم وبعلامتهم التجارية؟

    إن وجود الصورة الذهنية للعلامة عند الجمهور أوبكلمة أخرى “السمعة”، وهي استدعاء قيمة أو تصور عند ذكر اسم معين أو مشاهدة شيء بصري من شعار أو منتج أو تجربة، ولا تكون إلا من خلال ربط شرطي بين القيمة والفعل، سواء هذا الفعل كان سلوكاً أو تصميماً أو منتجاً أو خدمة أو صوتاً أو رائحة وعدّد ما شئت، وهنا مربط الفرس في بناء العلامة.

    فعند العمل على الربط الشرطي بين قيمة معينة وعلامة، من خلال سلسلة إجراءات وممارسات مستلهمة من رؤية وثقافة وقيم وموجهة نحو جمهور مستهدف، فإننا “نلصق” القيمة محل العلامة، وتكون العلامة تجلياً للقيمة.

    “أبل” .. ما الاستدعاء الذي حضر بذهنك عند ذكرك لها؟

    “نايكي” .. ما الصورة الذهنية المرتبطة بهذا الاسم؟ أو حتى عندما ترى مجرد شعارهم بدون اسم، ما الذي يخطر بذهنك حينها؟

    تلك الصور الذهنية تعمل كبرى العلامات في العالم على تكوينها وربطها في ذهن الجمهور، لأجل سلوك مرتقب كلما استذكروا القيمة فكانت العلامة هي واجهة تلك القيمة لا سواها.

    إليك المثال التالي عن nike، وهذا ما تراه بموقعهم الإلكتروني:

     

     


    BRING INSPIRATION

    AND INNOVATION

    TO EVERY ATHLETE*

    IN THE WORLD

    *IF YOU HAVE A BODY, YOU ARE AN ATHLETE.

    ألم تلاحظ شيئاً في موقعهم وبهذه العبارة؟

    ليس هناك ذكر لمنتجهم في عبارتهم!

    بل تقديم لقيمهم ورسالتهم ومهمتهم، ويبدو ذلك جلياً من إخراج المحتوى الخاص بموقعهم الرسمي، لأنهم لا يبيعون أحذية رياضية فقط بل مكانتهم في صنع الفرق وتعزيز الطاقة الكامنة الموجودة عند كل شخص.

    والملفت في هامش العبارة التالية

    *IF YOU HAVE A BODY, YOU ARE AN ATHLETE.

    “ما دمت تملك جسداً، فأنت رياضي”، وهذا يعطي دعماً قوياً للذين فقدوا أطرافهم أو ممن بهم إعاقة جسدية، فتكون “نايكي” حاضرة عندهم.

    فكانت قيمها تمتد وتتوسع بعيداً عن العرق والدين واللغة، لتثبّت ذلك الربط بين اسم “نايكي” وكل تلك القيم المستدعاة عند ذكرها، فكان منها منتجات خاصة بالمسلمات المحجبات ممن يمارسن الرياضة.

    https://news.nike.com/news/nike-pro-hijab

    العملية برمتها معتمدة على تكوين قاعدة جاذبة للجمهور عبر ربط ثيم العلامة بمشاركات مع الجمهور المستهدف. ويعزز ذلك من خلال الابتكار وجعل منتجاتها تتميز بالاستدامة، عبر بناء فريق عالمي مبدع، وترك الأثر الإيجابي في المجتمعات محل عملنا وعيشنا واهتمامنا، فالرياضة للجميع، وهنا مربط الفرس التسويقي.

    لم يعد الأمر مقتصراً على بيعك لمنتج أو خدمة مع كل هذا التشبع والتنوع والخيارات في السوق في كل المجالات الاستهلاكية تقريباً، لذا لا بد من الخروج من المنتج إلى القيمة، حيث يذكر Marty Neumeier في كتابه “Brand Gap” في تسلسل زمني بسيط، بأن الناس كانت تشتري لحاجتها للمنتجات، وبعدها تحول الأمر بالبحث عن مزايا المنتج، ووصلنا إلى الشراء بسبب “القيمة والإنتماء”، ومع كثرة المنتجات لا بد من إيجاد القيمة التنافسية وربطها في ذهن الجمهور، حتى يكون فعلهم المتوقع عند تذكر القيمة، هو تذكر العلامة ومن ثم شرائها أو التوصية عليها.

     

    سواء كان الأمر مرتبطاً بقيمة البيع المتفردة Unique Selling Point أو المكانة Positioning أو بالمظلة الأعم وهو Brand، فإن كل ذلك متعلق بصورة جذرية بعملية صناعة الربط الشرطي لتكوين صورة ذهنية محددة يتم استدعائها حالما يكون هناك مثير خارجي، كالشعار أو رؤية المنتج أو سماع اسم العلامة، بل وصل الأمر إلى حد التجذّر الداخلي، فما إن نتذكر قيمة مجردة كالمرح حتى يكون الاستدعاء الأول كمصداق لها “كوكا كولا” على سبيل المثال لا الحصر.

    فكيف يتم الربط في عالم العلامات التجارية؟

    أول الأسئلة، ما الصورة الذهنية المطلوب أن تتكون عند الجمهور المستهدف عند استحضار العلامة التجارية؟

    وهذه خطوات تكوين الصورة الذهنية بالاستعانة بنظرية بافلوف للارتباط الشرطي:

    ١. Stereotype determination: تحديد الصورة الذهنية المثالية للعلامة عند الجمهور، وممكن تسميتها بالجمهور المثالي

    TIA)  The Ideal Audience)، وتعتبر خارطة طريقة مهمة لضبط الخطوات التالية.

    ٢. Value: ربط الصورة الذهنية بقيمة محددة والأمر له علاقة بتقديم المعنى أيضاً، فعند شرائي تيشيرت لنادي رياضي، فإن ذلك يعكس ما ابتغيه من معنى وقيمة خاصة بي.

     Appearance.٣

    ما الحضور البصري المُراد للعلامة القيام به، سواء في الهوية البصرية أو التغليف والإعلان؟

    وربط ذلك بالقيمة والصورة الذهنية المتوقعة عند الجمهور عند تفاعلها مع هذا التمثل البصري.

    Product/Service.٤

    التركيز على جودة الخدمة والمنتج، لأن ذلك من سيترك الانطباع الأول والمستديم عند استخدامه من الجمهور.

     Marketing.٥

    تقديم العلامة عبر التسويق والترويج لتتسع دائرة معرفة الناس بالعلامة

     Repetition.٦

    التكرار والاستمرار سيحجز مساحة في ذهن الجمهور، ويجعل من استدعاء القيمة بالعلامة أسهل وأسرع وأثبت.

    ما إن ترى شعار تفاحة مقضومة إلا واسترجعت علامة أبل بأبهتها كلها، والأمر سيان عند مشاهدة علامة نايكي وقس على ذلك.

    وتعتمد بعض العلامات على مهمة تكثيف الحضور والربط، بالرغم من ثبات نوع المنتج دون جديد فيه، كما نرى في كوكا كولا مثلاً، فلم تستمر كوكا كولا بالتسويق إن كانت عَلَمَاً ؟

    لأنها تعزز العلاقة بين البراند وقيمة معينة، ولا تريد أن يضعف الرابط، لذا تواصل الاستمرار في التسويق والعمل على نفس الموجة، حتى تصل لمرحلة معادلة التطابق، فعند استدعاء قيمة معينة فلا يكون لها مثال أبرز وأقوى من ذلك البراند دون سواه.

    فعند ذكرنا لمشاركة اللحظات السعيدة، تكون كوكا كولا، وعند رغبتنا في إبراز إبداعنا وأننا من مجتمع مبدع ومبتكر، سيكون الاستدعاء لبراند أبل وهكذا …

     ونظرية الربط تسري في كل مفاصل حياتنا صغيرها وكبيرها، من بينها تصورنا لعناوين الجمال والتقدم والعدالة والحرية وغيرها 

     

    وهناك من يقوم باختطاف الربط والحضور، ولا أدل على ذلك من أمثلة ثلاث نذكرها مثلاً لا حصراً:

    ١. علامة النازية والتي كانت مجلبة للحظ وتم استخدامها في أوروبا وأمريكا كمدعاة لجلب الحظ، إلا أن ذلك توقف بعد

    اختطاف الربط وإعادة تقديمه من قبل هتلر، فأصبح مرتبطاً بالنازية لا سواها، وعلى إثر ذلك لم يعد له مكان للاستخدام كما كان.

    ٢. راية سوداء بها الشهادتين، قد شاهدناها ربما في أفلام دينية قديمة ولها ربطها بالدين الإسلامي بإيجابية إلا أن الأمر تحول إلى وحشية الربط بين هكذا راية وبين بربرية حركة داعش الإرهابية، فما إن تلمح راية سوداء وبها الشهادتين بخط معين حتى تستدعي تنظيم الدولة الإسلامية المسماة بداعش.

    ٣. علم المثليين، والذي ابتكره الفنان والناشط الأمريكي المثلي جيلبر بيكرعلم قوس قزح في عام 1978 باستخدام ثمانية ألوان. وتغير بعد ذلك لستة ألوان، ليصبح الرمز الأكثر ارتباطا بالمثليين والمتحولين جنسياً ومزدوجي الجنس “ال جي بي تي”. فما كان بالطبيعة ويرمز للجمال بعد هطول المطر، أصبح رمزاً للمثليين والشواذ جنسياً!

    ذلك الاختطاف أخذ مكانته وأثره بعد عملية الربط والتكرار والقيمة، فالصليب المعقوف النازي وراية الشهادتين السوداء لداعش وعلم قوس قزح للمثليين، كلها معتمدة على التزميز المبني على نظرية الربط والتكرار والقيمة.

    وما سردنا لأمثلة “الاختطاف” إلا تبيان لحركة هذه النظرية وأثرها الكبير في عملية الترميز، لكونها تختزل الرسالة والقيم والمجتمع المنضوي تحتها، سواء كان الأمر تحت راية دينية مبتدعة كداعش أو حركة شاذة كالمثليين أو حماس وتأييد رياضي لنادي برشلونة أو ريال مدريد أو شعور بتميز بسبب ارتدائك لساعة أبل وقس على ذلك ما تشاء.

     

     

     


    قوة العلامة وحضورها معتمد على الصورة الذهنية الحاضرة عند الجمهور المستهدف، وبذلك الربط يكون التفاعل ويكون استدعاء الفعل، من شراء أو توصية أو حتى دفاع عن علامة.

    إن إدراكنا لكمية التزاحم الموجود في السوق، يدفع أصحاب العلامات، سواء كانوا أفراداً أو مؤسسات أو حتى حكومات، للعمل على تأصيل سيكلوجي اجتماعي تسويقي يلزمه التأمل والتأني والصبر والعمل بهدوء حتى يتم تثبيت القيمة مع العلامة.

    قد يكون بمقدور مشروع ما  أن يروج ويسوق ويستقطب عدداً من الجمهور بفعل “المُنبهات والدوافع” إلا أن ذلك لا يبني علامة وربط مستدامة، حتى يتحول المشروع إلى علامة، وقد تتحول العلامة إلى أيقونة، وتلك منزلة أكبر.

    ما نحتاجه هو أن نتعامل مع العلامة والجمهور بشكل أعمق ليكون الربط بينهما مبني على قيم ومعنى وحضور أكثر من كونه منتج أو خدمة يتم تقديمهما، وهنا يكمن الفرق بين عقلية “الدكان” وعقلية “العلامة”.

    فمن يضع الجرس أولاً، يكسب الربط دائماً إذا ما استمر.

  • “أوتاكو” .. صناعة الشغف المُنتج!


    جعفر حمزة


    كانت تستهويني الثقافة اليابانية وما زالت، وكحال جيل الثمانينات، كانت الرسوم الكرتونية هي ما تُبهرنا وتأخذنا من مكاننا إلى عالمها، ولم يكن الزمن كفيلاً بأن يخبو أُوار نار ذلك العشق لتلك الرسوم، بحكاياتها ودقتها وعمقها وبساطتها، ومن الأمور التي شدّت انتباهي عند مشاهدتي لعدد ليس باليسير من المسلسلات أو أفلام الأنيمي اليابانية هو كمية الدقة ومراعاة التفاصيل عند عرض مشهد لدكان أو محل أو في شركة، وكيف يكون تعامل الفرد مع محيط العمل الخاص به، من ترتيب ودقة، بدء من الاهتمام بالبضاعة وصولاً إلى تغليفها وتقديمها للزبون والإنحناء له حتى يبتعد عن المحل، وليس بمجرد خروج الزبون منه!

    فظننتُ الأمر مبالغاً فيه، إلا أن كثرة الشواهد في تلك المسلسلات والأفلام صنعت صورة نمطية في ذهني عززّها فعلاً ما وقعت عليه من أكثر من مصدر، بأن اليابانيون لديهم ذلك الاهتمام والدقة في القيام بأمورعملهم، حتى وإن بدا بسيطاً، من تنظيف الصفوف في المدارس، إلى بيع السكاكر في دكان صغير بقرية.

    وهذا ما يسمونه بـ Gambaru 頑張る، وهو الاهتمام بإنهاء العمل وعدم التوقف حتى بلوغ غايته. وهو استمرار الجهود برغم العقبات، حتى لو لم تنجح، وهذا مفهوم مهم جداً في اليابان، بل يُعتبر جزء لا يتجزأ من ثقافتهم وهويتهم.

    بذلك المفهوم يحارب اليابانيون لحظات عدم حبهم لعملهم، فليس كل ياباني محب لعمله طبعاً، لكن هذا المفهوم المتجذر في ثقافتهم، أعان على تخطّي ذلك، فالمهم أن تبذل كل ما بوسعك وباستمرار في عملك، سواء كنت رئيساً تنفيذياً أو حارس أمن. كل ما عليهم فعله هو ترجمة Gambaru في عملك. 

    ولا غرو إن بدت لنا اليابان مثل كوكب له طبيعته المختلفة عن بقية الشعوب.

    وهذا يمثل الحد الأدنى من علاقتهم بالعمل، وهو مراعاة الدقة والاهتمام بالتفاصيل فيه، وإن كان مسحاً للنوافذ فقط.

    فكيف بنا الحال إذا تحدثنا عن مفهوم يتجاوز ذلك بكثير وهو أوتاكو Otaku オタク والذي يعني الشغف بشيء ما لدرجة الهوس، وإن كانت الكلمة مرتبطة في جذرها بالهوس الخاص بالمانجا “الرسوم الكرتونية اليابانية” وجمع متعلقاتها والتمثّل بها، وكل شيء خاص بها، إلا أن هذه الكلمة تم استخدامها أيضاً بمعناها الأعم، وخرجت من مصداقها الأول لمصاديق أخرى معنية بالهوس والشغف في العمل. بل أن الكلمة دخلت في اللغة الإنجليزية.

    فما أهمية أن يكون لموظفي شركة أو مؤسسة هذا الأوتاكو؟

    عندما زار الرئيس الأمريكي السابق جون كيندي وكالة ناسا سنة 1961، سأل الحارس هناك: ما وظيفتك؟ فرد عليه الحارس: وظيفتي إيصال الإنسان للقمر!

    ذلك الرد ينم عن تشرّب هذا الحارس لهدفية ما هو مرتبط به “ناسا”، وما تود الوصول إليه. 

    تلك العقلية هي التي تحقق الرؤية الجمعية المشتركة، وتجعل من كل فرد سفيراً فاعلاً مهما كان منصبه ومهمته للشركة التي يعمل فيها، فلا غرو إن قال “ريتشارد برانسون”، بأن العميل الأول الذي علينا الاهتمام به، هو الموظف.

    فعندما “يحب” الموظف عمله، لن يقتصر على “أداء واجبه” فقط بل سيتقن في الأداء Gambaru. وعندما يشعر الموظف بأنه ليس “رقماً” في مؤسسته وإنما “وتد” فيها، سيدخل في مرحلة Otaku وهو الشغف الشديد بعمله.


    إن وجود الأوتاكو بأي مكان، هو بمثابة وجود تيار كهربائي كبير، يسري في جسد وروح الموظف، لتنتقل عبر الخدمات والمنتجات التي يقدمها للجمهور، وذلك عبر طريقة الرد على الهاتف أو وضع البضاعة أو طريقة الاستقبال أو التعامل والعناية بالزبون بكل تفاصيل طلبه.

    ذلك الشغف العفوي سيلقي بظلاله على تقديم أفضل الممارسات داخل المؤسسة وخارجها على حد سواء، ولا يمكن الحصول على هذا الإكسير في العمل إلا بوجود مُسبقات خماسية لا بد منها، وهي:

    1. Cause معرفة الهدف

    2. Clarity الوضوح في التقديم والتواصل 

    3. Consistency الاتساق في العمل والاستدامة

    4. Culture توليد ثقافة داخلية مُعاشة، تنعكس على الخارج بشكل آلي

    5. Community إنشاء مجتمع، وهو ما يجعل الموظف كما الجمهور مدافعاً عن البراند، وهي آخر مرحلة من قُمع التسويق marketing funnel 


    ويبدو أن الأوتاكو، لم يعد خياراً  لتلك الشركات او الجهات التي تود أن تترك بصمتها في حياة جمهورها المستهدف، لا بكونها تبيع منتجاً أو خدمة فقط، بل لكونها تشمل قيمة مضافة ومضرب مثل.


    فذلك سيجعل نسيجها الداخلي أكثر ثقة وتماسكاً وحضوراً، وهو رأس مال مهم للمرور عند الأزمات.

    فما مر به العالم في جائحة كورونا أعاد النظر لمفاهيم الفردانية ومركزية الفرد، ليكون للعمل الجماعي وكل المفاهيم المرتبطة المساندة في تعزيز الحضور الثقافي للبراند حاضرة ومطروحة على الطاولة للمعاينة، ومن بينها مفهوم الأوتاكو.


    فالعاشق المهووس دافعه لذلك الارتباط هو الحب والعلاقة القوية مع ما يعشق “الشركة”، وبالتالي لا يضع الاحتمالات الرياضية البحتة نصب عينيه، وفي ذلك مصدر قوة للشركة/البراند، لأنها تريد فرداً من عائلتها يكون معها عند الشدة كما في أوقات الرخاء طبعاً، من ناحية المكافأة والتقدير والتشجيع والدعم.

    وكما يقول الشاعر”وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ · وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا”


    فالعاشق يرى صور محبوبه أينما ولى وجهه، فهل يا ترى نحن في عشق وشغف بالعمل؟ أو أننا حصرنا الأمر بالزمكان (عدد ساعات عمل محددة ومكان محدد للعمل)، وعند خروجنا من ذلك الوقت والمكان، تنقطع العلاقة معه؟

    هناك فرق بين من يعشق ومن يكون ترساً في شركة، فالأول يرى الأمر حبًا وعطاء وتحدياً برغم كل الصعوبات وهذا طبيعي أن يكون في كل عمل، والآخر يراه تأدية لواجب ليس إلا في حده الأدنى على الأقل، للحصول على الراتب.


    طبعاً لا يكون “الأوتاكو” مكتملاً إلا بثنائية متوقعة بين الشركة والموظف، فالتقدير والاهتمام والتشجيع والدعم والنقد البناء ووضوح الرؤية ووجود روح قيادية بالمؤسسة، تهيأ الأرضية بلا ريب لوجود الأوتاكو لكن لا تضمن نموّه، فهو في الأخير شأن ذاتي ينبع من داخل الموظف، فالعاشق لا يتمرّن على عشقه، بل يعطي دون حساب.

    أتتخيل أن تعمل لأشهر معدودة دون مرتّب وتصبر على ذلك بسبب عشقك لعملك أو لقائدك؟

    نعم هذا ما كان بالعمل مع المبدع القائد المرحوم موسى العالي، والذي عملتُ معه لأشهر عديدة دون مرتب، فقط لشغفي بالعمل ولإيماني بالهدف، وبسبب وجود قائد مُلهم مثله. طبعاً كانت الظروف المالية بسبب ملّاك الشركة، في حين كان موسى مديراً لها.

    هذه صورة في قبال صور شتى نعيشها ونراها ونسمعها وتصلنا لبيئات عمل تشربّت الاتكالية والمحسوبية والفساد والطائفية والاستغلال، وغيرها من مُدمرات العمل المؤسساتي الصحي الأساسي، فكيف بما هو أكثر من ذلك، وهو مدار حديثنا؟


    إنّ أكثر ما لدينا هو تشغيل تروس، وليس استثمار رؤوس في شركاتنا ومؤسساتنا وجهاتنا بكل صفاتها الاعتبارية.

    نعم لدينا شيء ياباني حتماً وهو Muda  無駄، بمعنى الهدر في الطاقات والإمكانيات، على الأقل لدينا مصطلح ياباني مناسب لبعض ما لدينا إن لم يكن كثيره.


    فالأوتاكو هو بذرة الإتقان وهو لدينا صورة عاشق في نصوصنا الدينية، ففي الحديث:

    إن الله يحب إذا عمل أحداً منكم عملاً أن يُتقنه”، فتم ربط حب الله لعبده إن أتقن الأخير عمله، وأي عشق أكبر من هذا؟

    وهنا الفرق بين أن يكون بمؤسستك رأس عاشق أو ترس موظف.

    فالأوتاكو لها القدرة أن تعزز ثنائية الحضور للبراند داخل المؤسسة بين منتسبيها وخارجها بين جمهورها، إن تم فهمها وتوليدها بشكل صحيح ومتابعتها كأولوية، لأن أثرها لا يقتصر على الإنجاز والابتكار فقط، وإنما يمتد للصبر والدعم والنفس الطويل، وبهكذا تُبنى الشركات ذات الأثر العميق.