الغداء مع الأنبياء

الغداء مع الأنبياء”
الذبح الحلال والتصفية المقدسة
جعفر حمزة


يتم قطع رقابهم، وتُرمى أجسادهم في المزابل أو في الأنهار، وقد يكون “العرض” المقدم جماعياً، فيتم حصد أرواحهم بالجملة عبر سيارة مفخخة يقودها “استشهادي” –أو هكذا يسمون أنفسهم- آثر إلا أن “يتغدى” مع الرسول الأكرم )ص(، فيُقدم عليه واضعاً بين يديه “قرابين” من شيوخ ونساء وأطفال “عربون” محبة و”تذكرة” مختومة بدم الأبرياء لدخول الجنة بلا حساب ولا كتاب!

وكلما قتلت منهم أكثر كان نصيبك من الحسنات وجمع الدرجات أكبر، ويكأنها لعبة “ماريو” حيث يجهد في جمع النقاط من مكان إلى آخر، وأفضل منطقة يستطيع “ماريو” المجاهد أن يكون فيها، تلك التي تضم “أشياءً” لا تنتمي إليه فكراً ومنهجاً وعقيدة، وبالتالي تُصبح عملية “الإفناء” مطلوبة بل وواجبة، فأولئك مثل “الجراثيم” التي لا بد من القضاء عليها والتخلص منها، لما تمثله من “خطر” يهدد بيضة الإسلام وقوته، فهل يؤنبك ضميرك عندما تمسح “البلاط” بالمنظف؟!

لم تكن تلك القراءة “السوداوية” إلا نتيجة للصور اليومية ووقوفي على سواحل منتديات ومواقع تضع على واجهة “محلاتها” الفكرية مسميات قرآنية، لساعة أو أقل لأقرأ وأشاهد واستنتج تلك الصور “المقدسة” في نظر أولئك “اللافظون” و”القاتلون” للآخر في عنوانه الإنساني والإسلامي.

فهل يشكل الإختلاف في العقيدة والفكر “إجازة شرعية” لإعمال “الذبح الحلال” في العباد بل وذبح الأوطان؟
وللإجابة على هذا السؤال “الدموي” لا بد من قراءة تفكك شفرات تلك “الإجازة الشرعية” لنعرف عن أي “شرعية ” نتحدث وعن أي “حلال” نتناول.

لقد كان السيناريو الأول والذي تحدث عنه التاريخ وذكره القرآن الكريم في العديد من سوره وآياته حول دول وحكومات وممالك أعملت الذبح والقتل والحرق في أقوام لم يكن لهم من ذنب سوى “اتباعهم” للأنبياء و”إيمانهم” برسالاتهم.
فمن قصة أصحاب الأخدود إلى الويلات التي ساقها فرعون موسى على اليهود، فضلاً عن التنكيل والصلب لاتباع السيد المسيح)ع( ومروراً بقتل وتعذيب وتهجير المسلمين الأوائل في بداية الدعوة الإسلامية.

وتنقلب الآية بعدئذ ليكون السيناريو الثاني هو تحول الدين من خلال مفهوم “المتمصلحين” من رسالة سلام ورقي بالإنسان إلى أداة قتل جماعية و”محراث” للبشر من أجل المصلحة.
لقد تحول الدين في بعض سيره من “واهب” الروح للمجتمعات إلى “آخذ” لها، ويشكل هذا التحول في العلاقة بالدين مرحلة مهمة تستدعي التأمل والدراسة، وإن لم تأخذ نصيبها من البحث بدقة أكبر وعرض تفصيلي أوسع.

وهذا التحول الغريب يذكرني برواية الكاتب الإنكليزي “روبير لوي ستيفنسون ” الذي تناول الإزدواجية الإنسانية عندما يذكر تحول الدكتور “جيكل” الطيب في النهار إلى المستر “هايد” الشرير في الليل.
ولم يكن التحول إلا نتيجة توظيف النص المقدس تأويلاً وتحويلاً من أجل الظفر بالقوة، سواء كانت سياسية أو دينية، وبدلاً من قراءة ما بين السطور للنصوص الدينية كانت القراءة لسطور النصوص نفسها، وبين تلك القرائتين مساحة شاسعة بين مد اليد للآخر إلى قطع رقبته.
وقد عمل اليهود على القراءة “المصلحية”، إذ تبينها الآية الكريمة التالية “قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا”.
وتصل القراءة إلى حد يكون الآخر ليس في موضع خلاف فحسب، بل في موضع وجوب “القضاء” عليه، لما يمثله من “خطر” وتهديد للدين –بحسب مفهوم أصحاب القراءة الناقصة-، وقد كان الخوارج من أوضح الأمثلة على القراءة الناقصة للنصوص الدينية، حتى شهروا السيوف في وجه الخليفة الشرعي آنذاك، وهو الإمام علي بن أبي طالب)ع(، وأحدثوا في خلق الله ما لم يحدثه من كان خارج ملة الإسلام، حيث نهبوا الناس وقتلوهم، وبقروا بطون النساء الحوامل، لا لشيء سوى أن “الضحايا” ليسوا على النهج الذي تبنوه الخوارج.

ولم يكن قطع الرقاب وإعمال القتل في المخالفين للفكر والمذهب هي الصورة الأبرز لمفهوم “التكفير” و”التطرف” فقط، فهناك “الإقصاء” و”التهميش” فضلاً عن تقديم النصوص الدينية بتأويلاتها الموجهة ضد جماعة أو أصحاب مذهب، والتي تمثل “قميص عثمان”، والذي يستدعي “الثأر” و”رفع العقيرة” و”شحذ الهمم” لاسترجاع الإسلام الأصيل من خلال “الجهاد” لـ”حصد” أرواح “أعداء الإسلام” ومدعيه.

وتمثل “الطائفية” بجرعاتها المختلفة من السلطة والمجتمع “فرزاً” للأفراد لوضعهم في “كانتونات” ملونة تمهيداً للذبح الجسدي والاجتماعي، فلا فرق بين “إزهاق الأرواح” على الهوية، وبين “هدر الفرص وغياب العدالة” على الهوية، فكلاهما يُفضيان إلى إخلال اجتماعي وعدم استقرار للمجتمع والدولة على حد سواء.

ولئن كانت الطوائف والمذاهب تعمل بمثابة “التروس” في المجتمع، والتعايش يمثل “الحزام” الرابط بينهم، للقيام بتنمية المجتمع، فإن الفكر الإقصائي، سواء كان “التكفيري” أو “الطائفي” يمثل السكين التي تقطع ذلك “الحزام” ويجعل من تلك “التروس” تدور حول نفسها بلا فائدة.

وبذا يتساوى “التكفير” و”الطائفية” في النتيجة، وإن كات الأولى إحدى صور الثانية، والثانية تمهيداً للقيام بالأولى.

ولا يمكن غض النظر عن كل رسائل الطائفية والتي تعززها السلطة من جهة والقوى المجتمعية من جهة أخرى، لنصل إلى مرحلة “الفرز المذهبي” والنظر للآخر بأنه “آخر منبوذ”، لأنه ببساطة لا يتوافق مع الرؤية “الإسلامية الصحيحة”، وبالتالي تكون عملية الإقصاء لأصحاب المذاهب والمدارس الفكرية الأخرى فضلاً عن التهميش مسألة طبيعية وقد تصل إلى مرحلة تقديمهم الآخر كتذكرة للظفر بـ”غداء” مع الرسول الاكرم)ص(.

ويبقى السؤال حول الآلية التي يمكن من خلالها وضع النص الديني بعيداً عن الطريقة اليهودية “المقرطسة” –أي جعله قراطيس-، والعمل على تجفيف روافد خوارج العصر التكفيري فكراً وممارسة وتمويلاً، ويتأتي ذلك من خلال تكاتف السلطة الحاكمة في أي دولة مع أطياف المجتمع المختلفة، فضلاً عن وجوب محاربة الخطاب الطائفي الممهد بصورة أو بأخرى للأفكار المتطرفة.

ونبتعد بعد كل ذلك عن أي حديث للغداء مع الرسول الأكرم)ص(، والذي مثل عمق الرحمة السماوية على الأرض، ليس للمسلم فحسب، بل تعداه لكل الإنسانية، بل ولكل كائن حي على هذه الأرض، ويختصر الآخرون الرسول الأكرم في إقصاءهم للمخالفين معهم في الفكر والمذهب.

Leave a Reply